المواطن الذي لديه أسباب التغيير السياسي، من اضطهاد، وحرمان، واعتقالات، واعدامات، ومصادرة للحريات، ينسى كل هذا الواقع المُر، ويقفز فجأة نحو الايديولوجيا، والشعارات السياسية التي ربما لا يفهم ابعادها ودلالاتها بشكل كامل، بينما كان عليه أن ينتفض أولاً؛ على واقعه الفاسد ومحاولة إزالة ملامح الفقر والحرمان...
كنت على متن حافلة في احدى مناطق كردستان عام 1991 أجول بنظري الى السهول الخضراء، وأتحسس الهدوء المنتشر في الارجاء بفضل "المنطقة الآمنة" التي حظي بها الكرد آنذاك، فكان ركاب الحافلة بين أولئك المحظوظين، يتنقلون من مدينة الى أخرى بكل حرية وأمان، وكان الى جانبي رجل كبير في السن يبدو عليه ملامح سكان الارياف، فدار حديث مقتضب معه، وكانت زلة اللسان منّي أن كشفت له عن مسقط رأسي وأني من مدينة كربلاء، تماشياً مع أجواء الارتياح والشعور الغامر بالأمان والحرية لانسان عراقي يعود الى بلده، بيد إن الرجل كان له استنتاج آخر، ولم يبادلني الشعور، وإنما أبدى انزعاجه وشكوكه بكيفية وصولي الى كردستان وانا من مدينة تخضع لسيطرة صدام؟!.
فذهب في شكوكه وارتيابه الى أن نبهني بضرورة النزول عند أقرب سيطرة للتحقق من هويتي، وما اذا كنت "مندسّاً" من قبل السلطات العراقية (الصدامية)!! ولم ينته الأمر إلا بعد بينت له أني لا أعيش في كربلاء منذ عام 1980، بل أقيم خارج العراق، ثم أخرجت له بطاقتي الصحفية موضحاً أني محسوب على "المعارضة العراقية"، فكانت المفاجأة أن هذا الرجل المتحمس لم يعرف القراءة والكتابة!
لم استذكر هذه الحادثة إلا عندما جلست ابنتي الصغيرة ذات الثمان أعوام الى جانبي، لترى عن أي موضوع ساكتب، ثم زاحمتني في الكرسي والطاولة لتفرض نفسها على جهاز الحاسوب (لابتوب) وتقول: لدي ما اكتبه عن الفساد و ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة الجديدة!
وهذا جعلني أعيد النظر في مطالبتي الطلاب والكادر التعليمي وايضاً طلبة و اساتذة الجامعات بالإفصاح عن مطالبهم الخاصة بما يعانوه من أزمات في المباني والأثاث والخدمات، بدلاً من التماهي مع المطالبات بالإصلاحات السياسية، وبالرغم من أن القطاع التعليمي من أكثر القطاعات المتضررة بالفساد، نجد أنه يقف في طليعة المحتجين ضد النظام السياسي الفاشل والفاسد في العراق، وهو الذي يرفع شعارات الإصلاح السياسي ومحاربة الفساد اكثر من غيره من القطاعات الحكومية الاخرى، ونراه يدفع الثمن أكثر من غيره في تأخر العام الدراسي مع تبعات سلبية أخرى.
في هذا المضمار ثمة اعتقاد بان التفاعل مع الحدث السياسي بهذا الشكل يمثل حالة صحّية، يفتح الطريق أمام المشاركة السياسية، ويمكّن الجماهير من التأثير على القرار السياسي، ما من شأنه تطوير العملية الديمقراطية، بيد أن التجارب الماضية أكدت أنه بمقدار ارتفاع منسوب التسييس في أي مجتمع، تنخفض فيه نسبة التأثير على القرار السياسي، ليس هذا وحسب، بل ونلاحظ المردود العكسي بأن مجتمع كهذا يكون دائماً ضحية الانقلابات العسكرية والدسائس والمؤامرات، وبدلاً من أن يكون لاعب مؤثر في النظام السياسي الجديد، نراه يتحول الى أداة لتنفيذ الاجندات الحزبية الداخلية، والتجاذبات الاقليمية والدولية.
ولعل التجربة السياسية في الشمال الكردي، والتجربة السياسية في الجنوب الشيعي تكون خير دليل على ذلك، فالجميع يعرفون بوجود قوى كبرى في العالم تتحكم بمصائر الشعوب، ولها قدرات هائلة ونفوذ سياسي في العراق، وأن هناك أحزاب سياسية طامحة بالسلطة، فيجهدون في متابعة تفاصيل حياة الشخصيات السياسية وتوجهاتهم وافكارهم عبر وسائل الاعلام، ولكن؛ حين تحين لحظة التحول الكبير نراهم بين متفرج على مشاهد السحل والتصفيات الجسدية، او مشارك ببعض أعمال العنف وتصفية الحسابات لصالح هذه الجهة أو تلك.
فأين تكمن المشكلة؟
المواطن الذي لديه أسباب التغيير السياسي، من اضطهاد، وحرمان، واعتقالات، و اعدامات، ومصادرة للحريات، ينسى كل هذا الواقع المُر، ويقفز فجأة نحو الايديولوجيا، والشعارات السياسية التي ربما لا يفهم ابعادها ودلالاتها بشكل كامل، بينما كان عليه أن ينتفض أولاً؛ على واقعه الفاسد ومحاولة إزالة ملامح الفقر والحرمان والتخلف عن شخصيته، فعندما يطالب بالتوزيع العادل للثروة، والمساواة في الحقوق والواجبات، واستعادة الحريات، وغيرها من مفردات العلاقة الصحيحة بينه وبين الحاكم، فانه يكون قد اكتسب الثقافة السياسية، أو "الفهم السياسي" الذي يضمن له الوجود الآمن والقوي في الساحة السياسية متسلحاً بالوعي والمعرفة بما يجب عليه ان يفعل، وما لا يجب عليه فعله، ومن الذي ينتخبه قائداً يسير خلفه؟ ومن الذي يتجنب أفكاره وأقواله؟ وما الذي عليه أن يؤمن به ويتبناه؟
وعندما تكون جماهير الشعب على هذا الطريق ستنتصر على تخلفها وفقرها وتبعيتها، قبل ان تنتصر للشعارات السياسية، وبذلك؛ لن تكون مجبرة لأن تدفع من دماء شبابها، ومن أمنها واستقرارها ثمناً لتلك الشعارات والوعود، وبهذا نكون في طريق "الجهاد الفكري والجهاد العلمي ضد الجهل، وبكل الوسائل المتاحة المشروعة، بالقلم واللسان، وبمختلف الوسائل العصرية" (الفهم السياسي –المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي)، فتكون التظاهرات المطلبية والمسيرات الاحتجاجية ذات تأثير مباشر على الواقع السياسي، أسوة بما يحصل في الدول التي تمارس الديمقراطية بما يخدم مصالحها قبل مصالح الاحزاب السياسية أو مصالح رئيس الجمهورية، او زعيم الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية.
ولو أن الطريق الى ذلك طويل، بيد أن تحقيق هذا الطموح ليس مستحيلاً، إنما بحاجة الى مزيد من التثقيف والتوعية على نطاق واسع في المجتمع.
اضف تعليق