من أسباب الاحتجاجات تصرفات وأفعال أولئك المسؤولين والسياسيين غير السليمة، من أهمها أنهم لا يفكروا إلا بمصالحهم ومنافعهم، الفوارق الطبقية الواسعة بين الحالة المعيشية للمسؤولين والسياسيين الكبار، حتى المتقاعدين منهم (بعضهم يستلم أكثر من راتب)، وبين حالة عامة المواطنين. تهالك كثير من السياســـيين نحو المناصب...
حين كان المظلومون والمحرومون والمستضعفون يناشدون المسؤولين بشتى الأساليب الإدارية والقانونية لإنصافهم ومراعاة ظروفهم القاسية، لم يستجب أحد من هؤلاء المسؤولين لهم، لأن الحجج جاهزة، والذرائع قائمة لتبرير عدم الاستجابة، لكن بعد ضغط الاحتجاجات و"إرهاب الحكام اجتماعياً"، على حد تعبير عالم الاجتماع السياسي، الروسي "أوستروغورسكي" (1845 – 1921م) أصبحت، بقدرة قادر، هناك إمكانية لتنفيذ عدد من المطالب وإصدار كثير من التشريعات، مثل توزيع الأراضي، والوظائف، والرعاية الاجتماعية، والمحاسبة. الغريب في الأمر أن هذا التنفيذ حصل بسرعة قياسية.
على هذا الأساس فإن هذه الاستجابة الجزئية السريعة، تعتبر إدانة للمسؤولين ومثلبة لهم وليس حسنة ولا منقبة، لأن إمكانية هذا التنفيذ وبسرعة يعني أن لديهم قدرة وإمكانية في كل الأوقات لإصدار تلك القرارات. والسؤال المحوري، هنا، هو لماذا لم يقوموا بذلك سابقاً؟ فضلاً عن ذلك هناك مفارقة عجيبة حصلت وهي أن معظم السياسيين أصبحوا يستشهدون على نطاق واسع بأقوال المرجعية الدينية (في النجف الأشرف)، وهذه تُعد إدانة ومثلبة لهؤلاء السياسيين أيضاً، لأن ذلك دليل على أنهم لم يفكروا بحالة تلك الشرائح المحرومة من المجتمع، ولم يهتموا بكيفية اصلاح المجتمع، كأنهم الآن استيقظوا من سباتهم ونومهم.... علماً أن المرجعية كانت دوماً تحذر وتنبه إلى الخلل في إدارة الدولة.
هذا يدل على أن المسؤولين عن إدارة الدولة ليسوا سياسيين حكماء، لأن الإنسان الحكيم ليس هو الذي يحاول حل المشكلة عندما تقع، لكن الحكيم هو الذي يحتاط للمشكلة حتى لا يقع فيها. لهذا نجد أن كثير من السياسيين مصابون بمرض "التفرد" وهو النزعة الشديدة في الاستحواذ على صنع القرار وعدم اشراك المخلصين من علماء ومفكرين ومراكز أبحاث معهم. إضافة إلى صفة التفرد، هناك صفة أخرى، هي أن هؤلاء السياسيين لا يعترفون بالفشل ولا بالمســـؤولية.
كما يقول: مصطفى حجازي في كتابه "التخلف الاجتماعي": "لا يتقبل الإنسان الكارثة أو الهزيمة أو الخطوب أو الفشل كأمر واقع، ولا يستطيع الاعتراف بمسؤوليته المباشرة فيما حل به. إنه أما يهرب من الواقع أو يلقي اللوم على الآخرين، أو يستجيب بالعدوان أو يوهم نفسه بأن الأمر عابر".
أعتقد أن من أسباب الاحتجاجات هي تصرفات وأفعال أولئك المسؤولين والسياسيين غير السليمة، من أهمها أنهم لا يفكروا إلا بمصالحهم ومنافعهم هذا أولاً.
ثانياً، تلك الفوارق الطبقية الواسعة بين الحالة المعيشية للمسؤولين والسياسيين الكبار، حتى المتقاعدين منهم (بعضهم يستلم أكثر من راتب)، وبين حالة عامة المواطنين.
ثالثاً، تهالك كثير من السياســـيين نحو المناصب والمســــؤوليات العليا في الدولة، لأنهم يجـــدون فيها فرصة كي يحصلوا على المغانم والامتيازات العالية، من ناحية، ومن ناحية أخرى كي يتخلصوا من الالتزام بالقوانين والأنظمة النافذة.
رابعاً، فقدان كثير من المسؤولين والسياسيين أي إحساس بآلام الآخرين ومعاناتهم، والذي لا يحس بآلام الآخرين، كما، يقال هو كائن حي لكن ليس إنساناً.
ويعزو المفكر، سلامة موسى في كتابه "الثورات"، هذه الصفة الذميمة إلى وجود طبقة مسيطرة غير منتجة فيقول: "إننا نجد على الدوام في تاريخ الثورات أن هناك طبقة تسيطر على المجتمع وتتسلط على الحكم، ولكنها غير منتجة، وهي، لأنها غير منتجة، لا تحس المسؤوليات الاجتماعية، فتنحل أخلاقها، ويتزعزع تماسكها، وهي تسرف وتتبذخ، لأنها تستهلك ولا تنتج، وقد تحيا على هذه الحال سنين، ولكن الشعب الذي يحتقرها ينتهي بالثورة عليها....".
ويمكنني أن أضيف إلى ذلك صفة أخرى للقيادات السياسية الحالية، هي، أنهم أصبحوا وراء الجماهير، حين تركوا الأحداث تقودهم وهم صاغرين، ليصبحوا بعد ذلك كلهم مع الاحتجاجات، إذ من المفروض أن هؤلاء السياسيين هم الذين يقودون الجماهير ويحركوها نحو الاحتجاج والتظاهر السلمي.
خامساً، إن القيادات السياسية تقع في مفارقة أخرى عجيبة، هي أنهم في الوقت الذي لم يستطيعوا أو بالأحرى لا يرغبوا أن يدافعوا عن حقوق شريحة المحرومين والمظلومين والمستضعفين، فانهم لا يتمكنوا من معالجة أسباب الفقر والحرمان والظلم والتأخر، هذا يؤدي بالنتيجة إلى يأس هذه الشريحة من نجاتهم على يد هذه القيادات، فتحدث الاحتجاجات والثورة.
بمعنى آخر، كما يقول أحد المفكرين، عندما لا تحارب الفقر والظلم والحرمان فستضطر يوما لمحاربة الفقراء والمظلومين والمحرومين.
ويلخص عصام سليمان في كتابه "مدخل إلى علم السياسة"، قسماً مما ذكرناه، فيقول: "...فالأقلية التي تمارس الحكم، في الأنظمة الديمقراطية، تميل فطرياً إلى الاستئثار بالسلطة والانسلاخ عن الشعب، فالسلطة تغيّر نفسية الحكام وتبدل حالهم، وتباعد بينهم وبين القاعدة الشعبية التي أوصلتهم إلى الحكم، وتؤدي إلى نشوء مصالح للفئة الحاكمة متمايزة عن مصالح الشعب، وأحياناً متناقضة معها".
إن التعاطف مع المحتجين وإصدار بعض القرارات، لا يكفي، إنما ينبغي إصدار قوانين وتشريعات عادلة لعمل الانتخابات، ولمجلس النواب ومحاربة الفساد وغيرها، على أن يشارك في ذلك المحتجين أنفسهم، إذ لا يكفي الكلام بالعموميات ورفع شعارات فقط، إنما يجب أن تكون هناك تعليمات وتفصيلات واضحة محددة.
اضف تعليق