q
من العوامل الأساسية لنشوء حالات الانغلاق والتطرف في المجتمعات والأمم، هو وضعية الرأي الآخر في البنيـة الثقافية السائدة، كيف ننظر إلى المختلف عنا في مجتمعاتنا؟ كيف ننظم علاقتنا بالمغاير لنا في سلوكه ورؤيته للحياة والوجود. ذلك أن الثقافة، التي تمهد إلى أصناف التطرف والعنف، هي...

إن من العوامل الأساسية لنشوء حالات الانغلاق والتطرف في المجتمعات والأمم، هو وضعية الرأي الآخر في البنيـة الثقافية السائدة، كيف ننظر إلى المختلف عنا في مجتمعاتنا؟ كيف ننظم علاقتنا بالمغاير لنا في سلوكه ورؤيته للحياة والوجود.

ذلك أن الثقافة، التي تمهد إلى أصناف التطرف والعنف، هي ثقافة تنمي التصور الآحادي وتبالغ في تركيزه، إلى درجة الهوس، وتضيق بالاختلاف والتنوع، فتمضي في توليد النعوت والأوصاف التحقيرية لكل نزعة إختلافية، تؤدي إلى تعطيل كل مراجعة أو تقويم أو ابتكار.

من هنا تنبـع ضرورة وأهمية تأصيل مشروعية الرأي الآخر في الدائرة الفكرية والثقافية.

وفي هذا الإطار تأتي أهمية كتاب الدكتور عبد المجيد النجار الموسوم بـ (دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين).

إذ أن حرية الرأي والتعبير عنه، ليس قيمة منفصلة عن النظام العقدي الإسلامي، بل هي جزء من ذلك النظام. وهي ليست حقا بإمكان الإنسان، أن يتخلى عنها، بل هي واجب عليه وفريضة وأمانة.

ولا شك أن حالة التراجع والخلل التي أصابت الأمة الإسلامية، كان "لافتقاد الرأي الناضج السليم والحيلولة دون انتشاره بكل الوسائل حين يوجد" أكبر التأثير ومن أهم عوامل التراجع وأسباب الخلل العام الذي أصاب الأمة.

وعلى هدى حديث (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته …) يقرر الدكتور النجار أن المسلم مسئول مسؤولية عينية عن مصلحة المسلمين في دوائر قد تتسع وقد تضيق بحسب الموقع الذي يكون فيه. وتقتضي مسؤولية الرعاية هذه أن يتصرف المسلم بمبادرات في الرأي يصوغ بها صياغة عملية تتحقق مصالح الرعاية في الواقع بحسب ما تقتضيه الظروف المنقلبة للزمان والمكان، كما يصبح امتلاك الأسباب الممكنة من إبداء الرأي السديد أمراً واجبا أيضا بقاعدة أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ومن البداهة القول أن ضمان حرية الرأي، وضرورة التعبير عنه، لا يعني مشروعية الفوضى والتشتت، أو اعتباره عاملا من عوامل الفرقة والاختلاف.. بل هو وسيلة من وسائل الوحدة الفكرية بين أبناء المجتمع الواحد.

"والوحدة الفكرية للمسلمين، تعني اشتراكهم في الأسس المنهجية الكبرى للنظر العقلي في شؤون الكون والحياة للوصول إلى الحقيقة التي يبنون عليها علاقتهم بالكون، وينظمون بها شؤون الحياة، وكل ذلك في إطار من تعاليم الدين الذي جمعهم في أمة واحدة".

أركان الوحدة الفكرية للمسلمين:

من الطبيعي أن الوحدة الفكرية بين أبناء المجتمع الواحد، لا تتحقق جزافاً وإنما هناك مجموعة من العوامل والأركان الأساسية، التي ما إن نلتزم بها جميعا حتى يتحقق مفهوم الوحدة الفكرية بين مجتمع المسلمين. وهذه الأركان هي كالتالي:

أولا: شمول النظر: وهو توجه العقل في بحث القضايا توجها شاملا بتناولها من جميع جوانبها، واستجماع جميع المعطيات المتعلقة بها ضمانا في ذلك للوصول إلى الحق فيها، فإن تقصي المعطيات في موضوع البحث، واستجماع كل ماله علاقة به عند النظر فيه، من شأنه أن ينير السبيل في كشف حقيقته. أما النظر الجزئي المقتصر على بعض المعطيــات والجوانب، فإنه يفضي في الغالب إلى الرأي المنقوص، ولا يكشف الحقيقة الكاملة..

