يمر العراق الان بتحولات سياسية واجتماعية، بل حضارية، ربما سنصفها بعد حين بانها تاريخية، وفي مجرى هذه التحولات سيكون من الضروري اثارة النقاشات العامة والغنية حول المسائل المطروحة، مثل الاحزاب والنظام الرئاسي الخ، وما لم يتسع النقاش، وما لم يتسم بالصفة الموضوعية، فسوف نحرم أنفسنا من فرصة ثمينة...
النقاش العام الموضوعي العلمي من مستلزمات اقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق، كما في غيره المجتمعات.
ومنذ خروجي من الوظيفة العامة واحالتي على التقاعد، في حزيران عام ٢٠٠٦، بطلب مني لوصولي السن القانوني، اتيحت لي الفرصة الكاملة لبلورة وتطوير اطروحة الدولة الحضارية الحديثة وضرورة العمل على اقامتها في العراق، بما في ذلك قراءة العشرات من الكتب بدءاً من جمهورية افلاطون وسياسة ارسطو وليس انتهاء بنظرية العدالة لجونز راولز، مرورا بالفارابي وابن رشد وجان جاك روسو وهوبز وفولتير ومونتسكيو ولوك وماركس وغيرهم، دون ان انسى القران الكريم والانجيل ونهج البلاغة.
وقد لاحظت ان هناك قاسما مشركا بين هذه الاسماء والكتب هو النقاش والدعوة الى الحوار.
وتعود الاشادة بالنقاش الى القائد الاثيني الديمقراطي بيركلس (٤٩٥-٤٢٩ ق م) الذي قال ان القادة السياسيين لا يعتبرون النقاش حجر عثرة في طريق العمل بل يعتبرونه مقدمة لا غنى عنها لاي عمل حكيم.
ومن بعده كان ارسطو (٣٨٤-٣٢٢ ق م) اول من دافع عن اهمية انخراط المواطنين في النقاش حول القوانين، رغم انه كان يفضل ان يكون النقاش بين النخبة من الناس.
واعلن الكاتب والسياسي البريطاني ادموند بيرك (١٧٢٩-١٧٩٧) ان البرلمان جمعية تشاورية.
وخصص الكاتب البريطاني وولتر باجوت (١٨٢٦-١٨٧٧) فصلا كاملا في كتابه "الفيزياء والسياسة" (١٨٧٢) سماه "عصر النقاش"، وعرّف الديمقراطية بانها الحكم عن طريق النقاش. ومثله فعل جون ستيوارت مل (١٨٠٦-١٨٧٣).
وفي بداية القرن العشرين اخذ المفكرون السياسيون امثال جون ديوي والف روس وليندسي يربطون بين النقاش العام والديمقراطية معتبرين ان النقاش العام ضروري بالنسبة للديمقراطية الى ان طور هابرماس وجون راولز واخرون فكرة الديمقراطية التداولية او التشاورية deliberation democracy التي اضحت مكملة اساسية للديمقراطية التمثيلية.
وانطلاقا من هذت التصور شرعت بنشر العديد من المقالات في مواقع التواصل الاجتماعي بغرض اثارة النقاش العام حول اطروحة الدولة الحضارية الحديثة وما يتعلق بها من افكار ومفاهيم ومصطلحات. وقد تراكم عندي على مدى السنوات الثلاث الماضية المئات من هذه المنشورات التي تصلح ان تكون كتابا ضخما جدا.
وقد اثارت هذه الكتابات نقاشات لا بأس بها بين المتلقين بين مؤيد او رافض او مستفهم الخ. وقد نفعتني هذه النقاشات كثيرا في انضاج الفكرة وتطويرها وسد نواقصها.
وحتى يكون النقاش مفيدا يجب ان يكون علميا وموضوعيا وهادفا وبعيدا عن التشهير والاتهامات والشخصنة او الشيطنة او ترديد اقاويل غير علمية.
وفي مجرى هذه النقاشات كانت اغلب المساهمات والتعليقات موضوعية وعلمية، الامر الذي اثرى الفكرة، ووسع زاوية النظر فيها، ونفع الكاتب كثيرا.
لكني وجدت، اضافة الى هذا، من يركز على شخص الكاتب دون التفكير بما كتب. ومن امثلة ذلك: لماذا لم تكتب هذه الفكرة وتروجها حين كنت ترأس شبكة الاعلام، واين كنت في الفترة السابقة، واخذ بعضهم يردد مسموعات لم يتم التاكد منها حول اتهامات كيدية باطلة بالفساد وما شابه. وكل هذه الامور منعت مردديها من النظر في الفكرة ذاتها، فحرمتهم فرصة استيعاب الفكرة، وحرمت الكاتب من فرصة الاستفادة من افكارهم وملاحظاتهم، لانهم انحرفوا الى مسار خارج اطار الفكرة.
يمر العراق الان بتحولات سياسية واجتماعية، بل حضارية، ربما سنصفها بعد حين بانها تاريخية. وفي مجرى هذه التحولات سيكون من الضروري اثارة النقاشات العامة والغنية حول المسائل المطروحة، مثل الاحزاب والنظام الرئاسي الخ. وما لم يتسع النقاش، وما لم يتسم بالصفة الموضوعية، فسوف نحرم انفسنا من فرصة ثمينة لابد من استثمارها على افضل وجه قبل فوات الاوان.
اضف تعليق