الفلسفة النيتروسوفية، هي نمط معرفي وعلمي وفلسفي جديد، له خصوصيته وفاعليته وخصائصه، وهي تعني الفكر المحايد، والنيوتروسوفيا كلمة مؤلفة من مقطعين الأول بمعنى محايد، والثاني بمعنى حكمة، ومن ثم أصبح معنى الكلمة معرفة الفكر المحايد، وهو فرع جديد للفلسفة التي تدرس أصل وطبيعة ومجال الحياد...

الاختلاف لا الخلاف، والتنوع والتعدد في الآراء والافكار، هو ما يميز الفلسفة والفكر الفلسفي عن غيره من أنماط التفكير، وهذا ما شكل طريقة تفكير الفيلسوف، وأدى الى تعدد الفلسفات وكثرة الفلاسفة وتنوع المناهج والمذاهب الفلسفية، وقد تعددت الخيارات الفلسفية لدى المتلقي، واصبح من حقه أن يختار ما يريد وما يرغب وما يرفض من أفكار وفلسفات، حسب حريته الفكرية والثقافية واختياره المعرفي، وهذه الحرية والاختيار المتواجد في التفكير الفلسفي تتسم بالمسؤولية والاقتناع الشخصي التام بما يتجه اليه الشخص من افكار وآراء ونظريات، وهو ايمان وقناعة وحرية لا تتاح الا في المجال الفلسفي والعلمي.

بينما في انماط التفكير والمجالات الاخرى قد تكون السلطة اكثر ضغطاً وعنفاً ومركزية وهيمنة على الانسان، ولا تتيح له تعدد الخيارات وتمحيص الافكار ونقدها ورفضها، وليست هنالك مساحة من الحرية واتاحة الاحتمالات ومحاربة المسلمات والقضايا المطلقة ومحاولة اكتشاف صدقها من كذبها، هذا ببساطة ما جعل الفلسفة نظاماً معرفياً وفكرياً مغرياً للبعض، وعصياً ومرعباً للبعض الآخر، ومرفوضاً من قبل التقليديين من المتلقين، ومحاربة ومواجهة من يتبنى ذلك النمط الحر من التفكير على مر التاريخ، وقد دفع أتباع الفكر الحر والفكر الفلسفي تحديداً ضريبة كبيرة وتضحيات جسيمة جراء ذلك الواقع السيء وتلك الخصومة والعنف الفكري والنفسي والجسدي الذي تعرضوا له طوال التاريخ ولا يزال.

والفلسفة النيتروسوفية (Neutrosophic philosophy)، هي نمط معرفي وعلمي وفلسفي جديد، له خصوصيته وفاعليته وخصائصه، وهي تعني الفكر المحايد، والنيوتروسوفيا (Neutrosophy) كلمة مؤلفة من مقطعين Neutro الأول بمعنى محايد، والثاني Sophia بمعنى حكمة، ومن ثم اصبح معنى الكلمة معرفة الفكر المحايد، وهو فرع جديد للفلسفة التي تدرس أصل وطبيعة ومجال الحياد، بالإضافة إلى تفاعلاتهم بالأطياف التصورية المختلفة. وهي فلسفة جديدة تم طرحها من قبل فلورنتن سمايرنديكي (Florentin Smarandache)، العالم والمفكر والفيلسوف والاديب الروماني الامريكي(*).

وتتبنى هذه الفلسفة المواقف المحايدة دائماً، والتي ترفض الثنائيات، وتؤمن بالابعاد المتعددة والمتنوعة للافكار والاراء والمواقف وقضايا العلم والفكر والفلسفة والحياة والمجتمع، والاختلاف في الاختلاف، ليعطي لنا رأياً جديداً، قد لا يكون موافقاً ولا رافضاً وانما رأياً ثالثاً ورابعاً وخامساً، وهي ايضاً كما يعبر عنها مؤسسها بأنها فلسفة في الفلسفة وفكر في الفكر، يحاكم جميع الآراء والافكار المطروحة، أبيضها وأسودها، وكذلك رماديها، ليقدم رؤية جديدة، وأحتمالاً آخراً يضاف الى سلسلة الحقائق، ويوسع من الحقيقة نفسها، ولا يقرنها ولا يحصرها بحدين فقط، بين حق وباطل، وخير وشر، وجمال وقبح، وصادق وكاذب، بل يوسع كل الدوائر ويبحث حتى في المستحيلات، فلا شيء يقف امامه، ولا يوجد مطلق في الفلسفة النيتروسوفية، حتى المطلق نفسه، فكل شيء يخضع لمنطق المعالجة والاحتمال والتعدد.

