الاصلاح الحضاري هو عملية اصلاح نواحي الخلل في المركب الحضاري والتي انتجت كل مظاهر وجوانب التخلف المذكورة فيما سلف، والاصلاح الحضاري عملية تغيير اجتماعي تخضع لقوانين التغيير المذكورة في القران الكريم وعلم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي وغيرها من العلوم ذات العلاقة، وعلى راس هذه القوانين قانون التغيير الذاتي...
حين نتحدث عن "الاصلاح الحضاري" فاننا نفترض ان المجتمع يعاني من "التخلف الحضاري"، التخلف الحضاري خلل حاد في المركب الحضاري والقيم الحافة به. هذا على اعتبار ان المنجز الحضاري للبشر يتكون من:
المركب الحضاري مع القيم الحافّة به، يتألف المركب الحضاري من خمسة عناصر هي: الانسان، الارض، الزمن، العلم، العمل، كان السيد الشهيد محمد باقر الصدر ذكر ان المركب الحضاري يتالف من ثلاثة عناصر هي: الانسان، والارض، والعلاقة المعنوية بين الانسان واخيه الانسان، والانسان والطبيعة.
فيما ذكر المفكر الجزائري قبله ان المركب الحضاري يتألف من ثلاثة عناصر هي: الانسان والتراب والزمن، ويلاحظ ان جميع هذه العناصر الخمسة موجودة في كل المجتمعات بهذا النحو او ذاك، لكن الاختلاف يظهر في القيم الحافة بالمركب الحضارية، والقيم مؤشرات اخلاقية وسلوكية تحكم التفاعل والتعامل مع عناصر المركب الحضاري.
التخلف الحضاري
الموقف من الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل محكوم بالقيم العليا التي يؤمن بها الانسان سواء كان هذا الموقف صادرا من الحكومات ام المجتمع ام الافراد. فقد يصاب هذا الموقف او العلاقة بخلل كبير يؤدي الى الاضرار بالمنجز الحضاري للمجتمع. وفي هذه الحالة نصف المجتمع بانه متخلف او مصاب بالتخلف الحضاري. ويحصل هذا الخلل بسبب الانحراف في منظومة القيم الحاكمة للسلوك الحكومي او الاجتماعي او الفردي.
وللتخلف الحضاري حالات ومصاديق كثيرة نذكر منها على سبيل التوضيح:
اولا، التخلف المنهجي، الذي يصيب الذهنية العامة للفرد او المجتمع، مثل: عدم الاهتمام بالعلم والتعلم والترقي في هذا المجال، القول بلا علم، والتصديق بلا تثبت، والاستنتاج بلا مقدمات صحيحة، والتعميم في اطلاق الاحكام، والاحكام المسبقة، وربط الجدل العلمي بالاشخاص (شخصنة الموضوع)، وافتراض سوء النية في المقابل (شيطنة الطرف الاخر)، الخ.
ثانيا، التخلف الاخلاقي، الذي يحصل بسبب انهيار منظومة القيم العامة مثل التطوع، والتعاون، والصدق، والاخلاص، وعدم قبول الفساد، وعدم احترام القانون، وعدم احترام الطرف الاخر، وغياب التسامح، وعدم القدرة على التعايش، والسلبية والاتكالية، الخ.
ثالثا، التخلف السياسي، الذي يتجلى باشد صوره واعلى درجاته بالاستبداد والدكتاتورية ومصادرة الحريات واستيلاء القلة على مقدرات البلد وعدم القدرة على العمل الجماعي على اساس القيم المشتركة، وغلبة الانتماءات الفرعية السابقة لظهور الدولة على الهوية الوطنية المشتركة الجامعة، والفساد السياس، الخ
رابعا، التخلف الاقتصادي، الذي يظهر على شكل الهدر العام بالثروات الطبيعية وعدم استثمارها بطريقة سليمة ما يؤدي الى تراجع الزراعة والصناعة ومن ثم الخدمات، وغلبة الميول الاستهلاكية على الطبيعة الانتاجية للمجتمع، والفقر، والبطالة الحقيقية او المقنعة، والاعتماد على مصدر واحد للدخل كالنفط، الخ.
خامسا، التخلف الاجتماعي، الذي يتجلى بحالة الانقسامات المجتمعية الحادة، وغلبة الانتماءات الفرعية ما قبل الدولة على الانتماء الوطني العام، والطائفية، والتعصبات الفرعية، والنظرة غير المنصفة للمراة، وعدم معالجة حالة اللامساواة الطبيعية (المحرومين) بشكل عادل وانساني.
سادسا، التخلف الاداري، والذي يتمثل بسيطرة الاساليب القديمة في الادارة، والروتين، وعدم شيوع استخدام التكنولوجيا المعاصرة في الادارة، والفساد الاداري، وتعقد الاجراءات.
سابعا، التخلف التربوي، الذي يتمثل بعدم وجود رؤية حضارية للتربية والتعليم، وعدم كفاية المناهج لتخريج مواطن فعال صالح حضاري.
