الاستبداد السياسي وغياب الحريات العامة والانتهاك المتواصل لحقوق الإنسان، لا تقود كل هذه الوقائع إلا إلى الخراب والفساد والفشل. والنخب السياسية السائدة فشلت فشلا ذريعا في إدارتها لشؤون أوطانها، بفعل الاستبداد ومتوالياته. فلا يمكن للظلم السياسي أن يقود إلى صيانة الحقوق. فالاستبداد السياسي بكل صوره...
بعد عقود طويلة، رفعت خلالها النخب السياسية السائدة في الوطن العربي، الكثير من الشعارات واليافطات الكبرى، وصلنا فيها إلى نتائج مخزية وإخفاقات وخيمة. فكل الشعارات واليافطات الكبرى، أصبحت الوقائع المضادة هي الواقع الشاخص والقائم. فبدل الحرية ازدادت الديكتاتورية وأشكال الاستبداد في الفضاء العربي. وبدل الوحدة بكل مستوياتها ازددنا تشظيا وتجزئة. وبدل العدالة تضخمت مستويات الظلم وغياب المساواة في المجتمعات العربية.
ولعل الدرس الهام الذي نستفيده من هذه التجارب السياسية الطويلة، هو أن الاستبداد السياسي وغياب الحريات العامة والانتهاك المتواصل لحقوق الإنسان، لا تقود كل هذه الوقائع إلا إلى الخراب والفساد والفشل.
والنخب السياسية السائدة فشلت فشلا ذريعا في إدارتها لشؤون أوطانها، بفعل الاستبداد ومتوالياته. فلا يمكن للظلم السياسي أن يقود إلى صيانة الحقوق. فالاستبداد السياسي بكل صوره وأشكاله، هو المسئول الأول عن ما يعاني منه الواقع العربي اليوم من مشاكل وأزمات.
فالعرب اليوم هم ضحية تاريخية لأنظمة سياسية مستبدة، عملت كل شيء من أجل استمرار سلطانها المطلق. فضحت بالنسيج الاجتماعي العربي، وضخمت التناقضات الداخلية الأفقية والعمودية، من أجل استمرار هيمنتها المطلقة.
خضعت بشكل مذل لأعداء الأمة في الخارج، وأصبحت ذيلا تابعا لمحاور خارجية من أجل أن تستمد من هذه المحاور الخارجية القوة والقدرة لقمع الداخل العربي.
لدرجة أن العالم العربي بأسره اليوم، يعيش مكشوفا على كل الصعد أمام مؤامرات الخارج ومخططاته الخطيرة.
لذلك ومع أي أزمة هيكلية أو نوعية يواجهها المجال العربي، تتجه مباشرة الأسئلة إلى الواقع التأسيسي. فالأزمات السياسية تقود إلى طرح جملة الخيارات السياسية التي تسير عليها هذه الدولة أو تلك. والإخفاق الاقتصادي يفضي إلى طرح الإشكاليات ذات الطابع التأسيسي التي تتجاوز الحقل الاقتصادي.
وهكذا نجد وبعد هذه العقود العديدة من الاستقلال، أن الدولة العربية، لا زالت تعيش في المربع الأول، وأن الأسئلة والإشكاليات المطروحة في فضائها، هي ذات الأسئلة المطروحة في العقود الماضية. والفارق الجوهري على هذا الصعيد هو في المستوى والمآلات المترتبة على هذه الأسئلة والإشكاليات.
وحينما ارتفع صوت المطالبة بالإصلاح في العالم العربي، تجمعت إرادات الأنظمة السياسية ومشروعاتها من أجل خنق هذا الصوت. وأصبحنا اليوم نعيش معادلة مذهلة وخطيرة في آن. فإما الاستبداد وغياب الحريات أو الفوضى والحروب الأهلية المضمرة والصريحة. فلا إصلاح سياسي لأنه يقود إلى الفوضى وإبراز التناقضات الطائفية والعرقية والقومية في الوطن العربي.
وهكذا نجد أن الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه يعيش اليوم بين خطرين: خطر استمرار الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله، وخطر الفوضى والحروب الداخلية، التي تدمر النسيج الاجتماعي العربي بكل مكوناته وأسسه.
من هنا فإننا اليوم بحاجة إلى وعي عميق بأوضاعنا وأحوالنا، حتى نتمكن جميعا من تجاوز حبائل الاستبداد السياسي ومخططاته التي تجعلنا أسرى عناوين ويافطات، تزيد من تراجعنا وتأخرنا على مختلف الصعد والمستويات.