وهذه الفلسفة وهذا المنهج والمنطق ما كان ليكون لمؤسسه لولا الجانب والفكر والتخصص العلمي الذي ينطلق منه في الدراسة والتحليل، وهي ليست فلسفة مادية كما قد يظن البعض من خلال منهجها العلمي والفلسفي، بل لها بعداً ميتافيزيقياً وسحرياً جميل، يجذب نحوها الكثير من المتلقين، لما تعطيه من مساحة وسعة في الطرح والتفكير والتحليل. وتناقش الآراء والافكار الدينية والصوفية والميتافيزيقية الى جانب الافكار العلمية والفلسفية والفيزيقية، فهي فلسفة ومنهج وطريقة جديدة في التفكير تضاف الى المناهج والفلسفات المتعددة، وقد وضع سمايرنديكي فلسفته النيتروسوفية في العديد من مؤلفاته العلمية والفلسفية والتي منها:

1ـ Neutrality and Many-Valued Logics.

2ـ Neutrosophic Dialogues.

3ـ Neutrosophy in Arabic Philosophy (الفلسفة العربية من منظور نيتروسوفي) وقد أشترك معه في تأليفه الدكتور صلاح عثمان، أستاذ الفلسفة والعلم في جامعة المنوفية في مصر، وتم ترجمته من قبل الاخير عام 2007، ويتألف الكتاب من قسمين، حيث كتب القسم الاول منه سمايرنديكي والقسم الثاني كتبه صلاح عثمان. هذا بالاضافة الى العشرات من المؤلفات والكتابات والبحوث التي وضع سمايريرنديكي فيها فلسفته النيتروسوفية، تلك الفلسفة التي فيها من العلم والرياضيات والفلسفة والفن والادب، بتنوع العلوم والفنون.

وتمتاز طريقة التفكير حسب الفلسفة النيتروسوفية بالسمات الاتية:

1ـ تقترح قضايا، ومبادئ، وقوانين، ومناهج، وصيغ، وحركات فلسفية جديدة.

2ـ تميط اللثام عن نمط اللاتحديدية المكتنف لعالمنا.

3- تؤول غير القابل للتأويل.

4ـ تنظر - من زوايا مختلفة - في التصورات والأنساق القديمة، حيث توضح أن أية فكرة صادقة في نسق إسنادي معين يمكن أن تكون كاذبة في نسق آخر، والعكس بالعكس.

5- تسعى إلى نشر السلام بين الأفكار المتحاربة، وإلى إيقاد نار الحرب بين الأفكار التي تعيش في سلام.

6ـ تقيس مدى استقرار الأنساق غير المستقرة، ومدى عدم استقرار الأنساق المستقرة.

وبمثال تبسيطي نبين فيه طبيعة التفكير النيتروسوفي في قضية منطقية تم اقتباسها من الكتاب الذي أعتمدناه في كتابة هذا الموضوع، والذي هو:

لنفرض أن (أ) هي فكرة، أو قضية، نظرية، حدث، كيان ...، وأن (ليس أ) هي نفي (أ)، وأن (نقيض أ) هي مضاد (أ). ولنفرض أيضاً أن (حياد أ) تعني ما لا هو (أ) ولا (نقيض أ). أي أن الحيادية تقع فيما بين النهايتين. ولنفرض كذلك أن (أ) هي نسخة من (أ). وعلى هذا النحو نجد أن (ليس أ) مختلفة عن (نقيض أ)، فعلى سبيل المثال:

إذا كانت (أ) = أبيض، فإن (نقيض أ) = أسود (تناقض الدلالة).

لكن (ليس أ) = أخضر، أحمر، أزرق، أصفر، أسود، إلخ (أي لون فيما عدا الأبيض).

بينما (حياد أ) = أخضر، أحمر، أزرق، أصفر، إلخ (أي لون فيما عدا الأبيض والأسود).

ولعل سائل يسأل ما هو الهدف من هذه الفلسفة وما جدواها، وما هي المرامي التي سعى من اجلها مؤسسها، والنقاط الآتية تبين جدوى تلك الفلسفة وهدفها الاساس وهي:

1ـ تهدف إلى بناء مجال موحد في الإنسانيات.

2ـ تستكشف الاختلافات بين: المفكرين، المدارس، والحركات، والنظريات، والمبادئ الفلسفية؛ 3ـ تميط اللثام عن أنه ليس ثمة مدرسة فكرية أفضل من أخرى، وليس ثمة فيلسوف أعظم من آخر.

4ـ هي محاولة للتوفيق بين وجهات النظر الأبية والمسالمة.

5ـ تُوضح أن الصدق قد لا يكون منفصلاً عن الكذب.

6ـ إذا صرح فيلسوف ما بقضية معينة (ق)، حاول أن تفكر في عكسها، وأن تقارنها أيضاً بـ (حياد ق).

