q
الشعار العنيف والمجرد من العمل يخلق الاستفزاز مما يجلب كراهية العقلاء، وغالبا ما يستغله السفهاء لإيذاء الآخرين، ولذا فاللازم تركه إلا في أقصى موارد الضرورة والتمسك بالشعار الفارغ وإن كان يتصور فائدته على مستوى السطح ولكنه يضر في العمق لأنه يصرف الأنظار والأفكار عن حقيقة العمل...

وانت تتابع التصريحات والشعارات التي يطلقها حكام العالم واحزابهم ومؤسساتهم تجد انها تندرج تحت نوعين أساسيين:

النوع الأول: الذي يعتمد على الشعارات العنيفة (الشعبوية) القريبة من التوجهات المتطرفة لبعض التيارات السياسية او القومية او العنصرية والتي تمتاز بالفوقية ونشر الكراهية داخلياً وخارجياً.

النوع الثاني: الذي يعتمد على الشعارات الفارغة التي عادةً ما يطلقها الحكام المستبدون (النظام الدكتاتوري) والمؤسسات الحكومية الفاسدة ضمن الدول الفاشلة كتغطية لمدى التخلف والفساد الذي تعاني منه.

وعندما تحدث المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي عن العمل اولاً قبل الشعار في كتابه (إذا قام الإسلام في العراق) أشار الى هذا المعنى بالقول: "الشعار العنيف والمجرد من العمل يخلق الاستفزاز مما يجلب كراهية العقلاء، وغالبا ما يستغله السفهاء لإيذاء الآخرين، ولذا فاللازم تركه إلا في أقصى موارد الضرورة"، وأضاف: "والتمسك بالشعار الفارغ وإن كان يتصور فائدته على مستوى السطح ولكنه يضر في العمق لأنه يصرف الأنظار والأفكار عن حقيقة العمل وعمقه إلى مجرد الكلام، وكذلك كونه وقتيا لا يستمر في تأثيره طول الخط".

ولكن هذا لا يعني وجود دول ورؤساء نجحوا في تطبيق الشعارات التي رفعوها في سبيل التغيير او التطوير او الإصلاح او محاربة السلبيات التي تقف عائقاً امام تقدم دولهم نحو الامام، والتي استندوا فيها على ثقافة العمل التي تجذرت في مجتمعاتهم والرغبة الحقيقية في التغيير وصنع المستقبل والفرق بين الحالتين هو: "العمل أولاً قبل الشعار".

ان ثقافة "العمل أولاً قبل الشعار" هي ثقافة ضائعة في مجتمعاتنا الإسلامية التي من المفترض ان مفاهيم مثل (العمل، السعي، الحركة، الكدح، التنافس، التسابق) في ميدان الدنيا (المادي) والاخرة (الروحي) هو جزء من جذورها وتراثها وقيمها، لكن الواقع يؤشر غير ذلك تماماً، خصوصاً مع الواقع المتخلف الذي تعيشه معظم هذه المجتمعات التي تحولت الى مجتمعات استهلاكية في كل شيء تقريباً، خصوصاً مع وجود أنظمة استبدادية سيطرت على الحكم لعقود من الزمن أدت الى جلب ثقافة خاصة بها تختلف جذرياً عن الثقافة الإسلامية الحقيقية وان كان ظاهر هذه الحكومات والأنظمة اسلامياً.

وقد شخص المرجع الراحل السيد الشيرازي فشل هذه الأنظمة التي تختبئ خلف شعاراتها الفارغة بالقول: "وغالباً يكون من يطلق الشعارات الخالية والكبيرة هم الدكتاتوريون الذين يحاولون أن يخدعوا شعوبهم والشعوب الأخرى بأنهم يفعلون الكثير وانهم متقدمون ومتطورون، ولا شك انه لا محاسب ولا رقيب ولا صحافة حرة تتابع كلماتهم وشعاراتهم وتحاسبهم على ذلك، وتكشف واقعهم العملي، فالدكتاتور لا يعمل أبداً بل يطلق الشعار ليرضي جبروت ذاته، وتسانده في ذلك أجهزته الإعلامية التي تعمل له، لذلك يقل العمل وتتخلف البلاد، أما في الأنظمة الاستشارية والديمقراطية فانه لا يمكن –عادة- التكلم وإطلاق الشعارات عبثاُ، فان كل كلمة يحاسب عليها الحكام من قبل المؤسسات الدستورية والأحزاب المعارضة والصحافة الحرة، ولذلك يكثر العمل ويقل الكلام وتتقدم البلاد".

وما يثير التساؤلات في هذا السياق السبب الكامن وراء لجوء الحكام ومؤسسات صناعة القرار والأحزاب والقوى النافذة داخل الدولة الى رفع الشعارات بشقيها (العنيف والفارغ) كبديل عن العمل الحقيقي لتحقيق رفاه وخدمة مجتمعاتهم..!

والسبب في ذلك:

1. عدم قدرة هؤلاء على انتاج وتفعيل "ثقافة العمل" في المجتمع واعتمادهم على ترويج الشعارات كبديل او تغطية لفشلهم في ذلك.