ولهذا نجد أن القرآن الحكيم يوجه الإنسان، إلى النظر إلى الكون نظرا شاملا من حيث خلقه ونظامه وحركته وتركيبه، للكشف عن قوانينه في ذاته وعن دلالته على ما وراءه من حقيقة. كما يوجّه إلى النظر في تاريخ الأمم بمثل ذلك الشمول أيضا..

ثانيا: المؤالفة والتوحيد: والمقصود به توجه العقل في البحث عن الحق بحيث يؤالف بين المعطيات التي يتوفر عليها، ويرد بعضها إلى بعض بحسب التماثل والتشابه، ويوحدها في معيار دلالي يكون أساسا بمبدأ واحد تنخرط فيه جهود الفهم والتعليل، وتنبني على أساسه الرؤى والحلول. إن هذه الخاصية تضمن أن تكون الأحكام المعرفية موحدة المعيار فتنسجم نتائجها ولا تتناقض سواء كان ذلك في المعرفة الكونية بما تقوم عليه من وحدة القواعد في التجريب، أو في المعرفة الشرعية والإنسانية بما تقوم عليه من وحدة المبدأ والغاية، أما إذا كان العقل يتحرك في المعطيات المتاحة بثنائية في المعيار وبغفلة عن الرابطة الجامعة بينها فإنه يصل إلى نتائج وأحكام يعتريها التضارب، ويجانبها الصواب في كثير من الأحيان.

واعتماد المؤالفة بين المعطيات، وانتهاج المبدأ الموحد في التحليل وفي الإنشاء الغائي، من شأنه أن يفضي إلى النتائج المشتركة أو المتقاربة وإلى الأحكام والحلول المنسجمة.

فينخرط إذن كل من جمعهم هذا المنهج في الوجهة نفسها، ويتحركون إلى الغاية نفسها في تحقيق الحياة.

ثالثا: الواقعية: ومعناها أن يتخذ العقل في حركته لمعرفة الحق منطلقا من الواقع، سواء أكان واقعا كونيا أو نفسيا أو تاريخيا، فيكون ذلك الواقع هو المعطى الأساسي في التحليل للوصول إلى حقيقة ما هو كائن، أو تقدير ما ينبغي أن يكون، إما بالانتقال من الظواهر الحسيّة الكونية إلى قوانينها وسننها الكلية بطريق التجريب أو بالانتقال من الآيات والشواهد المادية إلى دلالاتها الغيبية في الخلق والتدبير، أو بالانتقال من واقع الحياة الإنسانية التاريخي والآني للانتقال إلى تقدير ما ينبغي أن يكون من وجوه الصلاح والرشد. ويناقض العقل في حركته المعرفية الصّور المجردة، يؤلف بينها في معزل عن الواقع ليصوغ منها شروحا للوجود أو رؤى إصلاحية يسقطها على حياة الناس.

وقد جاء القرآن الحكيم ليصوغ فكر الإنسان صياغة واقعية.. فقد وجه العقل في سبيل إدراك حقيقة الغيب وسنن الكون إلى مظاهر الطبيعة المــادية، وواقــع النفس الإنسانية، كما قال تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) [فصلت 53].

ومن الواضح أن الواقعية عامل وحدة فكرية، إذ بها يتم الاحتكام إلى الواقع الموضوعي، فتتوحد المعطيات بين الناظرين، وينفسح مجال واسع للاتفاق في النتائج.

رابعا: النقدية: ومعناها أن يسلك العقل في حركته المعرفية مسلكا يجمع فيه بين المتقابلات من الآراء، ويقابل بين الاحتمالات المختلفة، ثم يمحصها ويختبرها على أساس ذلك التقابل، فإن هذه المقاربة والنقد عامل مهم في ترشيد الفكر للوصول إلى الحق.

