ان المعضلة في نتاج تظاهرات اليوم في ساحات التحرير، تتطلب التغيير الشامل للنظام السياسي أكثر ما تحتاج الى تعزيز اليات الحكم الرشيد في إدارة الدولة، والتغيير المنشود من خلال ديمومة العقد الاجتماعي الدستوري ليس بمنهجية مفاسد المحاصصة، بل بمنهج مهنة الديمقراطية وهذا يحتاج الى إعادة نظر شاملة...

ما بين التغيير من نظام شمولي الى نظام برلماني، بقيت مهنة الديمقراطية عصية على التداول في الحياة السياسية اليومية ما بعد 2003 وربما حتى الان، ويطرح السؤال: هل ثمة ساسة محترفون في مهنة الديمقراطية كما تشهد مذكرات ساسة عراقيين عرفهم الحكم الملكي، مقابل إداريين بارعين عرفتهم الأنظمة الجمهورية المتتالية، وما الفارق بين كلا النوعين في مهنة الديمقراطية وبين ما يحصل اليوم من تفكير مشترك يرفض مفاسد المحاصصة لكن النتائج مختلفة بشكل كبير جدا؟؟

في الإجابة على هذه التساؤلات، تتصاعد حدة الفجوة المعرفية بين علوم اليوم والامس، قريبة وبعيدة، الامر الذي جعل الكثير من الدول، تسارع الخطى لديمومة التعليم المستمر لردم هذه الفجوة بين تقنيات متجددة تختصر مسافة الزمن والمكان في إدارة المال والاشغال على حد سواء، فبعد ان كان العالم مجرد قرية صغيرة بسبب موجات الراديو القصيرة، اضحى اليوم مجرد شاشة هاتف نقال!.

هذا التسارع التقني، يؤثر على مهنة الديمقراطية، لاسيما في الدول التي تمر بمراحل انتقالية، ومنها عراقنا اليوم، تتمثل في اغلبية المتصديين للسلطة لا يغادرون اجندات حزبية لها نظام أيديولوجي مؤطر بعلاقات مع دول إقليمية، فيما تستخدم هذه التطورات في التأثير من خلال نماذج الحروب الناعمة على الرأي العام لجمهور ذات الأحزاب.

مما اجبرها على التعامل مع جمهورها بمبدأ الثواب والعقاب تحت عناوين جديدة مثل مفاسد المحاصصة، والحكومة العميقة، دون التأسيس لمشروعية ديمومة العقد الاجتماعي للنظام السياسي من خلال التنمية المستدامة، لاسيما في الجانبين السياسي والاجتماعي، وهكذا تحول التداول السلمي للسلطة الى فراغ مجتمعي.

لا يتلمس أي تقدم اقتصادي، او تطور في البنى التحتية، وبروز مظاهر الرفاهية الاجتماعية في رعاية اجتماعية او صحية، وهكذا انتجت الدولة العراقية أكثر من 24 استراتيجية وطنية دون ان تحقق أي منها المردود المادي المطلوب.

مفاسد المحاصصة

هل المعضلة في النظام السياسي ام في مفاسد المحاصصة؟ وهل التغيير المنشود يعني الانقلاب الكامل على الدولة؟

لا اعتقد ان المعضلة في نتاج تظاهرات اليوم في ساحات التحرير، تتطلب التغيير الشامل للنظام السياسي أكثر ما تحتاج الى تعزيز اليات الحكم الرشيد في إدارة الدولة، والتغيير المنشود من خلال ديمومة العقد الاجتماعي الدستوري ليس بمنهجية مفاسد المحاصصة، بل بمنهج مهنة الديمقراطية وهذا يحتاج الى إعادة نظر شاملة، لكل الأطراف، من تصدى للسلطة ومن يعارضها، تطرح التساؤلات الكبرى في الاتي:

أولا: العراق وطن الجميع والهوية الوطنية مقدمة على سواها من الهويات الفرعية دستوريا وقانونيا وعرفيا، وان يكون التعريف الدستوري لمفهوم الدولة الاتحادية بكونه نموذجا لتوزيعا الصلاحيات الإدارية بين المركز والاقاليم او المحافظات غير المرتبطة بإقليم، وليس السيادية التي تتعلق بالسياسة الدفاعية والأمنية والخارجية والاقتصادية، بما في ذلك مصادر الثورة الطبيعية والمنافذ الحدودية.