ثامنا، الخلل القيمي، الذي يصيب كل المنظومات القيمية الخاصة بعناصر المركب الحضاري عنصرا عنصرا، فتنحرف طريقة تعامل المجتمع ونظرته الى الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل، فيكون التعامل سلبيا، مضرا بانتاج المجتمع الحضاري.
تاسعا، التخلف الديني، الذي يتمثل في غلبة الدين الشعبي على الدين الكتابي، وعدم الفصل بين العادات الاجتماعية والشعائر الدينية، والتعصب، والتطرف... الخ، وهناك مجالات اخرى للتخلف بحسب تعدد مجالات الحياة والمجتمع، وفي كل هذه الحالات نصف المجتمع بانه متخلف اذا حصل خلل في القيم الحافة بالمركب الحضاري وطبيعة اشتغال عناصره الخمسة.
الاصلاح الحضاري
والاصلاح الحضاري هو عملية اصلاح نواحي الخلل في المركب الحضاري والتي انتجت كل مظاهر وجوانب التخلف المذكورة فيما سلف، والاصلاح الحضاري عملية تغيير اجتماعي تخضع لقوانين التغيير المذكورة في القران الكريم وعلم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي وغيرها من العلوم ذات العلاقة.
وعلى راس هذه القوانين قانون التغيير الذاتي الذي يعبر عنه القران الكريم على النحو التالي: "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم".
حيث يتحدث هذا القانون عن مستويين للتغيير هما:
اولا، المستوى التحتاني للتغيير الذي تشير اليه عبارة "ما بانفسهم". وهذا هو التغيير في المحتوى الداخلي لنفس المجتمع. ويتالف المحتوى الداخلي من عنصرين هما: الفكرة المستقبلية التي يراد تحقيقها من وراء عملية التغيير، والارادة المجتمعية للتحرك والعمل باتجاه هذه الفكرة.
وثانيا، المستوى الفوقي للتغيير، وهو التغيير الذي يطال كل البنى الفوقية للمجتمع من اقتصاد وسياسة وثقافة الخ، وغني عن البيان ان بعض الفلسفات السياسية والاجتماعية كالماركسية لها نظرة مختلفة لمستويي التغيير، وبالنسبة لحالة مجتمعنا العراقي الراهنة، فان الفكرة المستقبلية للتغيير هي #الدولةالحضاريةالحديثة التي تقوم على خمسة اعمدة بنيوية هي: المواطنة، الديمقراطية، القانون، المؤسسات، العلم الحديث.
ولما كان الانسان هو الطرف الفاعل والاساسي في المركب الحضاري، وهو بالتالي الطرف الاسياسي في التغيير، فان تغيير الانسان، واعادة تربيته وتنشئته، هي المحور الاساسي في عملية التغيير والاصلاح الحضاري، بهدف انتاج الانسان الحضاري، او المواطن الفعال، وكما كان التخلف متعدد الجوانب والمجالات، فان الاصلاح الحضاري سيكون متعدد الجوانب والمجالات.
ومن هذا المجالات على سبيل التوضيح لا الحصر:
اولا، الاصلاح القيمي: وهو يستهدف اشاعة وترسيخ القيم الحافة بعناصر المركب الحضاري الخمسة، وتمرين الناس عليها الى ان تصبح ثقافة وسلوكا سائدين في المجتمع.
ثانيا، الاصلاح المنهجي الذي يستهدف اشاعة الاسس والقواعد العلمية للتفكير العقلي السليم، والحوار الحضاري المنتج.
ثالثا، الاصلاح السياسي الذي يستهدف اشاعة روح المواطنة، واشاعة الديمقراطية، وترسيخ دور المؤسسات وحكم القانون.
رابعا، الاصلاح الديني الذي يستهدف ترسيخ البعد الحضاري للدين والممارسات الحضارية المنبثقة من ذلك، وتحرير الدين من عوارض التخلف التي لحقت به.
خامسا، الاصلاح الاقتصادي، الذي يستهدف بناء اقتصاد وطني وفق الاسس العلمية الحديثة ولتحقيق الاهداف الحضارية للاقتصاد المتمثلة بتعدد مصادر الثروة وحمايتها، وتنمية الانتاج، وعدالة التوزيع، واخلاقية النشاط الاقتصادي، وتحسين نوعية الحياة، وتحقيق الرفاهية، وتطبيق الضمان الاجتماعي الخ.
سادسا، الاصلاح الاجتماعي الذي يستهدف تحرير المجتمع من العادات والتقاليد التي لحقت به بسبب التخلف، وتحقيق اللحمة الوطنية، وتحسين وضع المراة، الخ.
سابعا، الاصلاح التربوي، من خلال اعتماد نطام تربوي حديث يستهدف تنشئة اجيال من المواطنين الفعالين.
ثامنا، الاصلاح الاداري باتباع الاساليب الادارية الحديثة التي تستهدف تبسيط الاجراءات والحفاظ على زمن المواطن والموظف... الخ.
