مطلع العام 1983 واثناء نوبة حراستي ليلا، ايام خدمتي العسكرية جنوبي البصرة، كنت احمل معي راديو صغيرا، اضعه جنبي واجلس على الدكة الترابية، حيث كان هذا الجهاز نافذتنا الحيّة التي توصلنا بالعالم ايام الحرب في الجبهات، لا اتذكر بالضبط اي الاذاعتين كنت استمع اليها، صوت اميركا او لندن...
مطلع العام 1983 واثناء نوبة حراستي ليلا، ايام خدمتي العسكرية جنوبي البصرة، كنت احمل معي راديو صغيرا، اضعه جنبي واجلس على الدكة الترابية، حيث كان هذا الجهاز نافذتنا الحيّة التي توصلنا بالعالم ايام الحرب في الجبهات، لا اتذكر بالضبط اي الاذاعتين كنت استمع اليها، صوت اميركا او لندن، وفي الاغلب الاخيرة، لكني اتذكر تماما اجواء منطقة السيبة وضوء القمر الساطع، الذي كان يصطدم بالارض السبخة الممتدة من حولي، فيشع بقوة محيلا الليل الى نهار ومبددا شعوري بالعزلة، التي تقطع اطمئنانها القلق، زخات الرشاشات في القطعات الامامية، بين الحين والاخر.
قبل ان ينتهي المذيع من قراءة الاخبار، قرا الخبر الذي سيبقى في ذاكرتي الى اليوم، وكانت خلاصته بالمعنى وليس بالنص؛(( .. توصل فريق من الباحثين في جامعة ... (لااتذكر اسمها) الى ان مملكة داود تقع في منطقة ... (ايضا لا اتذكر الاسم )، في ما تعرف اليوم بالمملكة العربية السعودية .. )) وكان يتحدث عن منطقة في الجزيرة العربية، كانت تابعة لليمن واصبحت وفق الخرائط الحديثة تابعة للسعودية.
ولعل الذي يقرا تاريخ البلدين يجد ان التداخل السكاني والثقافي كبير وواضح بينهما، لاسيما في المناطق التي هي الان حدودية، وقصة (اصحاب الاخدود) الذين بشروا بالنصرانية في الجزيرة وما جرى لهم على يد ملك اليمن اليهودي (ذي نواس) والتي كان من تداعياتها تنصير اليمن لاحقا على يد ابرهة الحبشي بعد غزوها، ومن ثم غزوته الفاشلة الى مكة، في القصة المعروفة، تفصح عن هذا التداخل القديم ... تصورت بعد سماعي هذا الخبر، ان الاعلام سيضج به في الايام القادمة، لانه ينسف فرضية تاريخية يهودية، قامت عليها دولة اسرائيل في فلسطين، والمتمثلة بادعائهم قيام مملكة داود هناك.
وبحثهم منذ عقود عن هيكل سليمان المزعوم، بما يمثله من ارث مندرس لتلك المملكة المزعومة، تحت المسجد الاقصى، كونه احد اهم معالم الدولة اليهودية القديمة، واصدق تعبير عن حقهم التاريخي فيها، كما يدعون .. مرّ الخبر مرور الكرام، ولم يثر اية ضجة، بل نسي تماما بعد خنقه اعلاميا، لان مؤسسات الاعلام الكبرى ممسوكة من قبل اللوبيات اليهودية .. وربما نسيه اكثر الذين سمعوه بعد ان تكاثرت الاخبار وتلونت باشكال متعددة من الفجائع!
قبل ايام، تابعت لقاء للمفكر والباحث العراقي فاضل الربيعي على قناة الفرنسية 24 ضمن برنامج (محاور)، وقد اثار اللقاء في داخلي شجونا عديدة، لانه لم يذكّرني بالخبر الذي قراته فقط، وانما ايضا بتلك الايام التي ماكان لنا ان نقاسي آلامها ومعاناتها، لولا تضخم تلك الاساطير في رؤوس المتطرفين اليهود، الذي اسهموا ايضا بصناعة وتضخم التطرف الاسلامي، ليجد الناس الابرياء انفسهم وسط هذا الخراب الممتد منذ عقود، ولانعرف الى اين سينتهي بنا.. خلاصة ماقاله الربيعي، انه وبعد جهد بحثي طويل، توصل الى ان مملكة سليمان لم تقم في ارض فلسطين.
وانما في اليمن، مستشهدا بوقائع، كانت منظمة اليونسكو قد اكدتها بشكل واضح، عندما اعلنت ان ما يسمى بهيكل سليمان الذي يدعي اليهود وجوده اسفل المسجد الاقصى غير صحيح، وان الاقصى تراث اسلامي. والبعد هنا في حكم اليونسكو ثقافي وليس دينيا، لان اليونسكو لاعلاقة لها بالصراعات الدينية او تفصل فيها، وهو مانريد قوله ايضا في هذه السطور، لان واقع المنطقة المأزوم بفعل هذه الاساطير، كلف سكانها الكثير من الارواح والمال والوقت، وايضا كرس اشكالا متعددة من الكراهية، استفرختها تلك المشكلة التي قامت على اوهام دينية لاعلاقة لها بالتاريخ ولابالعقل.
فحكاية بلقيس ملكة سبأ والملك سليمان الشهيرة، تؤكد حقيقة ومصداقية ما ذهب اليه هذا الجهد البحثي، وان مملكة داود لم تقم في فلسطين، وبالنتيجة لاوجود للهيكل المزعوم، الذي قضوا سنينا من الحفر تحت الاقصى ولم يعثروا له على اثر، كونه موجود في مخيلات غلاة اليهود فقط، ممن يتحدثون عن ارض اسرائيل التاريخية، او ارض الميعاد، متناسين ان هذا المنطق تجاوزه العقل البشري والحضارة الحديثة، وبددت سرابه ادوات البحث العلمي الحديث التي تمتلكها منظمة اليونسكو، والعقلاء في هذا العالم الذي مازال للاسف، ممسوكا سياسيا، من قبل اشباه المجانين .. الى اليوم!.
اضف تعليق