ثانيا: قياس كفاءة برامج اعمال الدولة من خلال البرامج الحكومية، التي لابد وان تطرح كبرنامج انتخابي للأحزاب والافراد المشاركين في الانتخابات العامة والموافقة عليها بالأغلبية الانتخابية، تحولها الى قانون نافذ خلال الدورة البرلمانية، وهذا يحتاج الى صياغة برامج انتخابية تطبيقية بسقوف زمنية، تبتعد عن مغازلة الميول الطائفية والعرقية والمناطقية، وتضمين ذلك في قانوني الانتخابات ومفوضية الاشراف على تنفيذها.

ثالثا: العمل على نقل البرنامج الحكومي الفائز بثقة الناخبين الى تشكيل وزارة قادرة على تنفيذه، وتوفير الفرص في شفافية مراقبة الأداء من خلال منظمات المجتمع المدني والصحافة الاستقصائية، واهمية الغاء ما عرف في مفاسد المحاصصة بـ(الاستحقاق الانتخابي) للكتل الفائزة بعضوية مجلس النواب ، الى تكليف الكتلة التي فاز برنامجها الحكومي بتشكيل الوزارة من خارج مجلس النواب.

رابعا: أهمية تناسق عمل الدولة في مؤسساتها ضمن تطبيقات البرنامج الحكومي، وخلق إجراءات العمل المجزية بالثواب والعقاب، بما يجعل الحكومة امام استحقاقات التغيير الشامل في حالة الانحراف عن مسارات وضعتها في برنامجها الحكومي، وهذا يتطلب تقليدا برلمانيا علنيا، بحضور رئيس الحكومة لطرح ومناقشة تقريرا فصليا على الأقل عن اعمال الحكومة.

خامسا: في سياق المرحلة الانتقالية ما بعد استقالة رئيس مجلس الوزراء، وإعادة تشكيل العملية السياسية، من الأفضل ان يحدد قانون الانتخابات الجديد مواصفات تستبعد جميع الفاعلين في مفاسد المحاصصة من الدرجات الخاصة لدورتين برلمانيتين على الأقل، ناهيك عن تصويت العسكر والقوى الأمنية.

حين نقارن كلما تقدم بفرضيات مهنة الديمقراطية في التفكير المشترك بين المتصديين للعملية السياسية والمتظاهرين في ساحات التحرير، فاذا ما توجه كلا الطرفين الى التفكير في حلول تعزز الهوية الوطنية دون مدخلات إقليمية ودولية، ما يستجيب لنصح المرجعية الدينية العليا، يبدو من الممكن التوصل الى ((بيان وطني عام)) يتضمن النتائج التالية:

أولا: ما دامت الفجوة بين نمط أفعال المتصديين للعملية السياسية والمتظاهرين تبدو للوهلة الأولى على طرفي نقيض، تحتاج الى ردم عملي وليس مجرد تنظير في الهواء الطلق، وهذا يحتاج من وجهة نظري، ان يتم تشكيل طرف ثالث أقرب للمتظاهرين منه للمتصديين من أحزاب السلطة من خلال ( لجنة حكماء) تضم قيادات الديانات الابراهيمية، وقادة الراي العام في النقابات المهنية والفعاليات الاجتماعية التي كان لها حضور في ساحات التحرير، لتجسير هذه الفجوة بالأفعال من خلال تسمية شخصية سياسية مقبولة للحوار المباشر مع لجنة الحكماء من اجل ضبط إيقاع سلمية ساحات التحرير وتامين الحياة المعيشية اليومية فيها وحولها دون التأثير على مسار الحياة التجارية في العاصمة بغداد او غيرها من المحافظات.

