تعتبر النزعة إلى الحرية والانعتاق من القيود والأغلال لدى الإنسان، من النزعات الأصيلة والعميقة في وجوده الطويل. إذ لاتخلو مرحلة من مراحل حياته من البوح والتعبير المباشر وغير المباشر عنها، سواء لتحقيق هذه النزعة في الواقع الخارجي، أو للدفاع عنها من مخاطر داخلية أو خارجية..
مفتتح:
تعتبر النزعة إلى الحرية والانعتاق من القيود والأغلال لدى الإنسان، من النزعات الأصيلة والعميقة في وجوده الطويل. إذ لاتخلو مرحلة من مراحل حياته من البوح والتعبير المباشر وغير المباشر عنها، سواء لتحقيق هذه النزعة في الواقع الخارجي، أو للدفاع عنها من مخاطر داخلية أو خارجية تهدد هذه النزعة في وجودها وآفاقها.
وتعتبر حياة الإنسان السوي كلها، بحثاً مستمراً عن معنى الحرية المتأصل في وجوده وكيانه، والمتجذر في مختلف مستويات تجربته الإنسانية. والحرية كتوق إلى الكرامة، والانعتاق من كل الأغلال، والتحرر من الكوابح والقيود، إرادة طبيعية ومتأصلة لدى الإنسان. وتقر بهذه الحقيقة الأديان السماوية والمذاهب الإنسانية على السواء. وهي من ضرورات الوجود الإنساني، إذ كل المعطيات الوجدانية والدينية والحضارية تدفع إلى الاعتقاد الجازم، بأن الحرية كحاجة إنسانية هي من ضرورات حياته ووجوده، ولاتتحق إنسانيته بالكامل إلا بها. لذلك نرى أن الثقافة الإنسانية السوية، هي في جوهرها صوت الوعي بالحرية، ووسيلة اكتشاف المفارقات العميقة في أي كيان اجتماعي، من جراء غياب أو تغييب الحرية في مستوياتها المتعددة.
لذلك نستطيع القول: أنه كلما تعمق الوعي السليم بمعاني الحرية الإنسانية، كلما تقدمنا إلى الأمام في هذا المسار الصعب والتاريخي. لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يدعو الإنسان المسلم إلى رفض القوى التي تحول دون رؤية الحق والحقيقة. قال تعالى {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولا يهتدون} (1). وقال تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لايعلمون شيئاً ولايهتدون} (2).
فالإنسان المسلم مطالب قرآنياً بالتحرر من كل أنواع التسلط، حتى يتسنى له اكتشاف الحقيقة، وتحديد المواقف، وتشكيل القناعات استناداً على الفكر الحر.
والتاريخ الإنساني في مسيرته الطويلة، هو عبارة في أحد وجوهه، عن تاريخ الكفاح الإنساني للإنعتاق من كل الموانع والعقبات التي تحول دون الحرية والكرامة. فالحرية ليست ضد الأخلاق، وإنما هي صنوها وهي أس الأخلاق الاجتماعية، وهي مع القوانين والضوابط المنسجمة وفطرة الإنسان ووجدانه، وهي شرط تحقيق المجتمع التاريخي ومحرك الفعل الحضاري، وهي أساس استقلال المجتمع كونه سيداً على نفسه ومصائره المتعددة.
وحتى التعرف على الدين والدعوة إليه، تعتمد على حرية الاختيار المتجسدة في السبيل الموصل إلى الدين القائم على نفي الإكراه وعلى الاقتناع والدفع بالتي هي أحسن بعيداً عن التشنج والقهر والقسر وكل أشكال الإكراه. قال تعالى {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها والله سميع عليم} (3).
والإيمان بالله سبحانه وتعالى يتأسس على قاعدة حرية الاختيار ومسؤولية الإنسان عن فعله وكسبه، بحيث تكون ممارساته قائمة على إختياراته. قال تعالى {ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين} (4). وهذا السلوك والمنحى الذي لايناقض العدالة في الدنيا والآخرة، ولايفارق الحرية في مستوياتها المتعددة في المجتمع، هو الذي يجعل الإنسان فاعلاً، مختاراً، حراً، مسئولا عن اختياراته وأفعاله.
والحرية في الاختيار لا تعني بأي حال من الأحوال، عدم تحمل المسؤولية، والهروب من آثار اختياراته وقناعاته. قال تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولاتبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا* إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً* ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأً كبيرا} (5). فالإنسان ينبغي أن ينطلق في تحديد اختياراته من موقع التفكير والتأمل العميق، وذلك لأنه المسئول الوحيد عن إختياراته. فإذا كانت سيئة أدت به إلى المزيد من الخضوع للأهواء والشهوات، وهذا هو طريق جهنم. وإذا كانت حسنة كان فيها نجاته في الدارين. فالحرية لا تعني إطلاق أهواء الإنسان وغرائزه، وجعلها بدون ضوابط أخلاقية وقانونية. فإن الغرائز المنفلتة من كل الضوابط لا تسمى حرية، وإنما تحللاً وافتئاتا على القانون والمنظومة الأخلاقية الإنسانية. فالحرية ليست تحقيق اللذة، وإنما تحقيق الحقوق والواجبات في كل الدوائر والمجالات والمساحات.
وبداية الحرية في المنظور الإسلامي، هي نفس الإنسان، فينبغي لها أن تتحرر من كل القيود والأغلال والأهواء والنوازع التي تحول دون حريته وانعتاقه الحقيقي. فالحرية قبل أن تكون سلوكاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً، هي قدرة نفسية تتخلص من كل الأغلال والقيود، ومن النزعات المخالفة لقيمة الحرية.
