لم تخضع الدولة العربية الحديثة الى نظرية معينة في التأسيس لها، ونشأتها كانت بمحض المصادفة التاريخية الخارجة على ارادتها أو بالأحرى على ارادة شعوبها، فلم تشهد الدولة العربية الحديثة تطورا تاريخيا داخليا، أو نتجت عن تراكمات وقائع وأحداث داخلية مهدت لمثيلاتها أو شبيهاتها في حالات...
لم تخضع الدولة العربية الحديثة الى نظرية معينة في التأسيس لها، ونشأتها كانت بمحض المصادفة التاريخية الخارجة على ارادتها أو بالأحرى على ارادة شعوبها، فلم تشهد الدولة العربية الحديثة تطورا تاريخيا داخليا، أو نتجت عن تراكمات وقائع وأحداث داخلية مهدت لمثيلاتها أو شبيهاتها في حالات مجتمعات أخرى الى ظهور الدولة، فلم تمر مجتمعاتنا بمراحل التأسيس للدولة وفق سياقاتها التاريخية والاجتماعية ووفق الضرورات التي تؤدي الى ظهور الدولة لاسيما السياقات والضرورات الاقتصادية وتطورات الوعي السياسي والاداري التي تقف خلف ظهور الدولة الحديثة.
ورغم وجود اتجاهات نخبوية عربية قبل الحرب العالمية الأولى تكشف عن إمكانات أو مطالبات بناء الدولة العربية بصيغتها القومية العامة التي تبنتها ودعت اليها الجمعيات العربية السرية، إلا انها كانت تركز على الاستقلال القومي والاداري ضمن اطار نظام اللامركزية الذي كانت تدعو تلك الجمعيات العربية الى العمل به وتطبيقه في السياسات الداخلية للدولة العثمانية، وكانت في مطالباتها السياسية أكثر تركيزا عليه من مطالبات الاستقلال السياسي الذي هو الشرط الأساس في الدولة مع وجود جزئي للمطالبات بالاستقلال السياسي تبنت المطالبة به جمعيات سورية ولبنانية كان المسيحيون العرب يشكلون فيها نسبة كبيرة اضافة الى أعداد من المسلمين بينهم. وكان بعض هذه الجمعيات العربية أقصى ما تطالب هو الحكم الذاتي ضمن الرقعة الشاملة للدولة العثمانية.
وقد نستثني دولة مصر في زمن محمد علي باشا الذي اعتلى عرش مصر في العام 1805م وبذل محاولات التأسيس للدولة الحديثة في مصر بل استطاع أن يضم الى دولة مصر السودان وبلاد الحجاز وبلاد الشام، وكان يتبع القاعدة الاساسية في عصره في إنشاء الدولة وهي إعداد جيش قوي وحكم عسكري يلتزم بنظام حكم مركزي حاد، لكن نجاحاته كانت محدودة زمنيا رغم إتساعها مكانيا، ولم يستطع نظام حكم محمد علي باشا تجاوز العقبات الخارجية العثمانية والأوربية التي حالت دون اكتمال بناء الدولة في مصر.
وهناك من الكتاب العرب من يعتبر الحركة الوهابية في عصر ظهورها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي قد أسست أو سعت الى تأسيس دولة عربية في الجزيرة العربية، لكن الحركة الوهابية كانت تفتقر الى العلم بشروط التأسيس والادارة الملائمة للدولة الحديثة وهي الشروط التي أتقنها محمد علي باشا الكبير وكان التعصب الديني في الحركة الوهابية حائلا استراتيجيا في بناء الدولة الحديثة في الجزيرة العربية.