التفكير النيتروسوفي من ميدان العلم والفلسفة الى ميدان المجتمع والحياة، اشتغال المفكر سمايرنديكي في ميدان الرياضيات والعلم والفلسفة جعله يسعى للتوظيف بين هذه الحقول المعرفية، وأن يداخل ويمازج بين التخصصات، ليستفيد من خصائص وطريقة كل واحد منها ويمازجه مع الأخر، وهذا ما جعله رائداً في مجال فلسفة العلم، والاستفادة من العلم والفلسفة في مجالات مختلفة، وهذا التمازج بين الحقول المعرفية المختلفة هو الذي جعله مؤسساً لنمط جديد من التفكير، ومنطقاً ومنهجاً مغايراً للتفكير العلمي والفلسفي، ولكنه يقتبس منهما ويختلف عنهما في نفس الوقت، انها الفلسفة النيتروسوفية، او التفكير النيروسوفي، والمنطق النيتروسوفي، الابن الجديد للفلسفة والعلم والرياضيات، الذي لديه من الصفات والخصائص ما لدى الابن من آبائه وما يختلف عنهما في نفس الوقت.

فعلاً ان ما فعله سمايرنديكي انما هي ضربة فنان، انه يحترف الرسم والشعر والادب، الى جانب الرياضيات والعلم والفلسفة، وبالتالي تأسيسه لهذا النمط من التفكير ينم عن ذكاء وفطنة وموهبة، في توظيف كثير من الفنون والعلوم والمناهج، بمختلف معارفها ومناهجها ليؤسس لنا نمطاً اشبه بالفسيفساء الجميلة التي تحمل الكثير من التنوعات والاختلافات التي تجذب الكثير، وهذا النمط من التفكير يقوم اساساً على الاختلاف والتنوع ومتعدد الابعاد، لا ثنائي ولا ثلاثي، بل رباعي وخماسي وسداسي....الخ.

نمط جديد من التفكير يغادر انماط التفكير الاحادية والمتفردة وذات الانساق المتصلبة والمنطق السكوني، ويؤمن بالحركة والامتداد والاحتمالية، نمط من التفكير متعاون مع الجميع، يأخذ ويعطي، ولا يعادي أحد، ولا يؤمن بالاقصاء والتهميش، فما أحرانا الى هكذا نمط جديد من التفكير نستعين به لمعالجة الكثير من قضايانا العلمية والعملية والحياتية والاجتماعية، وهذا فعلاً ما عمل على تطبيقه سمايرنديكي وسعى اليه جاهداً في فلسفته الجديدة، وهي محاولة نقل هذا النمط من التفكير من ميدان العلم والفلسفة الى ميدان الاجتماع والحياة والممارسة، ليمكن الاستفادة من صفات وخصائص هذه الطريقة من التفكير في حياتنا، لتسهم في ايماننا بذواتنا وايماننا بالآخر ايضاً، على درجة واحدة من الاهمية والضرورة، لنؤمن بأننا ذوات مختلفة في هذا العالم لا ذاتاً واحدة، لنؤمن بضرورة الاختلاف والتنوع كضرورة الاتفاق والانسجام بين الاشياء، فهذا هو منطق الحياة والتاريخ والوجود، منطق متعدد القيم والاحتمالات.

لقد اراد سمايرنديكي الاستفادة من هذا المنطق وطريقة التفكير تلك وتوظيفها في ميدان المجتمع والحياة، فاذا كانت تلك الطريقة قد اثبتت نجاحها وجدواها في مجال الرياضيات والعلوم والفلسفة، فما احوجنا لتطبيقها على المجتمع والواقع الذي نعيشه، وأن نكتسب صفات وخصائص ذلك التفكير، لأنه يؤمن بالآخر والمختلف، وهو يحرر الذات من عقدها ومن فزعها من الآخر، الذي لا ينسجم وما تصبو اليه الذات من تطابق وتوافق، وبالتالي قد يكون هذا المختلف وفق التفكير النيتروسوفي، شريكاً أو عضواً أو رقماً أو عنصراً في تكوين معادلة ما، أو قضية أو مسألة ما، من مسائل الحياة أو المجتمع او العالم الذي يجمعنا بمختلف تنوعاتنا واختلافاتنا وتوجهاتنا.

وبالتالي سيكون لكل شخص أو جماعة أو مكون ما خصوصية وكينونة تحمل بصمته الخاصة به، كالتي للعناصر الكيمائية والفيزيائية والارقام والرموز الرياضية، وعند ذلك سيكون لكل موجود ولكل فرد في هذا العالم أثراً ووظيفة يؤديها، كل حسب بيئته ومحيطه ومجتمعه وظروفه الخاصة به، على أن لا تكون تلك الخصوصية والهوية والانتماء الذي يمتلكه الشخص عبئاً على الآخرين، وأن لا تكون أيديولوجية مطلقة وموجهة ومفروضة على الجميع، وانما يكون روح الحوار والنقاش والاقناع هو الوسيلة التي يؤمن بها الجميع، من دون قمع أو عنف أو اكراه، وهذا هو المنطق والتفكير الذي نحتاج اليه اليوم في ممارسة حياتنا، واستمرار وجودنا، وتحقيق أهدافنا الانسانية في هذا العالم.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.
* د. رائد جبار كاظم -كاتب وباحث أكاديمي عراقي- أستاذ الفلسفة المساعد في الجامعة المستنصرية.
raedjk777@yahoo.com

اضف تعليق