قامت الحكومات العراقية المتعاقبة، بعملية تخدير غير مرئيسة لنفسها والشعب، ليس بالطريقة التقليدية المعروفة عبر تهريب الكوكايين وغيرها، انما تقوم بتعاطي جرعات صغيرة من المخدرات (السياسية) ولم تكن مرئية الا لفئة قليلة من المطلعين على الشأن العام، وكلما عجزت عن حل مشكلة جديدة زادت الحكومة...
لدى العراق مشاكل لا تعد ولا تحصى، ربما هذا هو حال جميع دول العالم، لكن ما يميز مشاكلنا انها تعمر تطويلاً ولا تغادر ميدان الصراع حتى ترهق الكبار والشباب والصغار، فبعد ازمة الكهرباء التي بقيت عصية على الحل، لحقتها ازمات الخدمات والبطالة، والفساد، وانهيار الاقتصاد.
ومن المعروف ان الذي لا يستطيع حل مشاكله عبر الطرق السليمة ويصل الى حالة اليأس فهو امام خيارين، اما ينتحر، او يهرب الى حياة لا طعم لها عبر تعاطي جرعات من المخدرات لعله يبقى يتنفس الى اجل لا يعرف متى تكون نهايته، وفي السياسة قامت الحكومات العراقية المتعاقبة، بعملية تخدير غير مرئيسة لنفسها والشعب، ليس بالطريقة التقليدية المعروفة عبر تهريب الكوكايين وغيرها، انما تقوم بتعاطي جرعات صغيرة من المخدرات (السياسية) ولم تكن مرئية الا لفئة قليلة من المطلعين على الشأن العام، وكلما عجزت عن حل مشكلة جديدة زادت الحكومة من المخدرات لنفسها وللشعب معا.
ومع ادمان المخدرات فلم يعد هناك قلق من ازمة الكهرباء، لن تحتاج الحكومة لسنوات من العمل على محطة كهربائية لتنتج لنا الف ميگاواط، فهذا الانجاز لا يحدث تأثيرا اذا لم تقم السلطة الحاكمة بتحسين شبكة نقل الطاقة، كما ان ذلك يحتاج الى اجراءات اخرى من قبيل رفع التجاوزات على الشبكة الوطنية، كل هذا يحتاج الى عمل سنوات، وخسارة اصوات العديد من الناخبين، ما يعني خسارة صهوة السلطة، فلماذا لا نذهب للحل السريع، نستخدم المخدر الأبرز والأكثر فاعلية وهو مخدر نظرية المؤامرة، فنتهم سكان المريخ وحكوماته بالتخطيط لمؤامرة كبرى لتدمير العراق، ونوجه طاقة الاعتراض الشعبية على سوء الخدمة الى مكان اخر وهو العدو الوهمي.
بهذه الطريقة لا تحل ازمة الكهرباء لكن نضمن على اقل تقدير ان لا يثور الشعب لمدة معينة في الاجل المنظور، اما في الامد البعيد فلا داعي للتفكير، اذ يمكن زيادة جرعة المخدر، ونتخلص من الهيجان الشعبي مرة اخرى، فالتفكير بعيد الامد لدى المنظومة السياسية العراقية موضة محرمة تؤدي بمن يمارسها الى الاستبعاد منها او تقليل حظه في الحصول على المكاسب، وهنا نضع ابرز المخدرات الحكومية التي تستخدم لتبريد شعلة النقد لدى المواطنين:
اولاً: الوظيفة الحكومة هي الاخرى تمثل اكبر مخدر للشعب، فهي مثل دودة الارضة التي تنخر جدران البيوت دون ان يشاهدها احد، يركض خلفها الشباب وكل من اكمل دراسته ومن لم يكملها، صاحب الشهادة الجامعية وما بعد الجامعية، لكن رغم ما توفره الوظيفة لمن يحصلون عليها من مكاسب مادية الا انها تمثل ثغرة كبيرة في الاقتصاد تجعله اقتصادا استهلاكيا بكل ما للكلمة من معنى، ويهدد بانهيار تام للنظام الاقتصادي، بعد الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للعملة.
ثانياً: التعليم الجامعي الاهلي، والذي قضى بشكل كبير على التعليم المهني ووفر فرصة للطلبة من اجل الحصول على شهادة جامعية، بدون اي ضمانة بفرصة عمل بعد التخرج، فالاصل في ذهاب الطلبة للجامعات الحكومية هي الهروب من التعليم المهني "المعاهد التقنية" والتي باتت شهادتها محل استهزاء لان الحكومة لم توفر لخريجي المعاهد اية فرصة للعمل وكأنهم حلقة زائدة في النظام التعليمي، ومن ثم ذهب الطلبة الى الجامعات ظنا منهم بانهم سوف يحصلون على ما فقدوه في المعاهد لكن هذه الهجرة هي انعكاس لسوء التخطيط، وبما ان الجامعات الاهلية وحتى الحكومية لا تعلم الطلبة المهارات اللازمة لسوق العمل، كان مصيرها شبيها بما حدث مع التعليم المهني.
ثالثاً: القرارات الشعبوية، فبعد كل تظاهرة شعبية تطالب باستعادة الحقوق تصدر الحكومة مجموعة من القرارات التي تهدف الى التخلص من الغضب الشعبي، بغض النظر عن تعارضها مع الدستور، او تعارضها مع المصلحة العامة، على سبيل المثال اذا كانت التظاهرات تطالب بمحاربة الفساد وتوفير فرص العمل للشباب فهل يعقل ان تصدر وزارة الداخلية قراراً بتعديل قانون المرور الجديد من اجل تقليل بعض الغرامات على المخالفين رغم ما فيها من عامل ردع واسهاما في تامين الطرق وزيادة انسيابية السير، فضلا عن توفيرها لدخل لا بأس به يسد عجز الموازنة.
رابعاً: العطل في المناسبات الدينية، فالاصل في المناسبة الدينية انها ممارسة اجتماعية يقوم بها الناس كجزء من حقوقهم التي كفلها لهم الدستور، وهنا من واجب الحكومة ان توفر لهم البنى التحتية اللازمة لاستيعاب الاعداد الكبيرة من الزائرين، حتى تضمن انسيابية وصولهم للمراقد المقدسة، بالإضافة الى ضمان عدم تاثيرهم على الحركة العامة في الطرقات، ونحن هنا لا نتحدث عن كربلاء والنجف انما عن محافظات أخرى لا تحدث فيها الزيارات أصلا وتعطل الدوام الرسمي لان طرقها لا تستوعب الزائرين، وبما ان الحكومة مقصرة في أداء واجبها تقوم باعطاء عطلة رسمية من اجل اسكات المواطنين عن المطالبة بإنجاز المشاريع، وهذه العطلة نوع من التخدير واستغلال الغفلة لدى المواطن.
واذا اردنا سرد جميع أنواع القرارات التخديرية الحكومية فلا يكفي مقال واحد لها، لكننا هنا نريد ان نطلب من المطلعين على الشأن العام بضرورة توجيه انتقاداتهم الدائمة للقرارات الحكومية المدمرة لمستقبل الدولة العراقية، وتوعية الشعب بالاضرار الكارثية لما يصدر من تعليمات يومية، اذ ان الإدمان على الحلول الترقيعية التي تعالج الاعراض وتنسى اصل العلة والمرض، تزيد من تفاقم الوضع مثملما تتفاقم حالة متعاطي المخدرات.
اضف تعليق