والإصلاح السياسي الذي نرى أهمية أن تنخرط الدول العربية فيه، وتعمل على الالتزام بمتطلباته ومقتضياته، لا يتحقق دفعة واحدة، وإنما هو بحاجة إلى مدى زمني وخطط استراتيجية ومرحلية، حتى تنقل الواقع العربي من حال إلى حال. ولا بد أن ندرك في هذا السياق، أنه كما أن الإصلاح لا يمكن أن يتحقق دفعة واحدة، كذلك لا يمكن ولاعتبارات أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية واستراتيجية، أن تتراخى إرادة الإصلاح أو تتراجع عن مقتضياته ومتطلباته.
فالإصلاح السياسي في الدول العربية اليوم، أضحى ضرورة ماسة ليس فقط للشعوب العربية، بل هو ضرورة ملحة قبل كل شيء للحكومات العربية.
فالتحديات والمشاكل التي تواجه الجميع اليوم، تتطلب خطوات نوعية، تعيد تأسيس الممارسة العربية السياسية على أسس أكثر صلابة ومتانة. وهذا لا يتحقق إلا بفعل الإصلاح السياسي ومتوالياته المتعددة.
وبروز التناقضات العمودية والأفقية في المجتمعات العربية، لا يمكن معالجتها إلا بإدارة حكيمة، مرنة، تنصت إلى إيقاع الواقع، وتتفهم حاجات وتطلعات كل المكونات والتعبيرات.
من هنا فإننا أحوج ما نكون اليوم إلى بلورة الرؤية والخيار العربي بعيدا عن ضغوطات الاستبداد السياسي ومخاوف الفوضى والحروب الداخلية. إننا مع الإصلاح السياسي لأنه جسر عبورنا إلى المستقبل.
والذي يقود إلى الفوضى ليس الإصلاح، وإنما استمرار الفساد والاستبداد السياسي في الوطن العربي.. فالفوضى وتضخم التناقضات الداخلية في الاجتماع العربي، هو الوليد الطبيعي لعقود من الاستبداد وغياب العدالة والحريات. والإصلاح السياسي الذي ينشد الحرية وصيانة حقوق الإنسان واحترام الخصوصيات الثقافية لكل مكونات الاجتماع العربي، هو سبيلنا لتجاوز كل مخاطر وتحديات المرحلة.
فالطائفية المقيتة المستشرية اليوم في جسم الأمة، هي أحد الثمار السيئة لبنية الاستبداد السياسي ولغياب الحريات العامة في الأمة.. فالاستبداد لا يحمي استقرار الأمة، وإنما يزيد من مآزقها وأزماتها. ويخطأ من يتصور أن الديكتاتورية السياسية هي التي تحمي خيارات الأمة العليا. وإنما على العكس من ذلك تماما. بحيث أن الديكتاتورية السياسية هي السبب العميق لأزمات الأمة كلها. ولا حياة جديدة للأمة،إلا بإنهاء حقبة الاستبداد السياسي في الأمة.
وهذا يتطلب العمل على تفكيك بنية الاستبداد السياسي الثاوية في نفوس وعقول الجميع، وتعميق خيار الإصلاح والحريات والوحدة في الأمة.
ومن طبيعة تحديات المرحلة وتطورات الراهن، نستطيع القول: أن انخراط الدول العربية في مشروع الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية، هو الخيار الأسلم للحفاظ على الأمن وصيانة الاستقرار السياسي والاجتماعي.
وذلك لأن الواقع اليوم، لا يحتمل بأي حال من الأحوال التسويف والتأجيل. فاستمرار الأوضاع السيئة على حالها أضحى مكلفا للأوطان والمجتمعات العربية على أكثر من صعيد. ولا خيار حقيقي أمام المجال العربي إلا الاستجابة إلى مطالب الإصلاح التي عبرت عنها أطياف المجتمعات العربية وقواها الحية والمتعددة.
فكل أحداث الراهن العربي وتطوراته، تثبت بشكل لا لبس فيه أن العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه يعيش لحظات حرجة وتحديات مصيرية ومنعطفات نوعية. وبدون بلورة الاستراتيجية العربية المطلوبة، القادرة على الاستجابة الفعالة لكل هذه التحديات، سنجد أنفسنا جميعا دولا ومجتمعات، ونحن نعيش خارج حركة التاريخ.
فنحن كعرب نواجه انقسامات وتشظيات على المستويين الرسمي والأهلي. فالمجتمعات العربية تتآكل من الداخل، والدول العربية لم تتمكن من الخروج من محنها الداخلية والذاتية. فلا المجتمعات العربية بكل نخبها ودوائرها، تمكنت من التغلب على مآزقها، كما أن الدول ومؤسساتها القومية، لم تتمكن من صياغة نظام علاقة فعال، يضمن مصالح الجميع، ويستجيب بدينامية إلى تطورات المرحلة. لهذا فإن العالم العربي بدوله ومجتمعاته، يعيش حالة انكشاف خطيرة على المستويات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والأمنية. وإن حالة الانكشاف، حولت الساحة العربية إلى فضاء للصراع الدولي والإقليمي، كما فاقمت من تناقضات وتشظيات المجتمعات العربية العمودية والأفقية.
