كثير مما ورد في خطاب ترامب كان معلوماً بل وتم تطبيقه على أرض الواقع كالقدس عاصمة لإسرائيل وضم المستوطنات وتجاهل قضية اللاجئين، وما يمكن اعتباره جديداً أو لم يكن واضحا في التسريبات السابقة هو حديثه عن أنه في حالة قبول الفلسطينيين بالخطة ستكون لهم دولة...
في مؤتمر أقرب لحفل إشهار فرح أو عرس تخللته الابتسامات والغمزات والتصفيقات والمديح المتبادل والتوافق التام، أعلن الرئيس ترامب عما نعتها بـ (مبادرة السلام) والتي بَشَّر بها أثناء حملته الانتخابية عام 2017. كثير مما ورد في خطاب ترامب كان معلوماً بل وتم تطبيقه على أرض الواقع كالقدس عاصمة لإسرائيل وضم المستوطنات وتجاهل قضية اللاجئين، وما يمكن اعتباره جديداً أو لم يكن واضحا في التسريبات السابقة هو حديثه عن أنه في حالة قبول الفلسطينيين بالخطة ستكون لهم دولة فلسطينية ضمن الحدود التي وضَّحها في الخريطة التي نشرها على حسابه الخاص، وهي دولة منزوعة السلاح، بدون سيادة، بدون حدود مع دول الجوار العربي سوريا ولبنان والأردن، متصلة مع بعضها بأنفاق وجسور تسيطر عليها إسرائيل، على مساحة تنتقص حوالي 30% من مساحة الـ 22% وهي مساحة الدولة التي يطالب بها الفلسطينيون والتي تعترف لهم بها الشرعية الدولية، والوصول لهذه الدولة سيكون بعد مفاوضات مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مع التلويح بإغراءات مالية.
مع أن مبادرة ترامب تم إعدادها من طرف أمريكيين يهود وبالتنسيق الكامل مع إسرائيل إلا أن نتنياهو وفي خطابه الذي ألقاه مباشرة بعد ترامب وبالرغم من أنه أعلن موافقته على المبادرة إلا أنه وضع اشتراطات نسفت المبادرة مما يذكرنا بالاشتراطات أو التحفظات الأربع عشر التي وضعها أرييل شارون على خطة خارطة الطريق التي وضعتها الرباعية الدولية عام 2002 مما نسف الخطة وأوصلها لطريق مسدود.
فعندما يقول نتنياهو أنه يوافق على مبادرة ترامب وفي نفس الوقت يقول إن الخطة تمنحه الحق بضم الغور والمستوطنات، وأن يهودا والسامرة (الضفة الغربية) ليست أراضي محتلة، وأن المبادرة تعترف بيهودية الدولة، وأن مشكلة اللاجئين تُحل خارج دولة إسرائيل، ولا يذكر شيئاً عن دولة فلسطينية وأن هناك فترة اختبار لمدة اربع سنوات سيستمر الوضع على حاله، يقول كل ذلك دون أن يُعقب ترامب ولو بكلمة واحدة فهذا معناه أن هناك ما هو غير مُعلن في المبادرة.
خطورة مبادرة ترامب لا تكمن فقط في انتقاص أراضي الدولة الفلسطينية وفي الشروط التي وضعها، بل في كونها منحت حالاً لإسرائيل ما تريد كالقدس وضم المستوطنات والغور وتأمين حدودها، أما ما يتعلق بالفلسطينيين فمتروك للمفاوضات حيث قال ترامب إنها خطة افتراضية تشكل أساساً لمفاوضات ستؤدي للسلام في المنطقة، والعودة للمفاوضات في ظل الوضع الفلسطيني المنقسم على ذاته، والوضع العربي الضعيف، والوضع الدولي المرتبك وغير الواضح، ومع غياب الأمم المتحدة والمرجعية الدولية، فهذا سيؤدي لمفاوضات ستكون أكثر عبثية من المفاوضات التي استمرت لخمس وعشرين سنة في إطار تسوية أوسلو.
كثير من الملاحظات التي يمكن تسجيلها على ما تسمى صفقة القرن أو العصر، وهي في حقيقتها صفقة بين ترامب ونتنياهو فقط لإثارة فتنة فلسطينية داخلية من خلال مطلب نزع سلاح غزة وخصوصاً حركة حماس والجهاد الإسلامي وتصفية القضية الفلسطينية، ولكن ما هو أخطر من الصفقة والذي يثير القلق هو ردود الفعل الواهية والمثيرة للريبة سواء من الأنظمة العربية مثل حضور سفراء ثلاثة دول عربية ومواقف ملتبسة لدول عربية أخرى أقرب للتأييد والموافقة على المبادرة، أو من منظمة المؤتمر الإسلامي أو من الأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي، والأكثر خطورة هزال ردة الفعل الفلسطينية الشعبية والرسمية.
