تنظيم الخلافات بين البشر وحصرها في جوانب البناء والتنمية بدل التدمير والهدم ليس بالأمر اليسير، وإنما هو مهمة إنسانية شاقة تتطلب الكثير من الجهود والطاقات التي تصرف في هذا المجال، ومن الطبيعي أن بث الثقافة الحضارية وتربية الناس على هدى القيم المدنية، من العوامل الهامة...
كلما ازدادت الأحداث عنفا وتعقيدا وتواترت المنعطفات النوعية في مسيرة الإنسان، وتكثفت التحديات الشاملة التي تواجه الوجود الإنساني، تعمقت دوائر الصراع والتدافع في الحياة الإنسانية بمستوياتها المتعددة.. ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يخلو الوجود الإنساني من الصعاب والمشكلات والتحديات، كما أننا لا يمكن أن نتصور حياة إنسانية، بلا مشكلات وصعوبات فهي ملح الحياة وقانونها السرمدي، فالتدافع بين البشر في مختلف الاتجاهات، ناموس كوني خالد لا يمكن أن تخلو الحياة منه، ومن أشكاله المتعددة والمختلفة قال تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) البقرة آية 251..
ومهمة الإنسان الخالدة في هذه الحياة ليس إنهاء جذور التدافع بين البشر لأن هذا ليس في مقدوره وذلك لأن الحياة هي التدافع بين الناس والعمل الدائم لتسخير الطبيعة واكتشاف خيراتها بما يفيد وعبر التاريخ أبدع الإنسان العديد من الوسائل والأنماط والسياقات والأشكال، التي تنظم من خلالها هذه الحالة الملازمة لوجود الإنسان، فأمام كل تحد ومنعطف يواجهه الإنسان ينبغي له أن يبحث ويبدع وسائل وسياقات تؤهله للتكيف الإيجابي مع هذه التحديات والمنعطفات، وتمكنه من اكتشاف أفضل السبل وأيسرها لتسخير الطبيعة بما يفيد وينفع الإنسان قاطبة..
ولعل الإخفاق الذي يصيب الإنسان في مواجهة تحدياته ومشكلاته، هو وليد أنه لم تصل الإرادات الإنسانية المختلفة إلى نمط من أنماط تنظيم الاختلافات، وتحديد أثر المشكلات وجعلها في حدودها الطبيعية، مما يدفع الأمور إلى حالات من الفوضى والصراع المفتوح، الذي تستخدم فيه كل وسائل تدمير الخصم والقضاء عليه وإزاحته من الوجود..
ولذلك نجد أن الحروب والصراعات في حياة الإنسان هي شكل من أشكال التدافع العنيف بين البشر الذي لا يمكن إلغاؤه من الوجود، ولكن الذي يمكن إلغاؤه هو الأشكال العنيفة والمدمرة لهذا التدافع، وذلك عبر تنظيم حالات هذا التدافع، وتوطيد أسس الاختلاف المشروع بين البشر، لذلك لا بد من الوعي العميق بهذا القانون الخالد، وإن الإنسان هو الذي يتحكم في وجهة هذا القانون، كما أنه بجهله وهمجيته وغروره، قد يجعله حافزا لغصب الحقوق، وهتك المقدسات، وإفساد الطبيعة، وقتل الإنسان بغير حق..
وإن العلم هو سلاح الإنسان، للاستفادة من هذا القانون وجعله فضاء ووعاء للبناء والعمران، فكلما ازداد الإنسان علما توسعت قدراته وإمكاناته للاستفادة من هذا القانون سواء في الطبيعة أو حياة الإنسان، فالجهل هو العدو الأول، الذي يعمل عبر جهوده إلى تحويل مجرى قانون التدافع، وبالعلم والمعرفة نتمكن من اكتشاف أفضل السبل الممكنة لتنظيم خلافات البشر، وجعلها ثروة يغتني بها، لا إلى نقمة ووسيلة تدمير وقتل..
ولا شك أن تنظيم الخلافات بين البشر وحصرها في جوانب البناء والتنمية بدل التدمير والهدم ليس بالأمر اليسير، وإنما هو مهمة إنسانية شاقة تتطلب الكثير من الجهود والطاقات التي تصرف في هذا المجال، ومن الطبيعي أن بث الثقافة الحضارية وتربية الناس على هدى القيم المدنية، من العوامل الهامة التي تساهم في توجيه حالات التدافع الإنساني إلى مجالات البناء والتقدم الإنساني..
وبنظرة واحدة إلى العديد من المجتمعات الإنسانية، التي استطاعت أن تبدع لنفسها أشكالا إيجابية وحضارية لحالات التدافع، نكتشف من خلالها أن للثقافة الحضارية والمدنية الدور المركزي في وصول هذه المجتمعات إلى هذه الأشكال الإنسان في جميع المجالات وراهنا ومستقبلا..
فقابلية الإنسان لممارسة شتى أنواع العملية هي جزء من الجبلة الإنسانية لذلك حيثما وجد الإنسان وجد قانون التدافع ولا يمكنه أن يحيا ويعيش بدون هذا القانون ومهمة الإنسان الكبرى في هذا الوجود هي تنظيم حالات التدافع بين البشر، واكتشاف وإبداع أطر وأشكال للتدافع الذي يتجه إلى البناء والتعمير بدل الهدم والتخريب في الدائرة الإنسانية، كما ينبغي أن تكون علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة تسخير ونماء لا علاقة تدمير وفساد، وبدل أن يتجه هذا القانون (التدافع) على تدمير الإنسان ومكتسباته التاريخية والحضارية ويشعل الصراعات المدمرة والحروب الشرسة التي تقضي على كل شيء حي، تكون مهمة الإنسان في هذا الوجود تنظيم هذه الحالة فتتجه إلى التنافس والتسابق إلى الخيرات، لا التطاحن والصراعات المدمرة..
والأنماط الحديثة من البناء والتقدم..
وفي الاتجاه المقابل نجد أن المجتمعات التي لا تتوفر فيها الثقافة الحضارية التي تسمح بتعدد الآراء وتجعل الاختلافات الإنسانية في حدودها الطبيعية، وتعلي من شأن قيم الحرية والتداول والتسامح، ابتليت بحروب وصراعات مدمرة قضت على الكثير من المكتسبات وأرجعت هذه البلدان إلى عقود سابقة فلا يمكننا الوصول إلى مستوى أبداع أشكال وأطر إيجابية وإنسانية لحالات التدافع بين البشر، إلا بإشاعة الثقافة الحضارية، فهي جسر العبور إلى الإبداع الإنساني المتجه إلى توطيد أسس البناء والعمران والتسابق إلى فعل الخيرات..
ولا نعدو الصواب، حيت القول أن المشكلة الكبرى التي تواجه العالمين العربي والإسلامي هي إنه لم تتمكن مجتمعاته بقواها ومدارسها المتعددة من تنظيم خلافاتها وجعلها الحدود الطبيعية وتحويل مجراها من التدمير إلى البناء.
وبفعل هذا الإخفاق والفشل انفتحت أبواب هذا العالم على العديد من التوترات والصراعات التي تهدد أمنه وتدمير مكتسباته وتجعل مصيره ومستقبله في مهب الريح.
وستبقى هذه الأزمة تستفحل وتتضخم وتدمر العديد من المكتسبات التي حققها العالمان العربي والإسلامي في العقود الأخيرة.
لذلك فإن انطلاقة العالمين العربي والإسلامي وانعتاقه من أزماته ومشكلاته يتطلبان منا جميعا أفرادا ومؤسسات وجماعات أن نبحث عن أطر وأشكال جديدة لتنظيم خلافات الساحتين العربية والإسلامية، وإشاعة وتعميم الثقافة الحضارية والمدنية التي تجعل عالمينا العربي والإسلامي يستفيد من كل الطاقات والإمكانات ويوظفها في سبيل البناء والعمران الإنساني، فالمهام المطلوبة إمام قانون التدافع الإنساني هي المزيد من اكتشاف آليات عمله وحركته، وبناء الإنسان والجماعة الوطنية القادرة على شحن النفوس وتعبئة الطاقات في سبيل العمران والبناء.
اضف تعليق