خامسا: الموضوعية: وتعني أن يتجرد العقل في سعيه إلى الحقيقة من العوامل الذاتية التي تعطل فطرته الملهمة بالصواب، ويتعامل مع موضوع النظر كمعطى خارجي مستقل، تقود عناصره الذاتية بهذا التعامل المجرد إلى الحقيقة.

حرية الرأي والوحدة الفكرية للمسلمين:

بادئ ذي بدء نقول أن الرأي يعني جهد العقل في البحث المعرفي، وثمرة ذلك الجهد من الأحكام.

وحرية الرأي تعني:

1) حرية الإنسان في طرق النظر العقلي وأساليبه دون أن تفرض عليه من الآخرين معطيات وأدوات من شأنها أن تؤدي به إلى الخطأ، أو يلزم بسلوك طرائق معينة من شأنها أن توصله إلى نتيجة مبتغاة سلفا، حقا كانت أو باطلا، فإذا كان شيء من ذلك فإنه يعتبر وجها من وجوه السلب لحرية الرأي لما فيه من توجيه مسبق من الآخرين إلى رأي معين قد لا يصل إليه الناظر لو ترك حراً في النظر، بل قد يصل إلى ضده.

2) حرية الإنسان في الإعلان عن الرأي الذي توصل إليه بالنظر والبحث وإشاعته بين الناس، والمنافحة عنه والإقناع به. ولعل ذلك هو الوجه الأهم في حـرية الرأي، وهو المعني أكثر من غيره في الاستعمال الشائع، إذ ما قيمة رأي يبقى حبيس الخاطر ولا يكون له في مجرى الحياة تأثير بأن يتبناه المجتمع ويعمل به؟ ومن ثم فإن الحرية فيه تعني أن يكون طريقه إلى الناس سالكا بانعدام كل المعيقات التي تعيق التعبير عنه من قبل صاحبه، أو سيرورته إلى الآخرين، أو وسائل دعمـه والإقناع به. وإن وقع شيء من ذلك فهو يعتبر تقييدا لحرية الرأي..

ولعلنا في هذا الإطار نعتبر أن ارتفاع الموانع الذاتية التي تعيق العقل عن النظر الموضوعي الموصل إلى الحق. وخاصة منها مانع الهوى ومانع الموروث من التقاليد والعادات جزء من حرية الرأي.

ولا شك أن لحرية الرأي قيوداً وضوابط منهجية مثل التحري في المعطيات وفي المسالك المبلغة إلى الحق، والإخلاص في إرادة النفع العام، وإلا انقلبت إلى ضروب من المغالطة والتغرير والأنانية، كما أن لها قيوداً أخلاقية مثل الصدق في تبليغ الرأي ونقله، والحسنى في الإقناع به، وإلا انقلبت كذبا وغشا وتجريحا ولجاجة، فتخرج إذن عن الدائرة التي رسمت لها في الاستعمال الشائع، وما نعتمده في هذا السياق هو الحرية بتلك الضوابط والقيود.

حرية الرأي والوحدة الفكرية في الواقع الإسلامي الراهن:

لا نحتاج إلى الكثير من الجهد الذهني والفكري، حتى نكتشف وضع الأمة المعاصر. حيث تعيش الفرقة والشتات في الكثير من شؤونها وقضاياها.. وليست تلك الفرقة، إلا شديدة العلاقة بالواقع الفكري المنهجي.. فالفرقة السائدة بين المسلمين اليوم حينما نستجليها نتبين أنها ناشئة إلى حد كبير من اختلاف في منهجية التفكير بينهم، وهو اختلاف ذهب بتلك الصفات المنهجية المشتركة التي من شأنها أن توحد طريقة النظر، فتتطابق الرؤى أو تتقارب، وتتوحد الجهود نحو الهدف المشترك. لقد حدث خلل بين في منهجية الفكر، طال العقلية الإسلامية بصفة عامة فشكلها على نحو تباينت به النتائج عند النظر، وتشتت به الجهود عند العمل، فكان هذا الذي نراه اليوم من الفرقة. ولا ينافي ذلك أن آحاداً من المسلمين بقوا في منهجيتهم الفكرية على السيرة الأولى من الفكر الإسلامي الموحد على الصفات المشتركة، ولكن المسيرة الجماعية توجهها دائما العقلية العامة.