2. الفساد الإداري والمالي وإنتاج الاستبداد وسلب الحريات التي تؤدي الى مضاعفات خطيرة داخل المجتمع وتعتبر موانع مفتعلة في تحقيق ثقافة العمل، ورفع الشعارات في هذه الحالة يعتبر هروب من الواقع او محاولة لتصدير هذه الازمات الى مراحل أخرى.

3. النظام الاقتصادي الريعي او الاشتراكي او الاستهلاكي الذي يؤدي الى عزوف جماعي عن العمل باعتبار ابوية الدولة في السيطرة على كل القطاعات المالية والاستثمارية من جهة وتحويل كل افراد المجتمع الى أجراء لدى الدولة برواتب ضعيفة من دون انتاج.

4. السطحية في التفكير لدى قادة القرار في الدولة والذي يعتمد في محاولة تسيير الاقتصاد والخدمات بصورة آنية دون التفكير بعقلية استراتيجية وفق خطة مدروسة بعيدة المدى تعتمد على الخبراء والمختصين في مختلف المجالات ذات الصلة.

5. الاهتمام بتثبيت اركان السلطة وبقائهم في الحكم الى أطول فترة ممكنة دون التفكير بجدية في الجوانب الحيوية الأخرى، لذلك اللجوء الى إطلاق الشعارات الوهمية الطريق الأفضل لإيهام الشعوب وممارسة التضليل عليها.

6. المبالغة في احتساب الإمكانات المتاحة والتقديرات للنجاح فيها دون النظر الى حقيقة ما يملك وما يمكن ان يحقق في ضوء المتوفر، ما يؤدي في نهاية المطاف الى سقوط مدوي وكبير.

"أما إذا لم تقل شيئا وركزت جهودك على عملك وأدائه على أحسن وجه ظنوا بك خيرا وكبر عملك في أعينهم فالعامل المجد الصامت يظن الناس به فوق حقه بينما المكثار في الكلام يظن الناس به دون حقه ويشكون في أصل عمله حتى لو كان عاملا، ولهذا لابد أن يكون فعل الإنسان أكثر من قوله وينبغي ألا يكون حتى مساويا له فكيف يكون العمل أقل من القول، والشعار من القول، والواقع من العمل".

اذن فالعلاقة يمكن ان تعتبر "عكسية" بين العمل والشعار، فكلما تركت عملك يتحدث عنك قلت الشعارات التي ترفعها قبل العمل والعكس صحيح، وهو ما حث عليه الدين الإسلامي باعتباره أسلوب للفوز والنجاح في الحياة الدنيا وكذلك في الحياة الاخرة والذي يتحقق من خلال جملة من الخطوات أبرزها:

1. العودة الى جذورنا الإسلامية الحقيقية التي حثت على العمل "وقل اعملوا" والتنافس في مجالاته المختلفة "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"، ورفض ثقافة الشعارات التي روج لها المستبدون والفاسدون لتحقيق مصالحهم الخاصة.

2. إعادة انتاج الذات للتخلص من التركة الثقيلة التي خلفها الاستبداد والجهل والتخلف داخل مجتمعاتنا التي أصبحت تؤمن بالشعارات أكثر من العمل.

3. القيام بحركة إصلاحية واسعة في النظام السياسي والاقتصادي والتعليمي والإداري والاجتماعي لتهيئة المجتمع والدولة للتحول الى مرحلة العمل والإنتاج بدلاً من الشعارات والبطالة.

4. ينبغي مساهمة جميع القطاعات المؤثرة في عملية صنع التغيير والانتقال بما في ذلك الأكاديميين والخبراء والمختصين والمفكرين والقادة ومنظمات المجتمع المدني والمراكز البحثية والاعلام والجهد الحكومي والقطاع الخاص والمواطنين.

5. التحول التدريجي من اهم عوامل النجاح لتطبيق ثقافة العمل وانهاء ثقافة الشعارات الزائفة، وقد شجع الامام الراحل الشيرازي ذلك بالقول: "فاللازم التدرج في التطبيق حسب الإمكان بما لا يوجب اضطرابا في المجتمع يؤدي إلى التحطم أو إلى إشكالات مرفوعة من العسر والحرج والضرر، في بعض الموارد، حيث لابد أن تدرس إمكانية التطبيق حسب قانون (الأهم والمهم)".

6. محاربة المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والأعراف والتقاليد الخاطئة التي تساعد على اعتماد المواطن على الدولة بصورة مطلقة واعتباره مجرد اجير لديها من دون ان يكون له الحق في تطوير حياته الاقتصادية الخاصة او وجود فرصة لتحقيق ذلك.

7- ترسيخ مفهوم الحرية الذي ينتج العمل الصالح على عكس الاستبداد الذي ينشر الفساد، فالحرية تؤدي الى السعي والابداع والتقدم، وتحقق الاستدامة الاستراتيجية لحركة التقدم المتراكمة.

يجب ان تمتلك الشعوب وعيها وعدم الانخداع بالأيدولوجيات التي تتاجر بالشعارات، ولاتنساق لمحارقها العنفية العسكرية، بل بوعيها ومعرفتها وعقلانيتها واستقلاليتها تمتلك الحرية والإرادة لبناء وتنمية اوطانها بالعمل والكدح والإنتاج.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2020
http://shrsc.com

اضف تعليق