وضمن المحاولات الفكرية التي كانت تتهيأ لمقترح الدولة العربية الحديثة كانت أفكار النهضوي السوري عبد الرحمن الكواكبي والسوري نجيب عازوري، وقد اعتبرت البداية الحقيقية لأفكار القومية العربية، وكانت كتابات الكواكبي في منفاه في مصر تدعو الى الحكم النيابي والى التخلص من الاستبداد الذي يمارسه السلاطين العثمانيون ويدعو الى نزع الخلافة من الترك واعادتها الى العرب، وعلى طريقة الفقهاء القدامى اشترط أن يكون الخليفة قرشيا لكنه حدد سلطته الزمنية ببلاد الحجاز بينما تمتد سلطته الروحية على كافة بلاد المسلمين، ونجد فيها فصلا واضحا للدين عن السياسة وهي أول الخطوات النظرية في بناء الدولة العربية الحديثة، وان كنا نجد في فصل الدين عن السياسة لدى الكواكبي منهجية قد لا تخلو من التداخل بينهما في الواقع العملي، لكن المهم في دعوات الكواكبي الاصلاحية- السياسية هو دعوته الى انفصال العرب عن الترك في الدولة العربية الخاصة بهم.
وكان يؤيده في هذا التوجه القومي نجيب عازوري الذي نادى بانفصال العرب عن الترك وداعيا الى إنشاء دولة عربية تضم شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب، ودعا الى قيام خليفة عربي يحكم الحجاز وتمتد سلطته الدينية الى جميع المسلمين، وأكد عازوري على الحرية الدينية في هذه الدولة العربية والمساواة بين الحقوق والواجبات لجميع المواطنين، وهي ممهدات نظرية في الدولة العربية الحديثة لا سيما في تأكيده على القومية التي كانت حجر الزاوية في بناء الدولة الحديثة في أوربا، وقد تأثرت بها كل الحركات النهضوية والجمعيات الاصلاحية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي في البلاد العربية في ظل هيمنة الدولة العثمانية – فيما يتعلق بالمعلومات التاريخية راجع الحركة العربية المرحلة الاولى للنهضة العربية، سليمان موسى-
وقد ظلت الملاحظات البحثية في الدراسات العربية تشير دائما الى أهمية العام 1908 م في تأثيره على المسار القومي لدى العرب، فهو العام الذي شهد ما عرف تاريخيا بالانقلاب الدستوري الذي بموجبه خضع السلطان عبد الحميد الثاني الى ارادة الدستوريين من العثمانيين وأغلبهم من الترك وبعض العرب ورجال من أديان واثنيات تشكل أقليات معترف بها في الدولة العثمانية، وقد وصف سليمان البستاني سعادة هؤلاء الرجال المتعددي الاديان والاثنيات باعلان الدستور في هذا العام بقوله "رأيناهم يوم إعلانه ملتفين حواليه يتعانق منهم الإمام والقسيس والحاخام يُشهدون العالم أجمع على تآخيهم، وتترقرق دموع الفرح من مآقيهم، فرجاؤنا أن يظل هذا التصافي محكم البنود، وثيق العرى، فإنهم لا يزالون في جميع البلاد العثمانية ذوي المكانة العالية والنفوذ البعيد. فإذا تقدموا على هذا النهج القويم تبعتهم أمم وزادوا مكانة واحتراما ومكنُوا سعادة مواطنيهم ".-راجع الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده، سليمان البستاني–.
واصبح الحكم يمثل إرادة الأمة والشعوب المنضوية تحت لواء الحكم العثماني واعتبره البعض بهذا خاتمة للدور السياسي للوازع الديني-الاسلامي الذي كانت تتأسس وفقه الدولة العثمانية، وبموجبه منح الشريف أمير مكة وبما يحمله منصبه من رمزية دينية–اسلامية منح السلطان العثماني لقب خادم الحرمين الشريفين –راجع الثورة العربية الكبرى، أمين سعيد– وبذلك يكون الانقلاب الدستوري في العام 1908م والذي كان يؤسس للإصلاحات السياسية في الدولة العثمانية عاملا تاريخيا مهما في إقصاء مقترح الدولة العربية ومانعا سياسيا بل وحتى دينيا من التفكير بها او الدعوة اليها.