حرية الرأي والوحدة الثقافية:

والمقصود بالـوحدة الثقافية هو وحدة الأسلوب في تحقيق الحياة على المستويين النظري والعملي. فالأمة الموحدة ثقافيا هي التي يلتقي أبناءها في أسلوب واحد أو متقارب على الأقل في معالجة القضايا نظريا، وفي الإنجاز العملي للحياة نظماً إدارية واقتصادية وعمرانية، وفنوناً وعلاقات اجتماعية وتقاليد وعادات.

وهذا الأسلوب الموحد، لا يتحقق إلا بتوفير مناخ من حرية الرأي تنفتح فيه العقول على المعطيات الكاملة للعنصرين معاً: القيم الدينية الثابتة، والكسب المعرفي الإنساني.

وفي الأخير نقول: إن حرية الرأي تعد بحق مدخلا مهما إلى الوحدة بين المسلمين، وذلك بما تحدثه في العقول من خصائص منهجية مشتركة تتكون بالتلاقي والحوار والتبادل فتنشأ من ذلك وحدة فكرية بالمعنى المنهجي، تفضي إلى التقارب في التحليل والتعليل والحكم، ينهي بالمسلمين إلى الوحدة في الأهداف، والوحدة في طرق الإنجاز الموصلة إلى تلك الأهداف.

وقد دّلنا القرآن الكريم إلى أن جامع الأمة إنما هو حرية الرأي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن ذلك هو معقد الفلاح فقال، عز من قائل (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب أليم) [آل عمران 104-105].

فالاختلاف حالة طبيعية، متناغمة مع نواميس الوجود الإنساني. إذ اقتضت مشيئة الله سبحانه وتعالى، أن يخلق الناس مختلفين في قدراتهم الفكرية، وأمزجتهم وأذواقهم. فتختلف بسبب ذلك أنظارهم وأفهامهم. ويعطي هذا الاختلاف والتنوع للحياة مظهر التجدد، ويبعدها عن التكرار والرتابة، ويمكن من تنويع الإنتاج الإنساني، ومن تكثير الصور الفكرية للموضوع الواحد.

ويظل هذا الاختلاف المنتج للتنوع إيجابيا ومفيدا، ما دام نابعا من تلك الفروق الفطرية، وعن التباين الموضوعي في البحث عن الحق وهذا الاختلاف في حدوده الطبيعية هو أصل الوحدة، ومنبع التقدم والتطور، وما علينا إلا أن ننـزع من أذهاننا روح التشاؤم، ونعمق روح الثقة بالعقل والإنسان.

عنذئد يصبح الحوار –ونحن مختلفين– ممكنا ويصبح الاحترام المتبادل شرطا لاستمرار هذا الحوار. فالاختلاف الذي يسمح به الشرع، هو نتيجة طبيعية ومنطقية لمشروعية الاجتهاد، لأنه من المستحيل القبول بالاجتهاد دون القبول بآثاره الـتي من جملتها اختلاف نظر المجتهدين. ولكننا في الوقت الذي نعتبر فيه أن الاختلاف حالة طبيعية مرتبطة بالوجود الإنساني، نرفض الاختلاف المطلق أو ما يصطلح عليه بـ (الاختلاف من أجل الاختلاف)، لأن معنى هذا الاختلاف هو التشتيت الدائم والمستمر للآراء والأفكار، ويبقى كل منها منغلقا على ذاته، رافضا للآخر؟، كل منها يشكل عصبية لا تقبل التعايش والحوار، فهو صـراع عصبوي حتى لو تجلبب بجلباب الاختلاف.

فالاختلاف في حدوده الطبيعية، ليس مرضا يجب التخلص منه والقضاء عليه، بل هو محرك الأمم نحو الأفضل، ومصدر ديناميتها، وهو يقود بالإدارة الحسنة إلى المزيد من النضج والوعي والتكامل.

والوحدة ليست توحيدا قسريا بين الناس، بل هي الإجابة الإنسانية الواعية عن السؤال.. التحدي:

كيف تنجح الأمة في إدارة اختلافاتها، وتفقه أن تتعاون مع بعضها البعض، دون أن تتطابق وجهات النظر في كل شيء؟

اضف تعليق