تفيد نظرية العودة الأبدية بان الكون وكل الوجود والطاقة كان في حالة تكرار، وسوف يستمر بالتكرار، بشكل مشابه لذاته، وبعدد لا متناهي من المرات وعبر زمان ومكان لا متناهيين. المنطلق الاساسي للنظرية يبدأ من الافتراض بان إحتمال ان يأتي عالم الى الوجود تماما مثلما هو...
تفيد نظرية العودة الأبدية بان الكون وكل الوجود والطاقة كان في حالة تكرار، وسوف يستمر بالتكرار، بشكل مشابه لذاته، وبعدد لا متناهي من المرات وعبر زمان ومكان لا متناهيين.
المنطلق الاساسي للنظرية يبدأ من الافتراض بان إحتمال ان يأتي عالم الى الوجود تماما مثلما هو عالمنا الآن هو احتمال لا يمكن ان يكون صفراً. اذا كان المكان والزمان غير متناهيين، يتبع ذلك منطقيا ان وجودنا يجب ان يتكرر بعدد لا متناهي من المرات.
في عام 1871، وبالاستناد الى فيزياء نيوتن وحيث المكان والزمان غير متناهيين، ادّعى Louis Auguste Blanqui العودة الابدية كيقين رياضي. فكرة العود الابدي هذه تعتبر من الافكار الاساسية في كتابات نيتشة. ظهرت هذه الفكرة في عدد من أعماله خاصة (العلم المرح) ص285، 341 وفي (هكذا تحدّث زرادشت). لكن العلاج التام للموضوع ظهر في عمل بعنوان (ملاحظات حول العودة الابدية) وهو العمل الذي نُشر عام 2007 الى جانب النسخة الخاصة بكيركيجارد حول العودة الابدية. يلخّص نيتشه افكاره بايجاز عندما يخاطب القارئ: "كل شيء قد عاد. النجم اللامع في السماء، والعنكبوت، وافكارك في هذه اللحظة، وهذه الفكرة الاخيرة لي بان كل الاشياء سوف تعود". هو ايضا يعبّر عن فكرته بشكل مطوّل عندما يقول للقارئ:
"مهما كان الذي اقابله هنا لأول مرة، غريبا محبوبا، امتّع نفسي بهذه الساعة السعيدة من الهدوء حولي، وفوقي، ودعني اخبرك شيء ما عن الفكرة التي سطعت فجأة أمامي كنجمة تلقي بشعاعها عليك وعلى كل شخص آخر، كما هي طبيعة الضوء. زميلي الانسان، حياتك كلها تشبه ساعة رملية، دائما ترتد وترتد مرة اخرى الى الأبد، سيمضي وقت طويل حتى تعود جميع تلك الظروف التي تطوّرت انت منها في عجلة العملية الكونية. حينئذ كل ألم وكل سعادة، كل صديق وكل عدو، كل أمل وكل جهد، كل عشبة وكل شعاع من الشمس، ونسيج كل الاشياء التي تشكّل حياتك سوف تجدها مرة اخرى. هذا الخاتم الذي انت فيه ليس الا ذرة ستبقى تشع حيّة الى الأبد. وفي كل واحدة من هذه الحلقات من حياة الانسان ستكون هناك لحظة، يتصور فيها انسان لأول مرة ومن ثم آخرون، الفكرة العظيمة بالتكرار الأبدي لكل الاشياء".
يؤكد Walter Kaufmann ان نيتشة ربما وجد فكرة العود الابدي في أعمال Heinrich Heine الذي كتب:
(الزمن غير محدود، لكن الاشياء والاجسام المادية في الزمن هي محدودة. هي في الحقيقة تتشتت الى اجسام صغيرة جدا او ذرات، لكن هذه الذرات لها عددها المحدود، وعدد الصور والتكوينات ذاتها التي تشكلت منها هو ايضا محدّد. الآن، وبعد ان يمر وقت طويل، طبقا للقوانين الازلية التي تحكم مكونات هذه اللعبة الابدية من التكرار، فان جميع التكوينات التي كانت موجودة سلفا على هذه الارض يجب ان تلتقي، تنجذب، تتصادم، وتفسد بعضها البعض مرة اخرى.)