ولكن مع نشوب الحرب العالمية الأولى وانضمام الدولة العثمانية الى دول المحور انبعث الأمل السياسي عند العرب النهضويين من جديد فانضموا الى محور الحلفاء نكاية بالدولة العثمانية من جهة، وعلى امل انجاز الحلفاء لوعدهم في تحقيق حلم الدولة العربية برئاسة الشريف حسين وكانت مراسلات حسين – مكماهون الشهيرة أول أدبيات العرب السياسية التي تتحدث بشكل رسمي عن الدولة العربية الحديثة وبتأييد بريطانيا العظمى في ذلك العصر، ورغم أن الأمل أجهض وتخلت بريطانيا عن التزاماتها تجاه العرب عامة وتجاه الشريف حسين خاصة، إلا أن انتصار الحلفاء وسقوط الدولة العثمانية كانت بمثابة المصادفة التاريخية التي هيأت الدولة العربية الحديثة الى الظهور بعد الحرب العالمية الأولى، وما يبرر تصنيفها بالمصادفة أنها جاءت على غير موعد تاريخي مع العرب أو ظهرت بمعزل عن تطورات تاريخية ضرورية في نشأة الدولة وتأسيسها، ولأنها اقترنت بالمصادفة التاريخية الخارجية فإنها ظلت أسيرة التطورات الخارجية التي حدثت في العالم في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفقدت القرار السياسي الخاص بها والمستقل أو فقدت القدرة على تنفيذه.
وقد فرضت أيضا تلك التطورات الخارجية واقعة الدولة العبرية/اسرائيل على المنطقة العربية مما يجعلها دولة مشمولة بمنظومة التفسيرات التي تنطبق على الدولة العربية الحديثة بارتهان تأسيسها وحضورها بالإرادة والأداة السياسية الخارجية.
والدولة العربية الحديثة وفق منطق التأسيس هذا لم تكن تمر بمسارات وأدوار التكوين للدولة في العمق، أو بعبارة أخرى أن مجتمعاتها ظلت طارئة على التكوين التاريخي–الاجتماعي للدولة، ذلك أن المجتمعات هي أعماق الدول والدولة هي نتاج تاريخي للوقائع الاقتصادية والاجتماعية ومن ثم السياسية في المجتمع، والدولة التي تفتقر الى هذا العمق التاريخي والاجتماعي الضروري تظل دولة طافية على السطح السياسي والاجتماعي في علاقتها بذاتها وعلاقتها بمجتمعها، والدولة العربية الحديثة تعد نموذجا مؤلما لهذه الدولة الهلامية.
ولم تكن الحركات السياسية والثورات العربية في ظل هيمنة الحلفاء–الاستعمار مع الاعتزاز بالقيم التي تمثلتها تلك الحركات والثورات والفضيلة القومية التي التزمت بها، لم تكن قادرة على انجاز التأسيس في الدولة وبناءها بالقدر الذي وضعت نصب عينيها مهمة تشكيل النظام السياسي الذي يوافق تراث العرب وثقافتهم السياسية والاجتماعية، وقد نجحت في هذا المسعى. فقد تشكلت الأنظمة السياسية العربية الملكية بالتشارك مع الحلفاء لكن الحلفاء كانوا قد انفردوا بتأسيس الدولة العربية الحديثة بحدودها وبرسومها وبسياساتها تحت نظام الوصاية ومن ثم الانتداب الذي كان الحلفاء يستمدون منهما شرعية التأسيس للدولة العربية في التاريخ الحديث.
وكان يرافق هذا التأسيس للدولة العربية الحديثة تأسيس جيوشها وبناء النظرية العسكرية القتالية التي تدور حول الدفاع عن الدولة وتوظيف نظرية الدفاع هذه في الدفاع عن نظام الحكم القائم في هذه الدولة، وهذا التزامن بين كلا التأسيسين للدولة والجيش صنع هذا الارتهان بين الدولة العربية الحديثة والجيش أو بالأحرى ارتهان هذه الدولة بالجيش.
اضف تعليق