وهذا يعني «أن الله أعطى للإنسان خلقه وزوده بالوسائل اللازمة التي تكفل له استمرار الحياة. وهو قادر على أن يسلب ذلك منه في كل لحظة.. ومنحه، في نطاق ذلك، الإرادة الحرة التي يستطيع من خلالها أن يمارس حريته في سلوك الطريق الذي يحلو له بعيداً عن كل ضغط تكويني. فإذا اختار الشر كان الشر فعله، من خلال الأدوات التي منحها الله له... فليس الشر مخلوقاً لله بنحو المباشرة، وليس مراداً له بنحو الرضا. ولكنه فعل الإنسان، من خلال إرادة الله التي تربط بين السبب والمسبب، فتقتضي أن يوجد المسبب وهو الفعل إذا تعلقت إرادة الفاعل المختار به، مع توفر الشروط الأخرى لوجوده. وبذلك كانت علاقة الله بالأشياء من خلال خلقه للقوانين التي تنتجها، ومن جملتها إرادة الإنسان واختياره، فلا جبر للإنسان لأن الخيط الأول في المسألة مربوط بيده وهو حرية الإرادة، ولاتفويض له، لأن الخيط الثاني، وهو وسائل القدرة بيد الله، فهو القادر أن يبقيها حيث شاء، وأن يزيلها حيث يريد» (6).
فحجر الأساس في الحرية، أنها لا تنجز إلا على أساس قوانين الحوار والاختيار لدى الفرد والجماعة. والحرية وفق هذا المنظور، هي مفتاح التقدم، وطريق تعبئة الطاقات والإمكانات ومشاركتها جميعاً في البناء والعمران.
والمحيط الذي يحارب الحوار، هو محيط مستبد وقمعي، حتى لو رفع راية الحرية. لأنه لا يمكننا أن نتصور حرية بلا حوار. فهو قرين الحرية، ووسيلتها في تعميم القيم ونشر القناعات والمبادئ. و«عملية الحوار تتنافر بطبيعتها مع الإجابات الجامدة، والمسلمات المتحجرة، والأنساق المطلقة، وهيراركية العارفين، وكهنوت الآباء المقدسين، فإن هذه العملية تنفي نقائضها التي تكبح حركتها، وتقاوم ما يحد من قدرتها بما تؤسسه من وعي ضدي، يرفض صفات الإطلاق والتسليم والتقليد، الخنوع والإذعان، وكل ألوان التسلط والإرهاب» (7).
وفي المقابل نستطيع القول أنه «بقدر غياب الحرية في المجتمع يغيب الحوار، وتسود لغة الصوت الواحد التي هي المقدمة الطبيعية للغة الإرهاب. وإذا كان الإرهاب إلغاءاً لوجود الآخر، ونفياً لحضور العقل، أو فعل اختيار المعرفة، فإنه يبدأ من حيث ينقطع الحوار، ومن حيث تشيع مخدرات التسليم والتصديق، ومسكنات الإذعان والاستسلام، ومبررات بطريركية الفكر أو مطريكية الثقافة. إن الإرهاب يتولد من رفض لغة الحوار وشروطه، أي تسلطية الصوت الواحد، من الإيمان بأن ما تقوله وحدك هو الحق، وإن الحق ملك خاص لك، ومن التسليم بأن فرداً ما، فكراً ما، زعيما ًما، يمتلك ما يجعل منه الأعلى ويهبط بالآخرين إلى الدرك الأدنى، كأننا إزاء مجلى النبي الملهم، أو الصورة البشرية للحقيقة الكلية» (8).
الحرية وحق الاختلاف:
لا يمكن مقاربة مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي المعاصر، بمعزل عن مفهوم الاختلاف، وحق الإنسان الطبيعي في هذا الاختلاف. وأساس حق الاختلاف في المنظور الإسلامي، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل حقائق التشريع ومقاصده البعيدة، وإنما هم يجتهدون ويستفرغون جهدهم في سبيل الإدراك والفهم، وعلى قاعدة الاجتهاد بضوابطه الشرعية والعلمية، يتأسس الاختلاف في فهم الأحكام والحقائق الشرعية، ويبقى هذا الحق مكفولاً للجميع.
«فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني وهو الوجه الآخر والنتيجة الحتمية لواقع التعدد. أعني أن التعدد لابد من أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه. فالاختلاف من هذه الزاوية، قبل أن يكون حقاً، هو أمر واقع ومظهر طبيعي من ظاهر الحياة البشرية والاجتماع البشري وكما تتجلى هذه الظاهرة الطبيعية بين الأفراد تتجلى بين الجماعات أيضاً. لذلك فلا مجال لإنكار ظاهرة الاختلاف بما هي وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة» (9).
ووفق هذا المنظور لا يشكل الاختلاف نقصاً أو عيباً بشرياً يحول دون إنجاز المفاهيم والتطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الإختيار. حيث أن «الحرية أساس، والسلطة قيد ولكنها ضرورة اجتماع. ولكي تقوم السلطة دون الإخلال بأساس الحرية لابد من أن تكون قيود السلطة مشتقة من قواعد الحرية. حيث لا يجوز تقييد الأخيرة إلا بقواعدها وليس بإرادة خارجة عنها. وبهذا التحديد تغدو شرعية السلطة ثمرة لاختيار البشر الحر في تعيينها. وإذ ذاك يغدو الاختلاف (حقاً) مصوناً بشرعية السلطة نفسها، وبنفيه تنفي السلطة شرعيتها أي تنفي ذاتها» (10).