عندما تقتصر ردة الفعل الفلسطينية على تكرار الخطابات والشعارات ورفض الصفقة والتمسك بالثوابت، وعندما تطالب القيادات من الشعب أن ينزل للشارع في مقاومة سلمية دون وجود استراتيجية وطنية للرد ودون أن تكون هذه القيادات في المقدمة، عندما تسير الأمور في الضفة وغزة وحتى في الشتات بشكل طبيعي باستثناء بعض المظاهرات والمسيرات التي يشارك فيها عشرات أو مئات فقط بينما عندما كانت تُحيي الأحزاب ذكرى انطلاقتها أو تريد استعراض قوتها كانت تتباهى بالحشود المليونية؟
وعندما تلتزم فصائل المقاومة بالهدنة وهي التي كانت تمطر إسرائيل بالصواريخ لمجرد مقتل أحد قادتها أو لمجرد إعلان الحضور وللمناكفة السياسية أو بتعليمات من الخارج، وعندما لا تتخذ السلطة أي موقف تجاه الدول التي تؤيد صفقة ترامب-نتنياهو.... عندما تكون ردة الفعل بهذا الشكل فمعناه أحد أمرين، إما أن الطبقة السياسية فاشلة وعاجزة أو أن هناك قوى نافذة فيها متواطئة، وإن استمرت ردود الفعل بهذا الشكل فستكون أفضل حافز وتشجيع لترامب ونتنياهو على الاستمرار بفرض الصفقة على أرض الواقع دون خوف من ردود فعل ذات تأثير.
أما بالنسبة لحديث الرئيس أبو مازن عن تغيير وظيفة السلطة. فبينما كان البعض يتوقع أن يُعلن الرئيس تطبيق قرارات المجلس المركزي المتعاقبة وحل السلطة الوطنية وسحب الاعتراف بإسرائيل أعلن عن إعادة تغيير وظيفة السلطة.ومعنى تغيير وظيفة السلطة أمر يحتاج لتوضيح والتفكير به جديا، لأن حل السلطة قد يكون مغامرة لا تُحمد عقباها، وقد كتبنا مقالاً عام 2010 بعنوان (تغيير وظيفة السلطة بدلا من حلها ) وذلك رداً على وقف المفاوضات واستمرار الاستيطان، ولو تم مباشرة تغيير وظيفة السلطة آنذاك ما وصلنا للوضع الذي نمر به اليوم، ولكن ماذا يعني تغيير وظيفة السلطة؟ وهل هو كافي للرد على صفقة القرن؟.
حتى يكون تغيير وظيفة السلطة مدخلاً وطنياً لمواجهة صفقة ترامب نتنياهو - يجب أن يتضمن التغيير إعادة النظر بشكل التنسيق الأمني وبروتوكول باريس الاقتصادي، توظيف أموال الدعم الخارجي للسلطة بما يخدم صمود الشعب الفلسطيني، الاستمرار بالتمسك بالحقوق والثوابت الوطنية، تفعيل منظمة التحرير وإعادة بنائها كحركة تحرر وطني، إنجاز المصالحة بعيداً عن المكابرات السياسية فإن نقدم تنازلات لبعضنا البعض أشرف من تقديمها للعدو، إدخال تغييرات عميقة في الطبقة السياسية من خلال انتخابات عاجلة، تفعيل المقاومة الشعبية في كل ربوع الوطن، مقاطعة شاملة للمنتجات الإسرائيلية، وأهم عنصر هو توحيد مرجعيات الشعب والسلطة من خلال إنهاء الانقسام.
تغيير وظيفة السلطة معناه إعلان الدولة الفلسطينية وأن تصبح السلطة سلطة دولة خاضعة للاحتلال وجزءاً من حركة نهوض وطني شعبي شامل وتدخل في مواجهة مع إسرائيل وهذا هو جوهر فكرة السلطة الفلسطينية كما وردت في النقاط العشر للبرنامج المرحلي لمنظمة التحرير عام 1974 الذي تحدث عن سلطة وطنية مقاتلة على أية اًرض نحررها أو تُعطى لنا، ولتُقدِم تل ابيب وواشنطن على حل السلطة أو خلق سلطة بديلة تابعة لهما، آنذاك ستتحملان مسؤولية انهيار التسوية والسلام، ونعتقد أن كثيرين من داخل السلطة بما فيهم عناصر الأجهزة الأمنية مستعدون ليقوموا بهذا الواجب الوطني إن لمسوا إرادة سياسية تعمل في هذا الاتجاه.
لن أكون متشائماً أو مشككاً، ولكن كل ما سمعناه خلال اليومين السابقين من دعوات للوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام واتصالات هاتفية بين أبو مازن وإسماعيل هنية مع تلميحات بزيارة ابو مازن لغزة، واجتماع للقيادة بحضور كل الفصائل، ودعوة الرئيس أبو مازن لتغيير وظيفة السلطة، ما أخشاه أن كل هذا الحراك والتفاؤل عند البعض سيتبدد بعد أيام، وسيعود كل طرف إلى مواقفه ومواقعه السابقة، قابلاً بما في يده ومنتظراً دوراً في الصفقة القادمة.
وأخيرا، صحيح أن إسرائيل تستطيع ضم الضفة كلها وتستطيع واشنطن إضعاف السلطة الفلسطينية ومحاصرة الشعب الفلسطيني ومعاقبته بالحصار، إلا أن مصير ومستقبل القضية الوطنية ليس أمرا تحدده واشنطن أو تل أبيب أو الدول العربية أو حتى النخب السياسية الفلسطينية الحاكمة بل الشعب نفسه، ونصف الشعب الفلسطيني (6 مليون) متجذر في أرضه ولن يستسلم والنصف الآخر في الشتات أيضا متمسكا بحق العودة وبالحق في دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، والرئيس ترامب ونتنياهو غير دائمين في السلطة كما أن موازين القوى الدولية والإقليمية غير دائمة، المهم إدارة حكيمة دون التسرع بإنهاء الصراع في هذا الوقت.
اضف تعليق