فالتفاهم العميق بين الناس المختلفين، آحاداً وجماعات، لا يمكن أن ينجز إلا بإنهاء ظاهرة التنميط لبعضنا البعض.. فآراءنا التاريخية لبعضنا البعض، ليست صحيحة، لأن تلك الآراء والمواقف دونت بحق أناس آخرين ومجتمع آخر، حتى ولو كنت مشتركا معهم في الدين والمذهب والقومية. إن زحزحة هذه...
لعلنا لا نأت بجديد حين القول: إن الإنسان بصرف النظر عن دينه أو بيئته الاجتماعية أو حياته الاقتصادية والثقافية، جبل على سعيه إلى تعميم قناعاته وتوسيع دائرة المتشابهين معه سواء على صعيد قناعاته الدينية أو مواقفه السياسية والاجتماعية.. فالإنسان بطبعه نزاع إلى هذه الحالة.. لذلك نجد أن من أصعب الأشياء وأعقدها في الوجودات الاجتماعية والإنسانية هو القبول بفكرة الاختلاف واحترام المختلف.. فالإنسان بطبعه يريد الجميع نسخة مكررة منه.
ولكون هذه الحالة التي ينشدها الإنسان، هي خلاف الحقيقة الإنسانية والناموس الرباني، لذلك فهذا الإنسان يشقى مع الاختلاف، ولا يتحمل أن يكون غيره سواء على الصعيد الجماعي أو الفردي مختلفا معه..
لذلك فإن الرأي العام عند الناس، هو ترذيل ظاهرة الاختلاف، والتعامل معها بوصفها نتوء ينبغي اقتلاعه من الفضاء الاجتماعي..
ولعل الذي يساعد على تأبيد هذه الظاهرة وبروزها الدائم، هو القراءات والمواقف النمطية عن بعضنا البعض.. فكل طرف يحمل رؤية نمطية عن الآخر، وحينما يقوم الطرف الآخر بتصرف متناقض لرؤيتنا النمطية إليه، لا نلتفت إلى هذا التحول، وإنما نبحث لأنفسنا عن مبررات ومسوغات لإدامة رؤيتنا النمطية إليه.. لذلك هناك حالة ستاتيكية – ثابتة، لا تتزحزح من الرؤى النمطية المتبادلة لبعضنا البعض..
وأعتقد أن هذه من القضايا التي تدمر كل المساحات المشتركة بين المختلفين، لأنها تتعامل مع الإنسان بوصفه حالة ثابتة – جامدة، لا تتحول ولا تتغير.. وهذا يناقض طبيعة الإنسان، أي إنسان، لأن كل كائن حي، هو معرض للتحول في عقله وثقافته وقناعاته ومواقفه..
لهذا من الضروري لنا جميعا، أن ننصت إلى تحولات وتغيرات بعضنا البعض، ونفكك من الرؤية التأبيدية والنمطية لبعضنا البعض.. فأنا لست بالضرورة هو ذاته ما تقرره كتب ومدونات التاريخ، كما أنك لست بالضرورة أيضا ما سطرته كتب ومدونات التاريخ.. فحينما نتعامل مع بعضنا البعض على هذا الأساس، فإن الكثير من العناصر السلبية التي تتحكم في نظرتنا إلى بعضنا البعض تتبدل نحو الأحسن.
فالتفاهم العميق بين الناس المختلفين، آحاداً وجماعات، لا يمكن أن ينجز إلا بإنهاء ظاهرة التنميط لبعضنا البعض.. فآراءنا التاريخية لبعضنا البعض، ليست صحيحة، لأن تلك الآراء والمواقف دونت بحق أناس آخرين ومجتمع آخر، حتى ولو كنت مشتركا معهم في الدين والمذهب والقومية..
إن زحزحة هذه الرؤى والمواقف النمطية، هو أحد المداخل الأساسية لخلق تفاهم عميق بين المختلفين، بدون عبء التاريخ أو مسبقات الرأي والموقف. فأخطاء الإنسان ليست ثابتة ونهائية.. فقد نخطأ بحق بعضنا البعض، أو نتجاوز مقتضيات العدالة في علاقتنا، ولكن هذه الأخطاء أو التجاوزات، ليست نهائية أو أبدية، نتمكن جميعا حينما نقرر التحرر من هذه الأعباء والأحمال أن نبني حياة مشتركة جديدة، تستند إلى قيم الاحترام المتبادل وصيانة حقوق بعضنا البعض..
وفي هذا السياق نود التأكيد على النقاط التالية:
1- ليس مطلوبا منا جميعا لكي نتفاهم، أن تكون آراؤنا وأفكارنا وقناعاتنا متطابقة، لأنه إذا كانت متطابقة، لا نحتاج إلى تفاهم، لأننا سنصبح متشابهين في كل شيء..
إننا نقول: إن بيننا لاعتبارات ذاتية وموضوعية، اختلافات وتباينات، ليست مدعاة إلى الجفاء والقطيعة وتوتير الأجواء الاجتماعية، وإنما هي مدعاة للتلاقي والتفاهم.. وليس من شروط التلاقي والتفاهم، أن تتطابق وجهات النظر في كل الأمور والقضايا..
فالتفاهم يبنى على قاعدة الإقرار بحقيقة الاختلاف.. ولكن هذا الإقرار بحقيقة الاختلاف، لا يشرع لنا جميعا أن نسيء إلى بعضنا البعض سواء إلى الرموز أو الثوابت أو القناعات العقدية الثابتة..
2- إن التفاهم العميق بين المختلفين، لا يبنى دفعة واحدة، وإنما هو بحاجة إلى مدى زمني، نبني فيه تفاهمنا خطوة – خطوة، بحيث نصل بعد مشوار من العمل والقيام بمبادرات تفاهمية إلى إنجاز حقيقة التفاهم في حياتنا العامة..
وفي سياق سعينا جميعا لبناء تفاهمنا العميق، ينبغي أن لا نتوقف عن هذا المشروع الهام والحيوي، بفعل كلمة هنا أو تصرف هناك هو محل إدانة واستنكار..
فخصوم التفاهم بين المختلفين كثر فلا نسمح لهم بإفشال مشروع الفهم والتفاهم والاحترام المتبادل..
فالتفاهم بين المختلفين في الدائرة الإسلامية، ليس مشروعا آنيا أو تكتيكيا، وإنما هو خيار عميق نابع من فهمنا ووعينا بقيم الإسلام وتشريعاته العامة..
3- إن الفهم والتفاهم بين المختلفين، يتطلب باستمرار إلى سياج أخلاقي يحميه ويصونه. ولهذا يتطلب من القائمين بمشروع الفهم والتفاهم أو بأي مبادرة تستهدف توسيع المساحات المشتركة بين المختلفين، أن يتحلوا بمناقبيات وفضائل الأخلاق، لأننا جميعا نتعامل مع مشاعر إنسانية، وهذا يقتضي المداراة والمحبة والرحمة وحسن التدبير، والبعد عن الجفاء واليباس في العلاقة الاجتماعية والإنسانية..
ففضائل الأخلاق وحسن التعامل الإنساني مع المختلف، من بوابات بناء تفاهمات عميقة بين المختلفين.. فلا نضيع أفكارنا الرائعة بجفاء سلوكنا وأخلاقنا.
اضف تعليق