والإيمان الديني لا يمكنه التخلي تماما عن أي تعاون مع الأفكار والمبادئ العقلية.. ففهم القضايا والمفاهيم الدينية، وإيصالها رسالتها إلى الإنسان والعالم بطريقة مقنعة ومفهومة لكل الناس يستدعي التوسل بوسائل عقلية والتواصل المباشر مع كل القضايا العقلية.. لهذا لا يوجد على المستوى الواقعي مفكر ديني سواء كان مسلما أو مسيحيا يرفض العقل على نحو الإطلاق.. فشخصيات مثل وترتوليان وبيتر دامين، ولوثر، وباسكال والتي تعد من ألد أعداء العقلانية، لم ترفض العلاقة بين الإيمان والعقل رفضا أساسيا وحاسما، وإنما اتخذت نمطا معينا من العقلانية.. وفي المقابل في أنصار النص الديني لم يهدفوا عزل العقل عن مساحات الدين نهائيا..
(ومن المهم القول إن للعقل استخدامات مختلفة.. وفي ما يتصل بعلاقته بالدين يمكن تصور ستة أدوار ومواقف متباينة له، وهي:
1- دور العقل في مقام فهم معاني القضايا والعبارات الدينية..
2- دوره في مقام استنباط القضايا الدينية من النصوص المقدسة..
3- دوره في مقام التنسيق والملاءمة بين العقل والدين..
4- دوره في مقام تعليم القضايا الدينية..
5- دوره في مقام الدفاع عن القضايا الدينية..
6- دوره في مقام إثبات القضايا الدينية وتسويغها) (11).. فدائما الإنسان المؤمن وانطلاقا من فلسفة الحياة وفق منظوره الإيماني، يرغب ويطمح أن تكون حياته بأطوارها المتعددة منسجمة وإيمانه وغير متطابقة مع حياة غير المتدين أو المؤمن، وهذا لن يتأتى على الصعيد الواقعي بدون الحرية التي توفر للإيمان فلسفة شاملة للحياة، وتخلق لديه الإرادة الإنسانية المستديمة لتحويل مفردات وحقائق إيمانه إلى واقع معيش.. و(إن غسل التعميد بالنسبة إلى المسيحي، وذكر الشهادتين بالنسبة للمسلم، بداية طريقهم إلى طلب الحقيقة، فهذه الممارسات تعني وضع الأقدام في الطريق والشروع بالخطوات الأولى، ولا تفيد الوصول إلى الغاية) (12)..
فثمة آصرة لا انفصام لها بين الإيمان والعقل.. بمعنى آخر بعث الله للبشر حجتين: إحداهما حجة ظاهرة والثانية حجة باطنة، وبالتالي فالعقل والرسول كلاهما من سنخ واحد، ويصبان في سياق واحد، والعلاقة بين العقل والوحي كالعلاقة بين العين والنظارات، وليست من قبيل علاقات التضاد..
لهذا فإن المطلوب باستمرار أن يعرض الإيمان الديني للإنسان (الفرد) دوما على النقد والعقل النقدي، والغاية من هذا النقد هي تنقية الإيمان، ورفع الحجب، والوصول إلى الطبقات العميقة من التجربة والإيمان الدينيين.. وهذا يعني على المستوى الواقعي والمعرفي أن هناك قابلية للإيمان على التحول والتطور من خلال التجارب الروحية والمعرفية والإنسانية.. فالعقل بكل تجلياته يساهم مساهمة فعلية في صناعة الإيمان، أو لم يبعث الأنبياء العظام لتذكير العقل وإحياء مكتسباته الإنسانية (ويثيروا لهم دفائن العقول) لهذا كان الأنبياء جميعا يدعون الناس إلى الإيمان، ويستخدمون في دعوتهم كل البراهين والحكم البينة.. ومن الجلي أن الشيء إذا لم يكن معقولا يقبل البرهنة فلن يقبل الدعوة العقلية.. وتأسيسا على هذه الرؤية فإن للمعارف العصرية والعقلية الراهنة مدخلية أساسية في تكوين الإيمان أي أن (الركائز الفكرية لكل إنسان، والتي بواسطتها تفهم فكرة الله وتفسر، أو يتضح معنى الرسول ودورة النبوة، تستمد من العلوم والمعارف المتوفرة في كل عصر.. هذه العلوم والمعارف، أي المعارف الموجودة للعالم، سواء كانت معارف فلسفية أم تجريبية، هي الأدوات الوحيدة التي تجعل تصورات الإنسان وتصديقاته حول الله والرسول ممكنة، وأسس الفكر الديني لدى الإنسان لا ترتوي إلا من هذا المنهل) (13).. وهذا لا ينفي قدرة الإنسان من خلال فطرته المركوزة أن يتعرف على الخالق سبحانه من خلال إزالة أستار الغفلة والحجب المختلفة عن قلب وفطرة الإنسان السوي.. وانطلاقا من معنى الإيمان المفتوح على كل التجارب الذاتية والمعرفية، فإن هذا الإيمان يتمحور حول حرية الإنسان لأن الإيمان كما اتضح أعلاه، هو عمل اختياري يقوم به الإنسان بفضل إرادته وحريته..
فالإيمان هو وليد اختيار الإنسان الحر، بدون إكراه أو تعسف من أحد، ولهذا فإن اختيارات الإنسان وخياراته في مختلف المجالات، هو وحده الذي يتحمل مسؤوليتها.. وبهذا يتشكل الثالوث الذهبي في الوجود الإنساني (الإيمان – الحرية – المسؤولية) فأنت حر في عقائدك ومعتقداتك وخياراتك وبمقدار حريتك أنت مسؤول عنها، وتتحمل بوحدك مسؤولية اختيارك..