غير ان التعامل الكامل مع فكرة العودة الابدية عرضه نيتشة في كتابه (العلم المرح، 1882):
"ماذا لو في يوم او ليلة وانت في وحدتك يقول لك كائن اسطوري مختبئ خلفك: "هذه الحياة كما عشتها وتعيشها الآن، عليك ان تعيشها مرة اخرى وبعدد لا متناهي من المرات، وسوف لن يكون هناك شيء جديد فيها، بل ان كل ألم وكل متعة وكل فكرة وكل شيء صغير او كبير في حياتك سيعود لك في نفس التعاقب والتتابع، ونفس الشيء بالنسبة لهذا العنكبوت وهذا ضوء القمر بين الاشجار، وكذلك بالنسبة لهذه اللحظة ولذاتي انا ايضا. ساعة الوجود الابدية ستعود مرة ثانية وثانية، وانت معها كذرة غبار.
هل سترمي نفسك ارضاً وتلعن الشيطان الذي تحدّث لك بهذا؟
ان نيتشة لم يخترع فكرة العود الأبدي. بل ان فكرة الحياة الدائرية، وان الموت يتبعه ولادة جديدة، وُجدت في العالم القديم ليس فقط لدى فلاسفة الشرق وانما ايضا لدى المفكرين الاغريق مثل Empedocles والرواقيين. تجدر الاشارة ان هناك اختلافان هامان في عرض نيتشة للفكرة. في المكان الاول، هو اشار الى ان كل عودة للتاريخ ستكون متشابهة في جميع الجوانب نزولا الى اصغر التفاصيل. حياتك لن تتغير ابدا. وهكذا نيتشة نفسه، الذي امتلك حياة غير سعيدة، مليئة بالمعاناة، شهد فيها موت ابيه واخيه عندما كان طفلا صغيرا، مرضه المزمن، آلام الصدر، الصداع النصفي، الأرق، حبه الفاشل، ضعف بصره، فقره ونقص المكانة، وفي النهاية انحداره نحو الجنون، كل ذلك سيحدث له مرة اخرى واخرى الى الابد.
وفي المكان الثاني، في أعماله المنشورة لم يطور نيتشة نظرية كادّعاء واقعي حول الكيفية التي كانت عليها الاشياء حقا. ولكن طبقا لـ Kevin Hil الناشر والمترجم لـ (العلم المرح)، تشير البيانات في المذكرات الشخصية لنيتشة الى انه بالفعل اعتقد ان الفكرة حقيقية مع صعوبة ذكر الدليل. لأنه سيكون من المستحيل اختبار الادّعاء باستخدام الوسائل العلمية طالما يجب على المرء ان يكون خارج الزمن لكي يسجّل الملاحظات الضرورية. ولكن لا يجب علينا اتّباع المذكرات الخاصة بنيتشة. سيكون من المفيد التفكير بالعود الابدي كتجربة فكرية thought experiment لكي نقرر كيف يكون رد فعل المرء لو اعتقد انها حقيقية. هذا بالضبط ما يعرضه نيتشة في العلم المرح.
الغاية من التجربة الفكرية هي نوع من الاختبار لعلاقة المرء بحياته. هل انت تفرح بكونك حي، هل تتذوق كل لحظة، حتى اللحظات الاكثر ألما؟ اذا كان الامر كذلك فان كلمات الشيطان ستكون اخبارا رائعة: انت ستكون قادرا على تذوقها مرة اخرى واخرى الى الابد. ولكن ماذا لو كانت استجابتك هي الشعور بالرعب المطلق؟
نيتشة يقدّم فقط هذين الخيارين: الرعب او السرور. من الواضح انه ينصح بالخيار السار. هذا مرتبط بفكرته عن حب المصير. في قسم 276 من العلم المرح هو يذكر: "انا اريد ان اعتبر كل ما هو ضروري جميلا، لكي اصبح واحدا من اولئك الذين يجعلون كل شيء جميلا، حب المصير". ولكن هناك جواب آخر ممكن. الجواب الثالث والذي لم يأخذ به نيتشة هو عدم الشعور بالفرح ولا بالخوف من الفكرة، وانما الّا فرق. ولكن في النهاية، عندما يعيش المرء هذه الحياة عدة مرات، وفي كل مرة يشعر دائما كأنها المرة الاولى، وحيث لا ذكريات تنتقل من شكل الى آخر، فما الفرق الحاصل في العملية؟
دعنا نتصور ان الشيطان يظهر لك الليلة ومعه اخبار عن عودتك الابدية. كيف سيغير هذا شعورك عن الماضي؟ بالطبع، ان سنوات ما قبل الشيطان لا يمكن تغييرها، لكن معرفة المرء بان عليه ان يعيشها مرة اخرى واخرى، بدون تغيير، سوف حتما تغير الطريقة التي ينظر بها. ان الذكريات المؤلمة ستصبح اكثر ايلاما. يبدو ان نيتشة يشجع موقف القبول بالمعاناة الذي يكون جذابا. ان ما يصعب القبول به هو أخطائي السخيفة، المخجلة والاشياء التافهة التي عملتها او قلتها. سيكون من السيء جدا لو ان المرء عرف انه يتحتم عليه عملها مرات ومرات.
من جهة اخرى، هناك الكثير من اللحظات في معظم حياة الناس يكون من الرائع استعادتها: ذكريات العائلة والصداقة والحب الاول، ذكريات السفر والحفلات، المرة الاولى التي اكتشفت بها مؤلف مفضّل او فنان او موسيقي سيكون من الرائع التفكير لو تعود تلك مرة اخرى. لذا فان النتيجة ستكون تكثيف لكل مشاعر المرء حول الماضي، الجيدة والسيئة.
التكثيف ينطبق ايضا على الذهاب الى الامام. نحن سنكون واعين بان كل تجربة هي امتلاك دائم، وهذا بالتأكيد سيجعلنا اكثر تحفزا بتجاربنا ونعيش حياة اكثر حيوية. ولكن هناك فرق بين الحياة بعد الشيطان والحياة قبله. في حياة ما بعد الشيطان، انت تستطيع تعديل مواقفك واختياراتك وسلوكك. ربما تحاول بوعي بناء حياة تكون من الآن فصاعدا تستحق العيش. بهذا المعنى، ستكون العودة الأبدية عقيدة ايجابية ورائعة جدا وان لم تكن بالطريقة التي قصدها نيتشة. نيتشة اراد ان يكون قادرا على ان يحب مصيره مهما كان ذلك المصير، لا ان يختار المصير الذي يستحق ان يُعاش.
الحتمية والجبرية
المعارضون هنا يقولون ان اي فكرة حول الاختيار ستكون وهماً، بما ان المستقبل تحدّد مسبقا باعتبار انا عشت عدد لا متناهي من المرات من قبل، وهو دائما متشابه، عندئذ فان أفعالي ومواقفي ستكون كما كانت عليه دائما. مستقبلي سيكون قدرا محتوما. لكن هذا لا يحتاج ان يجعل المرء جبريا fatalistic. هناك فرق بين الحتمية determinism والجبرية fatalism. في الاولى، كل ما اقوم به نشأ بسبب معين، وطالما تبقى الاسباب ثابتة فسوف لن يكون بوسعي ابدا ان أعمل خلافا لما اقوم به حقا. هذا لا يعني انا موجّه. لا يعني انا ليس لدي قوة او تأثير. اهدافي وارادتي هما ذاتهما جزء من العوامل المسببة لمواقفي واختياراتي وسلوكي. اما فكرة الجبرية، فانا اكون فيها دمية يائسة المصير، وليس لدي اي وسيلة ابدا.
يبدو ان التفسير الحتمي يعمل افضل هنا. انه ليس المصير الذي يشكل المستقبل، وانما القوانين اللامتغيرة للكون. اعتمادا على المعرفة التي جلبها لي الشيطان، انا استطيع اتخاذ القرارات حول الكيفية التي اريد ان تسير بها حياتي مثلما انا أعمل دائما، لكي أتأكد انها حياة تستحق العيش.
مشكلة الزمن
لو توقفنا عند هذا الحد قد تكون المحصلة مقنعة. لكن هناك فكرة تبدو تسير بالضد من الاتجاه الذي سلكناه حتى الآن. دعنا نعيد التفكير في مدى صحة العود الأبدي. هناك نتيجة هامة تترتب على صحة الفكرة لم يستطلعها نيتشة، والتي تبدو تبطل التفسير السابق. ان الطريقة التي نمارس بها الوقت تشكّل فهمنا للحياة. كل قيمنا واهدافنا، الطريقة التي نتصور بها المتعة والمعاناة، الكسب، التعلم، البناء، التقدم، التضحية، الانجاز، التحسين، الخسارة، الانحلال، كله يعتمد على مفهوم الزمن المتدفق الى الامام، الذي يبرر فيه الحاضر او المستقبل للماضي.
لم يعد هناك اي قبل او بعد. في العود الابدي، فقدان شيء ما ينطوي على ايجاده مرة اخرى، الموت ينطوي على الولادة، التجربة تتضمن الجهل او النقاء. اذا كنا حقا نأخذ العود الابدي كمسلمة، فهل سنكون قادرين على عمل أي معنى للحياة؟ هل ستكون لدينا أية قيم؟ هل سيكون هناك شيء ما افضل من الآخر؟
نحن هنا نكون في مأزق. هل العود الابدي فكرة تمنحني سببا جيدا لكي أجعل بقية حياتي شيئاً يستحق العيش والحب، ام انها ببساطة تجعل كل شيء بلا معنى؟
اضف تعليق