والعجز العربي العميق، هو الواقع الذي تعكسه كل التصريحات والممارسات الدبلوماسية والسياسية. فمن جهة نحن نعيش كفضاء استراتيجي وسياسي لحظة من الانكشاف المفتوحة على كل التداعيات والمخاطر. ومن جهة أخرى، إننا كعالم عربي نعيش حالة عجز عميقة، تمنعنا جميعا دولا ومجتمعات من مواجهة كل هذه المخاطر والتحديات. بحيث أصبحنا جميعا بلا حراك وبلا فعالية، وتنهش في جسمنا كل الأمراض والآفات. والأمم الأخرى القريبة والبعيدة تعمل بكل إمكاناتها، لاستثمار هذه اللحظة وتثبيت مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية، على حساب مصالح العرب الراهنة والمستقبلية.
وفي التقارير الأخيرة التي أصدرتها الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية، أكدت على أهم الثغرات التي تواجه المجتمعات العربية اليوم، وهي افتقاد الحرية، ونقص المعرفة وتغييب دور المرأة. كما أن الحلول التي اقترحتها هذه التقارير هي تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح وبناء مجتمع المعرفة، وتمكين النساء.
ويبدو أن العالم العربي سيرزح تحت نير وتأثير كل هذه المشاكل والأزمات، إذا لم يتبنى خيار الديمقراطية، سواء على صعيد تشكيل السلطة السياسية، أو كنسق للعلاقات بين مختلف مكونات وتعبيرات المجتمعات العربية.
وهنا نحن ندرك أن الديمقراطية كخيار وثقافة وإجراءات، ليست حلا سحريا لمشاكلنا وأزماتنا، ولكنها الوحيدة القادرة على ضبط نزعات التشظي والانفلاش، كما أنها هي القادرة على خلق المناخ السياسي والثقافي والاجتماعي القادر على إدارة خلافات وتناقضات الساحات العربية بأقل خسائر ممكنة. وإن أي تباطؤ في مشروع التحول نحو الديمقراطية، سيكلف العالم العربي بأسره الكثير من الكوارث والمآزق.
فأزماتنا عميقة، ومآزقنا عديدة، وآفاق المعاجلة محدودة. ولا خيار أمامنا إذا أردنا الخروج من هذا الواقع بأقل خسائر ممكنة، إلا بالمبادرة لتبني خيار الديمقراطية، حتى يخرج العالم العربي من مأزق العلاقة الملتبسة والمتوترة بين الدولة والمجتمع، وحتى نتمكن من ضبط نزعات وتناقضات المجتمعات العربية بحيث تدار كل هذه التباينات والتناقضات بطريقة سلمية – حضارية، تخرجنا من حالة الاستئثار والاستبداد، ولكن لا تدخلنا في أتون الصراعات المذهبية والطائفية والقبلية والمناطقية.
فالديمقراطية هي سبيل تحررنا وانعتاقنا من كل هذه المآزق، كما أنها هي طوق نجاتنا من كل المحن والفتن الداخلية.
وكل المشكلات التي يفترض أو يعلن عنها باستمرار، أنها تعوق الممارسة الديمقراطية، لن يكون في الإمكان حلها ومعالجتها، إلا بالاستناد إلى الديمقراطية وآلياتها ومراكمة التجربة الديمقراطية على المستويين السياسي والاجتماعي.
ولقد آن الأوان بالنسبة لنا، أن نخرج من الخديعة التاريخية التي وقعنا فيها. فلا مقايضة بين التنمية والديمقراطية، أو بين الاستقرار والحرية. فلا تنمية بدون ديمقراطية، ولا استقرار عميق وحقيقي بدون الحرية. وإن الاستبداد السياسي، يعطل الكثير من قدرات أمتنا وطاقاتها، ويخرجها من المعركة الحضارية مع العدو الصهيوني. فالديمقراطية هي بوابة انتصارنا الحضاري على الغدة السرطانية المغروسة في جسدنا العربي والإسلامي.
وإن الديمقراطية اليوم، أصبحت مشروعا ممكنا وقابلا للتحقق في مجالنا العربي. وهناك العديد من العوامل والظروف المواتية لإنجاز هذا التطلع التاريخي. ومهمتنا هي العمل على توظيف هذه العوامل والظروف، بما يخدم تمتين القاعدة الاجتماعية والسياسية، وتفعيل دور النخبة باتجاه توسيع المشاركة العامة، وتقوية مؤسسات المجتمع المدني، والحد من تغوّل السلطة واستبدادها.
اضف تعليق