وحتى تتضح العلاقة الجدلية بين هذه الحقائق (الإيمان – الحرية – المسؤولية) نحاول أن نوضح النقاط التالية:
1- معنى الإنسان الحر، وطبيعة علاقته بمفهوم الحرية..
2- معنى الفردية وطبيعة علاقتها بالإيمان والمسؤولية..
3- المقدس وطبيعة علاقته مع مفهوم الحرية..
في معنى الإنسان الحر:
كل البشر الأسوياء يعشقون الحرية، ويأملون بها، ويطمحون إليها.. وكلهم أيضا يرفضون الرق والعبودية وجعل الأغلال على حياتهم وعقولهم، ويأنفون من كل المحاولات التي تسعى للتضييق على حرية الإنسان أو تقييدها.. وذلك لأن الحرية والقدرة على الحركة والاختيار، هي منسجمة وفطرة الإنسان، وكل الحقائق والممارسات المضادة لذلك، هي محل نبذ ورفض من قبل الإنسان، لأنها مخالفة لفطرته ومفارقة لطبيعته الإنسانية السوية..
فالحرية بالنسبة إلى الإنسان، هي جزء من طبيعته وفطرته، لذلك فإن جميع البشر الأسوياء بصرف النظر عن أديانهم وقومياتهم وأيدلوجياتهم ومناطقهم، هم ينشدون الحرية ويتطلعون إليها على المستويين الفردي والجماعي..
والحرية في هذا السياق سواء في بعدها النظري أو بعدها التطبيقي، ليست مشروعا ناجزا، وإنما هي من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية.. ومن يتعامل مع الحرية في مستوياتها الإنسانية والسياسية والاجتماعية بوصفها حالة مكتملة أو ناجزة، فإنه لن يتمكن من تعميقها في واقعه الاجتماعي والعام..فهي دائما بحاجة إلى الإرادة الإنسانية المستديمة التي تعمل وتكافح من أجل تعزيز حقائقها في الفضاء الاجتماعي.. وبمقدار ما تتوفر الإرادة الإنسانية الجمعية، بذات القدر ينعم الإنسان فردا وجماعة ببركات وخيرات الحرية..
لهذا فإن الحرية دائما وفي كل التجارب الإنسانية والتاريخية، ليست إدعاءا يدعى، أو لقلقة لسان، وإنما هي رؤية وممارسة تتجه دوما صوب إنسانية الإنسان، وإزالة كل الركام الذي يحول دون ممارسة الإنسان لحريته وإنسانيته..
وإن التجربة الدينية والفكرية لأغلب المصلحين والعلماء والجماعات الإصلاحية، تنطلق من قناعة مركزية ومحورية وهي: إن العامل أو المكون الذي يكون هو مصدر القوة لدى أمة من الأمم في زمن حضاري ما، قد يكون لعوامل تاريخية متعلقة بالفهم والركام التاريخي هو عامل تراجع وانحطاط وتخلف..
لهذا فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي، مرهون بحرية الإنسان وفاعليته الحضارية التي لا يمكن أن تنجز على الصعيد الواقعي بدون أفق الحرية والإصلاح..
من هنا فإنه لا حرية بدون أحرار، ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين..
وإن كل حرية بلا أحرار، حرية شكلية، وأن كل ديمقراطية بدون ديمقراطيين هي شكلية وفوقية أيضا..
لهذا فإن حجر الزاوية في مشروع الحرية الإنسانية، هو وجود الإنسان الحر، الذي يترجم قيم الحرية، ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها..
وإن ارتباط الإنسان عبر العصور بالأديان السماوية، هو الذي وفر لديه قدرة لفهم واستيعاب ما وراء الطبيعة أي الغيب.. فإيمان الإنسان بالحقائق الغيبية، يعود بالدرجة الأولى إلى القيم الدينية، التي أكدت وجود هذه الحقائق، وطلبت من المؤمنين بها، التسليم بحقائق الغيب.. فالأديان لا توفر فقط للإنسان طريقة حياة، وإنما توفر إليه أيضا تفسيرات إيمانية وعقلية للأمور الغيبية وكل ما هو خارج نطاق الرؤية وإدراك الحواس.. ويعتقد (دور كهايم) أن هناك وجوها مشتركة كثيرة بين الأديان، ومن هذه الأمور، الاعتقاد بوجود الأشياء والحقائق غير المرئية الموجودة في عالم الوجود، وكذلك تقسيم العالم إلى خير وشر، ومقدس وغير مقدس.. ويشير إلى أن كلمة مقدس تعني اتصال الإنسان بالأمور الغيبية، وهذا الاتصال يتم بواسطة الناس الذين لهم تأثير في حياتنا..
لهذا فإن الإيمان بالغيب، ليس مناقضا إلى الحرية وضروراتها في الحياة الإنسانية.. لأن الإيمان هو القاعدة المشتركة الذي يؤسس لمفاهيم الحرية ومضامينها المتعددة، كما أنه هو الذي يخلق القدرة على الكشف وتبديد عناصر الجهل في حياة الإنسان.. فنحن مأمورون إيمانيا بصيانة حريتنا ورفض أي تعد عليها، وفي ذات الوقت نحن مطالبون أيضا بإعمال عقولنا وامتلاك كل أسباب العلم والمعرفة لاكتشاف نواميس الكون والحياة..
وإن التشريعات والتوجيهات الإسلامية، لا تلوم الإنسان المسلم على استخدام حريته بكل مستوياتها، وإنما تلومه للغفلة وتعطيل العقل..
لهذا نجد هناك العديد من الآيات القرآنية، التي توضح بشكل لا لبس فيه حرمة إكراه أي شخص على تبني دين من الأديان..
فالإسلام دين الحق وهذا لا ريب فيه، ولكن لا يجوز لأي أحد مهما علا شأنه أن يكره أحد على اعتناقه.. يقول تبارك وتعالى [ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين] (14).. وقال تعالى [قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون] (15).. وغيرها من الآيات القرآنية التي توضح أن مهمة الأنبياء والرسل هي الدعوة والتبليغ، وإن إكراه الناس والأقوام على الإيمان برسالات السماء، ليس من مهمات الأنبياء والرسل.. وحينما تكون اختيارات الناس العقدية سيئة أو لا تنسجم ومقتضيات الدعوة الربانية كما تقررها الآيات القرآنية فإن الجزاء موكول إلى الآخرة.. أي أن العقاب المترتب على بطلان اختيار الإنسان لدينه وعقيدته، هو من اختصاص الباري عز وجل.. إذ يقول عز من قائل[وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا] (16)..
وعليه فإن الحرية في الرؤية الإسلامية، ليست بعيده عن مرجعية التوحيد، وإنما هي منبثقة من هذه المرجعية، وهي التي تعطي للحرية معنى وهدفاً وتشريعاً.. والشرك العقدي يعيق من انطلاقة فكرة الحرية، ويضيف لها أبعاداً ومضامين مناقضة للمفهوم الجوهري للحرية. فالحرية ليست تفلتا من القيم، وإنما هي انسجام تام مع النواميس والقوانين الاجتماعية والكونية..
فالحرية التي تصون كرامة الإنسان وحقوقه، هي تلك الحرية النابعة من تحرر الإنسان من كل الشهوات والأهواء، التي تعمل على دفعه إلى الحضيض. فبمقدار تمكن الإنسان من التحرر من أهواءه ونزعاته الأنانية والشيطانية، بذات المقدار يتمكن من الاستفادة من بركات الحرية في واقعه الاجتماعي والسياسي.
فالحرية دائما بحاجة إلى إنسان حر، والإنسان الحر هو الذي يتحرر من رذائل الدنيا والشهوات التي تركسه في الأرض. وعليه فإن الخطوة الأولى في مشروع الحرية الحقيقية، هي في أن يتحرر الإنسان من أهواءه وشهواته وحاجاته المذلة.. وذلك لأن بوابة الكثير من ظواهر الاستعباد وحقائق الخنوع، هو حينما يخضع الإنسان لحاجاته النفسية والمادية، فإن مالكها سيتمكن من السيطرة عليه..
لذلك فإن الحرية في بذورها الأولى، هي أن لا تكون حاجاتك قاهرة لك. بمعنى أن المطلوب أن يعمل الإنسان على سد حاجاته بالطرق المشروعة، ولكن إذا تعذر تلبية هذه الحاجات لسبب أو لآخر، فإن المطلوب ليس الخضوع والخنوع لهذه الحاجات وأهلها، وإنما الصبر على الشهوة والحاجة..
والحرية كممارسة مجتمعية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة.. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات. فالحرية هي عامل محرك باتجاه انجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي.. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي.. وحتى فيما يخص الإنسان الفرد، فإنه لا يتمكن وفق الرؤية الإسلامية من ممارسة حريته فيما يمتلكه على سبيل المثال بعيدا عن إطار العدالة. وأية ممارسة تتجاوز هذا الإطار أو تضر به، فإنها تصبح ممارسة غير شرعية. فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع انجاز عدالته.. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة، وتسوده حالة الظلم فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام..
وخلاصة القول: إن الحرية بكل مضامينها وآفاقها، لكي تتجذر في الفضاء الاجتماعي والثقافي، هي بحاجة بشكل دائم إلى الإنسان الحر، الذي يبشر بها على نحو عملي، ويسعى ويعمل ويكافح من أجل تذليل كل العقبات التي تحول دون انطلاق فكرة الحرية. فالأحرار هم القادرون وحدهم على صناعة الحرية ومؤسساتها في المجتمع.
في معنى الفردية:
ثمة سؤال عميق ومركزي، يثار باستمرار في الدائرتين العربية والإسلامية، مفاده لماذا لم نتمكن كشعوب وتجارب ثقافية وسياسية عديدة، من بناء مؤسسات عامة مستقرة، بحيث تنتقل مسئولية إدارتها وتسييرها من جيل لآخر، بحيث ينطلق الجيل الجديد في إدارة هذه المؤسسة من نقطة النهاية التي وصل إليها الجيل السابق؟.
وهل عدم قدرتنا على بناء العمل المؤسسي وطغيان الأعمال الشخصية والفردية، وقدرة بعض الذوات الشخصية على التهام المؤسسة وتوظيفها بما يخدم مصالحه وأغراضه الخاصة والشخصية، هو بفعل عوامل ثقافية أو بسبب طبيعة التربية والتنشئة الاجتماعية، أم هناك أسباب أخرى تحول دون قدرتنا على بناء عمل مؤسسي مستقر وثابت؟. ولماذا تمكنت الشعوب الغربية من بناء مؤسسات مستقرة في كل حقول الحياة، بحيث انتقلت من طور حضاري إلى طور آخر أكثر تميزا وحيوية وحضارة؟.
في تقديرنا أن الإجابة العميقة والدقيقة حول أسباب عدم قدرتنا على بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، تتجاوز مصالح الأفراد الضيقة، وتعمل من أجل المصالح العامة والموضوعية، هو أحد المداخل الضرورية لاكتشاف طبيعة الخلل الذي تعانيه مجتمعاتنا على أكثر من صعيد ومستوى..
فالتجربة الغربية الحديثة، استطاعت أن تتخلص من حروبها الدينية والقومية، وتبني لنفسها نظاما استيعابيا لكل تنوعها وقومياتها، بحيث تحولت شعوب الدول الغربية من شعوب متخاصمة ومتحاربة مع بعضها البعض، إلى شعوب متعاونة مع بعضها البعض، ومتنافسة في طريق البناء والتقدم والعمران..
ونحن لا زلنا كشعوب عربية وإسلامية، نرزح تحت نير خلافاتنا ونزاعاتنا الدينية والمذهبية والقومية، ولا يلوح في الأفق أية قدرة حضارية لدينا لتجاوز هذه المحنة وحروبها بكل تداعياتها الكارثية ومآزقها الراهنة والمستقبلية.. كما أن التجربة الغربية تمكنت من صياغة رؤيتها الحضارية للسياسة وإدارة الدول وفق نسق حضاري – ديمقراطي، تجاوزت من خلاله نزعات الاحتكار والهيمنة والغطرسة واختزال الدولة في شخص الإمبراطور.. فانتقلت بفعل عوامل عديدة من دولة الإمبراطور إلى دولة المؤسسات، ومن نظرية الحق الإلهي الذي كانت تحتكره الكنيسة إلى نظرية العقد الاجتماعي، التي تسمح وتطالب الشعب والمجتمع من ممارسة دوره في اختيار حكامه وشكل نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي..
بينما لا زلنا نحن لم نتجاوز خلافاتنا التاريخية، ولا زلنا أسرى حروب وأحقاد آبائنا وأجدادنا..
لماذا استطاعت الشعوب الغربية، أن تغير وضعها الحضاري، وتنتقل إلى مرحلة أخرى، بحيث أضحت اليوم هي رائدة التقدم والتطور في أغلب مجالات الحياة.
ولماذا لم نتمكن نحن أن نتجاوز عيوبنا ومآزقنا، ولماذا لا زلنا أسرى تخلفنا وتقهقرنا الحضاري.
يبدو لي إن أحد الأسباب العميقة لهذه المفارقة الحضارية هو التالي:
إن الشعوب الغربية استطاعت عبر ثقافتها وتقاليدها الاجتماعية وأنظمتها السياسية أن تعيد الاعتبار للفرد / المواطن في الشعوب الغربية.. بعد أن ألغته الكنيسة، بفعل نظامها الشمولي وكرهها للحرية ومزاولة الأفراد لمسئولياتهم العامة.
ولقد أجاد الأستاذ (لويس دومون) في رصد حركة التطور الفكري والأيدلوجي تجاه مفهوم الفردانية في التجربة الغربية في كتابه الموسوم بـ (مقالات في الفردانية – منظور أنثروبولوجي للأيدلوجية الحديثة) والذي قامت المنظمة العربية للترجمة بترجمته وطباعته. فالتحول الحضاري في التجربة الغربية، بدأ انطلاقته مع بداية التحول الأيدلوجي باتجاه الرؤية والموقف من الفرد والفردانية كمفهوم ودور وموقع.
فالفردية التي مورست على نحو إيجابي في التجربة الغربية، بعيدا عن الأثرة والأنانية والتفلت من الأنظمة والقوانين، هي التي قادت التجربة الغربية، إلى اجتراح فرادتها، وبناء مؤسساتها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية على أسس صلبة، بحيث ضمنت لهذه الشعوب الاستقرار السياسي مع حيوية اجتماعية ودينامية علمية، تراكمت فيه الخبرة والتجربة والعطاء، فأنتجت مؤسسات ذات جذور عميقة في مجتمعها، وحريصة على مصالحه الكبرى والإستراتيجية.. فالفردية ليست نكرانا للذات، أو إعداما لطموحاتها وآمالها القريبة والبعيدة، وإنما هي حضور دائم وحيوية مستديمة وطموحات لا حدود لها، مع قانون شفاف وواضح، ويساوي بين الجميع، ولا يحابي أحدا..
فالطموحات الفردية قادت إلى الاكتشاف والانجاز والابتكار والاختراع والجد والاجتهاد في البناء والعمران.
والقانون العادل ضمن حقوق الجميع، ومنع التعديات، وحال دون الطغيان والاستئثار.. فكانت النتيجة: التقدم العلمي والاقتصادي والتكنولوجي، والاستقرار السياسي والمدني وتداول مؤسسي للسلطة والقوة بين مختلف مكونات النخب في التجربة الغربية..
فالفردية وفق المفهوم الحضاري، هي أحد العوامل الأساسية التي قادت الغرب للتطور وصناعة المنجزات الحضارية الرائدة.
من هنا فإننا نعتقد أن الطريق إلى بناء مؤسسات مستقرة في فضائنا وتجربتنا، يتطلب العمل على إعادة الاعتبار لمفهوم الفردية في بيئتنا الثقافية والاجتماعية.. لأن قمع الأفراد وقتل طموحاتهم وتطلعاتهم، لا يفضي إلى بناء مؤسسات، بل يؤدي إلى سديم بشري، ليس قادرا على فعل شيء ذا بال على الصعيد الحضاري والمؤسسي.
ونكران الذات كقيمة، لا تؤسس لحيوية مستديمة ودينامية قادرة على اجتراح فرادتها التاريخية. وإنما هي قادرة على تكرار تجارب الآخرين بدون روحها وحيويتها، واستنساخ خطوات الآخرين ومبادراتهم، دون ظرفها الاجتماعي والتاريخي، ودون الكتلة التاريخية التي تقف وراءها، وتمدها بأمصال الحياة والحيوية والإنجاز..
فالعلاقة جد ضرورية وحيوية، بين إعادة الاعتبار إلى الفردية وممارستها على نحو إيجابي وحضاري وبين العمل المؤسسي. فالمؤسسات لا تبنى على أنقاض الأفراد، بل تبنى على حضورهم وشهودهم وفعاليتهم الذاتية..
وحينما تغيب الفردية، يبقى السديم البشري، ولا يمكن للسديم البشري، أن يبني مؤسسة، أو يشيد تجربة متميزة.
والفردانية الحديثة في التجارب الحضارية المعاصرة، هي عنصر الحيوية والفعالية فيها، كما أنها منصة الانطلاق للإبداع والابتكار والتميز..
وحينما ندعو إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى مفهوم الفردية، فإننا ندرك أهمية أن تمارس هذه الفردية على نحو إيجابي بعيدا عن الأنانية والانحباس في المصالح الضيقة..
والممارسة الإيجابية تستند إلى قيمة المسئولية الذاتية والعمل الصالح، وأن الله سبحانه وتعالى لن يثيبنا على عمل غيرنا، وإنما على عملنا، وإن الحساب الأخروي سيطال أعمالنا وأدوارنا بعيدا عن أي اعتبار آخر. فإذا أردنا الفلاح الدنيوي والأخروي، ينبغي علينا كآحاد أن نقوم بدورنا في هذه الحياة، ونتحمل مسئولية وجودنا.. هذه في البيئة والخلفية الفلسفية والثقافية، لممارسة الفردية على نحو إيجابي..
فتعالوا جميعا إذا أردنا النجاح، واجتراح تجربتنا الذاتية، وبناء مؤسسات تتجاوز حدود ومصالح الأشخاص الضيقة، أو التي تدور مدار هؤلاء الأشخاص، أن نعيد الاعتبار للفرد في مجتمعنا، ونتعامل معه بوصفه هو حجر الأساس في كل مشروع..
وحدها الفردية الإيجابية، هي التي تهيئ الأرضية والمناخ لصناعة الفعل المؤسسي المتميز والمستقر في فضائنا السياسي والاجتماعي والثقافي..
المقدس والحرية:
بين الفينة والأخرى تثار في فضائنا العربي والإسلامي، مجموعة من القضايا والممارسات، التي تستفز الناس وتقسمهم إلى قسمين: الأول مع هذه القضايا باسم الحرية، والقسم الآخر ضد هذه القضية باسم الدفاع والذود عن المقدس والثوابت.. ولعل آخر هذه القضايا المثارة، والتي أخذت أبعادا اجتماعية وسياسية وحقوقية عديدة في تونس هو بث أحد التلفزيونات الخاصة فيلم كرتوني باسم (برسي بوليس) يتعرض إلى الذات الإلهية.. مما أجج النفوس، وأنزل الآلاف إلى الشوارع منددين بالتلفزيون وأصحابه الذين سمحوا ببث فيلم مهين إلى المقدسات والثوابت الإسلامية.. وفي مقابل هذا الموقف عبر العديد من الشخصيات والمؤسسات الفكرية والمدنية والحقوقية عن رفضها لعملية استخدام الشارع، وأبدت وقوفها وتضامنها مع التلفزيون الذي مارس حريته.. وإن رفض هؤلاء إلى ممارسات الشارع، هي تعبيرهم المباشر عن حقهم في الحرية وممارساتها..
ويبدو من هذه القضية وغيرها من القضايا المشابهة، أن هذه المسألة تعود إلى طبيعة العلاقة المتصورة بين المقدس والحرية.. فهناك أطرافا تتصور أن الحرية بكل آفاقها وأشكال ممارساتها الخاصة والعامة، هي القيمة الكبرى التي ينبغي الدفاع عنها، ورفض أي شكل من أشكال تقييدها أو تحييدها..
لهذا فإن هذه الأطراف تقف موقفا إيجابيا ومؤيدا لكل فرد أو جهة مارست حريتها وعبرت عن قناعتها بحرية تامة.. وفي مقابل هذه الأطراف، هناك أطرافا أخرى ترى أن الحرية هي قيمة من مجموعة قيم ومثل عليا، ولا يمكن على الصعيد العملي من التعامل مع هذه القيمة بمعزل عن المنظومة القيمية الكاملة، التي تحدد بعض الحدود والضوابط على مستوى الممارسة..
وإن هذه الحدود والضوابط ليست تقييدا لقيمة الحرية، وإنما في هذا الموضوع أو القضية الأولوية لقيمة أخرى مختلفة عن قيمة الحرية.. وهكذا تتباين وجهات النظر، وستبقى العلاقة بين المقدس والحرية علاقة شائكة وقلقة، وتتطلب المزيد من أعمال العقل والفكر لبناء تصور متكامل لطبيعة العلاقة بين المقدس والحرية..
وفي سياق بلورة الرأي أو خلق مقاربة نظرية جديدة للعلاقة بينهما نود إبراز النقاط التالية:
1- مع الحرية وضد الإساءة:
الحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما، وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات والعقل، تحول هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة.. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع من اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة بكل مستوياتها..
من هنا ووفق هذا المنظور مع الحرية كقيمة مركزية في منظومتنا القيمية والفكرية، وضد الإساءة التي قد تمارس باسم الحرية وهي ليست من الحرية في شيء. من الحرية أن تمارس قناعتك في أي موضوع، ولكن ليس من الحرية أن تسيء إلى الآخرين ومقدساتهم..
وعليه فإن فك الارتباط بين ممارسة الحرية والتصرف بإساءة إلى ثوابت الآخرين ومقدساتهم تتجلى العلاقة على نحو إيجابي بين المقدس والحرية.. بمعنى أن المقدس لا يقيد حرية الإنسان، لأن هذه الحرية من لوازم إنسانية الإنسان، ولكنه (أي المقدس) يرفض الإساءة المعنوية والمادية لأي إنسان آخر أو منظومة عقدية أخرى..
لهذا فإن فك الارتباط بين الالتزام بقيمة الحرية وأشكال الإساءات التي تمارس يساهم في تعميق مفهوم الحرية في الواقع الاجتماعي، ويزيل العديد من الهواجس والالتباسات التي يعيشها بعض الناس تجاه قيمة الحرية..
فالحرية ليست تفلتا من الأخلاق، وليس تشريعا للإساءة، وليست وسيلة لهدم الثوابت والمقدسات، وإنما هي ممارسة عقلية ونقدية، تستهدف تظهير الحقائق باستمرار ومنع قمع السؤال مهما كان موضوعه وإبراز مستديم لإنسانية الإنسان التي لا يمكن أن تتجلى بدون الحرية قولا وفعلا..
2- المقدس لا يشرع للتطرف وهتك الحرمات:
وفي مقابل الحرية التي ترفض الإساءة المعنوية والمادية لأي طرف من الأطراف، المقدس لا يشرع في سياق الدفاع والذود عنه ممارسة التطرف والتشدد والغلو أو هتك الحرمات والأملاك العامة والخاصة.. لأن كل هذه الأشكال ليست دفاعاً عن المقدس وثوابته، وإنما هي افتئات بحق المقدس..
لهذا فإننا في الوقت الذي نمارس النقد تجاه أولئك النفر الذي يمارس الإساءة المعنوية والمادية بحق الآخرين باسم الحرية، في ذات الوقت نرفض ممارسة التطرف وقتل الأبرياء وهتك الحرمات والأضرار بالأملاك الخاصة والعامة باسم الدفاع عن المقدس وثوابت الأمة.. فإذا كان التلفزيون المغاربي، ارتكب خطئا في عرض الفيلم الكرتوني المسيء للذات الإلهية، فإن الرافضين لهذا العرض، ارتكبوا بدورهم خطئا شنيعا تجسد في ممارسة التطرف وقذف الناس بدون وجه حق وتدمير بعض الممتلكات الخاصة والعامة..
فالمقدس لا يتم الدفاع عنه، بوسائل وآليات يرفضها ولا تنسجم ونظام قيمه التشريعي والأخلاقي.. فالمقدس لا يتم الدفاع عنه بهدم قيم الحرية وهتك الكرامة الإنسانية، وإنما يتم الدفاع عنه، بالالتزام بهذه القيم ومقتضياتها المتنوعة.. كما أن الحرية كقيمة وممارسة، لا يتم الدفاع عنها، عبر ارتكاب الموبقات والمحرمات، ومصادمة الناس في مقدساتهم، وإنما من حقك الأصيل أن تعبر عن قناعاتك وأفكارك، دون أن تتعدى على حقوق الآخرين المعنوية والمادية.. فكما أن من حقك أن تؤمن بفكرة وتعبر عنها، من حق الآخرين أيضا الإيمان بفكرة والتعبير عنها.. وإيمانك بفكرة، لا يجعلك أنت الوحيد القابض على الحق والحقيقة، كما أن إيمان الآخرين بذلك، لا يحولهم وحدهم هم القابضون على الحقيقة..
فنحن مع الحرية وهي حق مصان للجميع، وهذا الحق لا يعني بأي حال من الأحوال، أنه يشرع لأحد حق الافتئات على مقدسات الناس وكراماتهم..
فالحرية هي بوابة الدفاع عن المقدس وثوابت الأمة.. والمقدس ليس نقيضا للحرية، بل هو أحد المدافعين عنها، والمانحين لها مضامين إنسانية وحضارية..
فالتعصب لا يحمي المقدسات، بل يشوهها، ويخيف الناس منها.. كما أن العنف لا يوقف الإساءات التي قد تمارس تجاه مقدسات الأمة وثوابتها..
لهذا فإننا نعتقد أن الإساءات المعنوية والمادية تبعد العلاقة على المستوى الإنساني بين الحرية والمقدس، كما أن التعصب والتطرف وانتهاك الكرامات والحرمات، يعمق الفجوة بين المقدس والحرية..
والصورة المثلى التي تنشدها المجتمعات العربية والإسلامية، هي أن تعيش حريتها كاملة على قاعدة احترام مقدساتها..
وجماع القول: حين التأمل في النصوص التأسيسية للإسلام، نجدها تعتمد بشكل أساسي على قيمة الحرية، وتعتبرها هي القيمة الأساسية التي تمنح تصرفات الإنسان معناها الحقيقي والجوهري.. فلا عبرة لتصرفات الإنسان التي يقوم بها تحت الإكراه، كما أنه لا عبرة لأي ممارسة يقوم بها الإنسان دون حرية واختيار..
فالتصور الإسلامي للإنسان قائم على حريته وقدرته على الاختيار (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (17).
اضف تعليق