بات من المعروف في العراق انه ومع كل حدث سياسي كبير او صغير تنقسم وسائل الاعلام في تغطيته الى معسكرين او أكثر، وهذا الاختلاف في التغطية يعتبره بعض المتابعين جزءاً التعددية السياسية وكذلك جزء من حرية الرأي والتعبير كما يضمن ذلك دستور جمهورية العراق لعام 2005...
بات من المعروف في العراق انه ومع كل حدث سياسي كبير او صغير تنقسم وسائل الاعلام في تغطيته الى معسكرين او اكثر، وهذا الاختلاف في التغطية يعتبره بعض المتابعين جزءاً التعددية السياسية وكذلك جزء من حرية الرأي والتعبير كما يضمن ذلك دستور جمهورية العراق لعام 2005، لكن هذا التعدد في الطرح يحمل في طياته الكثير من المخاطر على الحقيقة نفسها، فنحن في العراق لا نملك وسائل اعلام بالمعنى المهنى، انما هناك وسائل للدعاية السياسية، تلك الوسائل التي لا تقوم بنقل الحدث كما هو على ارض الواقع انما تقوم بتوظيف الحدث من اجل تحقيق غايات سياسية.
بمعنى ان الحدث لا يتم تناوله الا في اطار خدمة السياسة العامة للممول، والممول غالبا ما يكون حزبا سياسيا يدين بالولاء للخارج، بالتالي نحن نقف امام أدوات سياسية بلباس اعلامي، وهذا مكمن الخطورة في عمل وسائل الاعلام العراقية، ففي التظاهرات الشعبية التي بدأت مطلع تشرين الأول لم نكن امام عرض للواقع بقدر ما كانت وسائل الاعلام تمارس عملية إخفاء الواقع عبر العرض نفسه.
كيف يتم إخفاء الواقع من خلال العرض؟
يتم ذلك عبر التركيز على جزء صغير من الواقع (إيجابي او سلبي) وعرضه للجمهور على انه الواقع، فالقنوات الفضائية المعارضة للتظاهرات ركزت على نظرية المؤامرة، وساقت الكثير من المشاهد الاقناعية لترسخ في اذهان الناس ان ما يجري ليس مطالب شعبية انما هو دفع خارجي لاستهداف العراق.
في الجهة المقابلة ركزت وسائل الاعلام المؤيدة للتظاهرات على جزء واحد من التظاهرات، وهو الحق المطلبي رغم ما شاب التظاهرات في البداية من تجاوزات ومخالفات خطيرة، تم تلافيها فيما بعد.
عادلت وسائل الاعلام المؤيدة للحكومة من خطابها، وقامت بتغطية التظاهرات مباشرة، بعد ما تعرض للنقد الشديد، لكن وسائل الاعلام المؤيدة للتظاهرات بقيت على اسلوبها في التغطية، وبقيت تركز على الاعتداءات التي تقوم بها القوات الأمنية ضد المتظاهرين، ولم تظهر أسباب قيام قوات الامن بهذه الاعتداءات، فقد سجل الكاتب مجموعة من الملاحظات على التظاهرات بشكل عام:
أولا: غياب الجهد الاستقصائي في القنوات الفضائية، ولا سيما واننا نتحدث عن ملفات كبيرة كشفتها الهيئات الحكومية مثل هيأة النزاهة وغيرها.
ثانيا: غياب الجهد الاستقصائي في التعامل مع ملفات خطيرة مثل اطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وعمليات الحرق التي تتعرض لها مؤسسات الدولة العراقية، خاصة مع تنصل الجميع عن المسؤولية، سواء من قبل المتظاهرين او من قبل الحكومة.
ثالثا: بروز الاعلام بوصفه أداة من أدوات الصراع الجاري، اكثر من كونه مراقبا وشاهدا على الاحداث، وهذا الامر ينطبق على وسائل الاعلام المؤيدة للحكومة او التي وقف في صف المتظاهرين، وهنا برز لدينا نموذج صناعة الواقع وليس الواقع نفسه، في الموجة الأولى من التظارات هناك تركيز على ما تتعرض له القوات الأمنية من اعتداءات وكذلك تركيز على الاعتداءات والحرق ضد المرافق العامة، وهذا ما كانت تقوم به وسائل الاعلام المؤيدة للحكومة. اما في الموجة الثانية اصبحنا امام واقع جديد، وتم التركيز على اطلاق عبارات السلمية رغم ما يشوب التظاهرات من خروقات كبيرة.
رابعا: غياب معايير الصدق والدقة والموضوعية في نقل الاحداث، فقد شاهدنا بعض القنوات الفضائية تتحدث وفي البث المباشر عن أشياء لا تتلائم مع الواقع، مثلا قناة فضائية تتحدث عن استقرار الأوضاع بدون وجود أي مواجهات عسكرية بينما نسمع اطلاقات النار خلف المراسل التلفزيوني
كما شاهدنا بعض التقارير تتحدث عن تظاهرات سلمية بينما يتقاذف المتظاهرون الحجر من الأرصفة باتجاه القوات الأمنية، وباساليب توحي بوجود مواجهات خطيرة.
سادسا: التناول الكوميدي للمعلومات الحكومية جعل الحقيقة تضيع تحت ركام الاحداث، فرغم قناعتنا التامة بفساد الحكومة، لكن هناك أمور تتحدث عنها هي حقيقية، وإظهار الجوانب الكاملة للحقيقة من المبادئ الأساسية للصحافة الحرة، بغض النظر عن المتحدث.
سابعا: ظهور بعض القنوات بثوب المؤيد للتظاهرات واحتفاء المتظاهرين بها، يؤكد مدى انحيازها، فالجمهور عاطفي ولا يريد الا من يؤيده، بينما وظيفة وسائل الاعلام هي نقل الحقائق، ولا يمكن التسامح في مسألة الانحياز لاي سبب كان، لان المعلومة غير المنحازة مقدسة، ولا يحق للصحفي التعامل معها كسلعة يقتطع منها ما يشاء ويبقي ما يشاء.
في المجمل، رأينا انحيازا واضحا من قبل وسائل الاعلام وعدم مراعاة المعايير المهنية في تغطية التظاهرات، وهذا يحيلنا الى الخطر الأكبر في العراق، وهو غياب المعلومة الصحيحة، والتي تضيع دائما في اتون الصراع السياسي، واذا كان من سبب وراء الخراب الذي لحق بالبلد منذ سنوات فهو بسبب غياب المعلومة الصادقة، وتضليل الناس، واخفاء الحقائق بحجج كثيرة كالحفاظ على المصلحة الوطني وغيرها من الحجج، ومع بزوغ فجر التظاهرات بقي الاعلام بعيدا عن تحقيق غايته السامية وهي نقل الحقيقة كما هي على ارض الواقع، او على الأقل نقل جزء كبير من الحقيقة، وليس تعميم قطع صغيرة من الواقع وابرازها على انها الواقع كما هو.
اضف تعليق