الحالة العراقية
يتطلب الوضع العراقي في حالته القائمة اصلاحا حضاريا شاملا، حيث يتميز الوضع القائم بعدة خصائص منها:
اولا، الخلل الحاد في المركب الحضاري للمجتمع العراقي والقيم الحافة به. وهذه هو جوهر التخلف الحضاري المزمن في مجتمعنا، كما بينا في الاسطر السابقة.
ثانيا، غياب مشروع بناء الدولة الحضارية الحديثة وركائزها وخاصة المواطنة والديمقراطية والمؤسسات والقانون والعلم الحديث.
ثالثا، عيوب التاسيس التي رافقت اعادة بناء الدولة العراقية التي انهارت بعد سقوط النظام البعثي الصدامي.
رابعا، المحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية في تشكيل السلطة التنفيذية بكافة مؤسساتها الامر الذي قلل من كفاءة الحكومة وقدرتها على الانجاز طيلة السنوات ال 15 الماضية.
خامسا، الفساد الذي عم وشمل كل مؤسسات الدولة واجهزتها والذي ادى بدوره الى هدر المال العام وتعطل عجلة الانجاز.
سادسا، ضعف انتاجية المجتمع العراقي في الزراعة والتربية الحوانية والصناعات بمختلف اشكالها، وغلبة الطابع الاستهلاكي الاستيرادي على الاقتصاد العراقي ذي العامل الواحد.
سابعا، كل هذا جعل النظام السياسي الحالي في العراق نظاما هجينا، يملك مظاهر معينة من الديمقراطية مثل الانتخابات الدورية، لكنها مفرغة بالكامل من مضمونها الديمقراطي وتقوم بتلفيق الارادة الشعبية وتعطل مفهوم تداول السلطة. وهذا ما جعل الدولة القائمة دولة فاشلة بكل المقاييس الدولية العلمية ويحتم موضوع التغيير والاصلاح واعادة بناء الدولة بدءً من الدستور وما بعده.
ويخشى ان نقول ان الوضع القائم غير قادر على تجاوز ذاته، وبالتالي غير قادر على التغيير والاصلاح والانتقال بالدولة العراقية من حالة النظام الهجين الفاسد والفاشل الى حالة الدولة الديمقراطية الحضارية الحديثة التي توفر للانسان حياة كريمة تليق به.
واذاً، فاننا حينما ندعو الى الاصلاح والتغيير، فاننا لا نوجه دعواتنا الى اصحاب الوضع القائم، فهم جزء منه، واصحاب المصلحة في استمراره، انهم جزءٌ من المشكلة وليسوا جزءً من الحل.
ان التغيير لا يمكن ان يتم بواسطة قوى الحالة القائمة انما بيد قوى تغيير من خارج الحالة القائمة، وهذه هي القوى هي المواطن نفسه المتضرر من الوضع القائم من جهة، والمستفيد من تغييره من جهة ثانية، والمطالب بالتغيير من جهة ثالثة.
ولتحقيق التغيير المنشود بهدف اقامة الدولة الحضارية الحديثة، لابد من اختراق الوضع القائم، وذلك عبر الادوات التالية:
اولا، #المواطن_الفعال: وهو انسان توفرت فيه شروط المواطنة الصالحة وهي: الوعي، الثقافة، الالتزام، التطوع. في مرحلة الدعوة الى التغيير فان المأمول ان الفرد العراقي هو الذي يصنع من نفسه مواطنا فعالا حضاريا صالحا عبر المران والتثقيف الذاتيين، ومن خلال ما ينجزه في ذاته يحققه في محيطه الاجتماعي حتى تكون ولادة الحزب الحضاري ممكنة ومجدية.
ثانيا، #الحزب_الحضاري. وهو يمثل الشريحة الواسعة من المواطنين، لكنهم اقلية، الذين امنوا بفكرة الدولة الحضارية الحديثة وانتظموا في اطار الحزب الحضاري من اجل تنسيق جهدهم وتوحيده باتجاه التغيير.ولا يكون الحزب حضاريا الا اذا جسد في عضويته وبرنامجه وتحالفاته ومساحة انتشاره الوطنية العراقية العابرة للعرقية والمذهبية والدينية والمناطقية والعشائرية وغيرها.
ثالثا، #الانتخاب_الفردي. وهو الطريقة الانتخابية البديلة لطريقة الانتخاب بالقائمة والتي اثبتت تطورات ما بعد انتخابات عام 2018 هشاشتها وعدم جدواها وقابليتها على الارتداد. ويتطلب الانتخاب الفردي قانونا يعمل على تشريعه عدد من النواب الصالحين المؤمنين بالتغيير والاصلاح واقامة الدولة العراقية الحضارية الحديثة.
رابعا، #النظام التعليمي الحديث. وهذه هو الاختراق الاكبر الذي يمكن من خلاله ادخال المدرسة في عملية التغيير عبر تخريج جيل حضاري جديد. وهذا يتطلب الضغط على الوضع القائم لتشكيل اللجنة العليا للنظام التربوي الحضاري.
خامسا، الاعلام المهني الذي يبشر بالتغيير الحضاري عبر وسائل شتى من بينها التواصل الاجتماعي.
اضف تعليق