ثانيا: بعد تكوين الأفكار المشتركة، يمكن تحديد خطوات تحويلها الى أفعال قانونية دستورية من خلال البرلمان العراقي الحالي في إعادة صياغة مشتركة لقانون الأحزاب، وفقا لمعادلة ان يمثل الحزب الهوية الوطنية الشاملة لكل العراقيين في انتخابات مجلس النواب الاتحادي، وتعديل قانوني المفوضية والانتخابات بما يحقق العدالة والانصاف التي تكرر التذكير بها في خطب المرجعية الدينية العليا، بعدها اليات انحلال مجلس النواب لأعماله وتحديد موعد لانتخابات مبكرة.

تطوير مهنة

ثالثا : أهمية ان يأخذ هذا الحوار البناء منهجية تطوير مهنة الديمقراطية في العملية السياسية من خلال اعتماد خبرات الأمم المتحدة والتجارب الدولية التي يمكن الاستفادة منها وتوظيف ما يصلح للحالة العراقية، ولعل ابرزها قوائم الانتخاب المفتوحة، مع مراعاة نسبة التمثيل في المقاعد الكلية لمجلس النواب على ان لا تقل عن 15 بالمئة من مجموع المقاعد بشكل كلي، والتعامل مع عدد الناخبين لكل كرسي برلماني، بما يقلل كثيرا من عدد مقاعد البرلمان، وفقا لتفسير منطقي للمادة الدستورية التي تذكر ان لكل 100 الف ناخب عراقي ممثلا برلمانيا، وما دام المواطن لا يحق له المشاركة في الاقتراع الا بعد تجاوزه سن 18 عاما، فيكون العدد الكلي لمقاعد البرلمان يمثل عدد المقترعين المسجلين فعليا وليس العكس، واذا احتاج الامر الى تعديل دستوري فبالإمكان النظر فيه خلال مرحلة لاحقة .

رابعا: من الأهمية بمكان ان تتضمن هذه المرحلة تفاهمات أولية عن التعديلات الدستورية المطلوب مناقشتها في الدورة البرلمانية الجديدة، والاستفاضة في هذه المناقشات تؤكد رصانة النتائج المنشودة بشأن طبيعة النظام السياسي، ما بين نموذج رئاسي (رئيس منتخب) -برلماني او رئاسي مختلط (رئيس جمهورية منتخب ورئيس وزراء مكلف)، إضافة الى الغاء عبارة المكونات والتوازن الوظيفي، واعتماد نماذج تطبيقية للتنمية المستدامة ترسخ حقوق المواطنة في كسياسات عامة حاكمة.

خامسا: ولعل من أبرز النتائج التي تبرز في خضم هذا الحوار الوطني المباشر، تعزيز الهوية الوطنية، وايضا لابد وان تنعكس على مفاصل مهمة في الحياة العامة، أبرزها الهوية الإعلامية والثقافية للعراق وهو ينهض من جديد في عقد اجتماعي متجدد.

كلما تقدم، يمضي بسلاسة حين يتنازل الجميع عن الانا الذاتية ويقدمون مصلحة الوطن العليا، وابرز التحديات التي تواجه مثل هذا المشروع تتجسد في ارتباط اكثر من طرف بأجندات إقليمية ودولية، وهذا يحتاج الى إيضاح المواقف الإقليمية والدولية، بان الدماء العراقية لا يمكن ولن تكون كبش فداء لمصالح دول اخرى، حتى وان اعتبرهم البعض الأقرب مناطقيا ومذهبا، وان اعتبر الاخرين أعداء تاريخيين ، فمصلحة العراق وهويته الوطنية هي المعيار المعزز لمهنة الديمقراطية في النتائج المنشودة ولله في خلقه شؤون.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق