q
من الصعب، او المستحيل تحديد ملامح المشهد السياسي والأمني في العراق في ظل التطورات الاخيرة، ومن الذي يحرك التظاهرات؟ ومن الذي يقنص المتظاهرين؟ وغيرها من الاسئلة فان المعطيات السياسية من الدول المجاورة والعواصم المعنية، وتحديداً واشنطن وطهران والرياض، تدفعنا لتصوّر سيناريو المستقبل...

الاحداث في الشارع العراقي يغلب عليها الطابع الانفعالي، بيد أنه ليس فوضوياً بالمرة كما يتصوره البعض، ومن يخرجون للتظاهر والاحتجاج من الشباب، ليسوا بدون قيادة، كما يروّج البعض ممن يقف خلف هذه التظاهرات!

نعم؛ هناك مطالب حقّة، ليست وليدة اليوم، إنما هي وليدة الايام الاولى من تشكيل النظام السياسي في العراق عام 2003، وبقي مسكوت عنها لاسباب عدّة، عملت الظروف والتطورات على تكريس الأمر الواقع لدى المواطن العراقي، حتى نسي هذا المواطن بالمرة أن تكون لديه كهرباء في بيته ومحل عمله على مدار 24 ساعة مثل أي انسان آخر في العالم، وكذا الحال سائر الخدمات، وقضايا مثل تشغيل خريجي الجامعات، ومكافحة الفساد الإداري وغيرها، وكان تعامل الساسة؛ من وزراء ونواب برلمان وحتى مسؤولين محليين مع هذه المطالب بين التهدئة والترضية والوعود عاماً بعد عام، وهكذا عاش العراقيون طيلة ستة عشر عاماً.

ولكن الاحتجاجات هذه الايام في بغداد ومدن عراقية أخرى لها لون آخر غير ما كانت عليه في السنوات الماضية، فقد جاءت مع تقاطع مصالح اقليمية ودولية مع مصلحة الانسان العراقي المغلوب على أمره، والذي يتجرّع الأمرين؛ تقاتل السياسيين على المكاسب والمغانم في الداخل، وتقاتل الاطراف ذات الشأن في العراق على مكاسب ومغانم من نوع آخر في هذا البلد.

بما أن من الصعب، او المستحيل تحديد ملامح المشهد السياسي والأمني في العراق في ظل التطورات الاخيرة، ومن الذي يحرك التظاهرات؟ ومن الذي يقنص المتظاهرين؟ وغيرها من الاسئلة فان المعطيات السياسية من الدول المجاورة والعواصم المعنية، وتحديداً واشنطن وطهران والرياض، تدفعنا لتصوّر سيناريو المستقبل، وما يمكن أن تؤول اليه الاحداث فيما اذا مضت مسرعة على خط الأزمة، وليس في الأمر تشاؤماً او استباق الاحداث بمشاهد سلبية مريعة، بقدر ما نعتمد الحقائق والخلفيات لنحصل على صورة شبه نهائية لما ستتمخض عنه الاحداث في العراق.

العراق ضحية التوازن الفاشل

مفهوم "التوازن" في القوى والنفوذ، عرفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وعرفته السياسة الدولية، حتى برز مصطلح "توازن الرعب" بامتلاك كل من الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة للصواريخ النووية بمختلفة المديات، وانسحب ذلك على سائر مناطق العالم، لاسيما الشرق الأوسط، ثم انتقل المفهوم في مرحلة ما بعد حرب الكويت الى المحيط الأقليمي، وظهور محاور مثل؛ المحور الاسرائيلي، والمحور السعودي، والمحور الإيراني، وهو أعلنه صراحة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في الفترة التي اعقبت الربيع العربي حيث كشف عن اصطفاف جديد للمحاور، بل وظهور محورين رئيسيين: المحور الاسرائيلي – السعودي، والمحور الايراني، الاول؛ يفكر يمنهجية البقاء ودفع هواجس السقوط، بينما الثاني يفكر بمنهجية الانتشار المتبع من قبل ايران، من خلال أذرعها في بلاد عربية في مقدمتها؛ العراق، ثم لبنان، وسوريا، واليمن.

حتى عام 2015، كان كل شيء على ما يرام في المنطقة، فايران لها نفوذها السياسي والاقتصادي في العراق، بينما السعودية تواصل تغذية أذرعها في المكون السنّي بالعراق، بهيئة جماعات سياسية، وأخرى مسلحة ودموية؛ كل ذلك كان يؤدي دوراً واحداً لا غير؛ وهو الضغط على الحكومة العراقية شكل خاص، والمكون الشيعي بشكل عام، وكانت ذروة الانتصار السعودي في لعبة التوازن داخل العراق، في انتصارات تنظيم ما يعرف بالدولة الاسلامية في العراق والشام، باحتلاله مدينة الموصل ومدن عدّة، واحتلاله ثلاثة محافظات غرب العراق؛ الموصل وصلاح الدين، والانبار ليتوّج بها الانتصارات الحاصلة في سوريا عندما سيطر التنظيم على اكثر من نصف مساحة سوريا.

وعلى الجانب الايراني حققت طهران انتصاراً من الوزن الثقيل وبعد عام واحد من احتلال داعش للموصل، بحصولها على حق تخصيب اليورانيوم بنسبة ثلاثة بالمئة للاغراض السلمية، وباعتراف دولي وتحديداً من واشنطن مقابل التخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية ضمن الاتفاقية المعروفة في فيينا، وقعت عليه الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا واميركا) الى جانب ألمانيا، وبحضور رئيس البنك الدولي، ورئيسة صندوق النقد الدولي، وبرعاية مفوضية الشؤون الخارجية بالاتحاد الاوربي، في أول إجماع دولي من نوعه على قضية تخصّ دولة في الشرق الاوسط.

وقد بلغ السعوديون من مصادر اميركية أن ايران باتت دولة نووية بلا ريب او شك، وقبل أيام أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أن "ايران دولة عظمى في المنطقة يجب احترامها"، وهذا ما جعل الرياض تتخبط في تحركها الاقليمي والدولي، فبدأت سلسلة الهزائم السياسية، بدءاً من لبنان وقتل رئيس وزرائها المدلل؛ سعد الحريري معنوياً، وانتصار حزب الله بحليفها الماروني؛ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ثم الانتصار الكبير في العراق على تنظيم داعش وتحرير كامل التراب العراقي، وصعود نجم المرجعية الدينية لأول مرة داخل العراق وخارجه، حتى ذاع صيتها في أروقة الحكم الاميركي، والأخطر من كل هذه الهزائم انزلاق السعودية في الحرب ضد الحوثيين في اليمن على أمل استرجاع الحكومة المنحلّة ورئيسها الهارب عبد ربه منصور هادي من يد الحوثيين الذين استولوا على العاصمة صنعاء بكل سهولة خلال ايام، وما يزالون يجرعون السعوديين كؤوس الذل والمهانة بقصف منشآتهم ومواقعهم العسكرية، ولم يجد القصف الجوي والعقوبات الاقتصادية من ثني الحوثيين بوجود الدعم الجماهيري الكبير.

وكلما تقدمت ايران في انتصاراتها السياسية في المنطقة، وفي ملفات عدّة، كلما أحست السعودية بتهديد ماحص لتوازن القوى الموعود من قبل اميركا وبريطانيا معاً، والمثال الأبرز؛ تقدم ايران في الساحة العراقية، وانغماس السعودية في الوحل اليمني، وجاءت مناسبة أربعين الامام الحسين، عليه السلام، وهي مناسبة دينية ذات دلالات ومعان عميقة في النفوس، ولها ابعاد عالمية، لتشكل فرصة أخرى لايران في هذا المسار، ولعل إلغاء تأشيرة الدخول للزائرين الايرانيين الى العراق خلال هذه الزيارة، واعتماد السلطات المختصة الفيزا الالكترونية بدلاً من التقليدية داخل الجواز، لتكتمل الصورة تماماً، وتجعل أي شيعي في الخليج وأماكن اخرى بعيداً عن شبهة الختم العراقي على جوازه في أيام الاربعين.

في مقابل هذا التقدم، ثمة مشاعر هزيمة مريعة في نفوس السعوديين تسّتعر لاسيما بين المواطنين بعد وصول اعداد القتلى من الجنود والضباط السعوديين في اليمن الى ارقام مخيفة لم يعهدها السعوديون، هذه الانتكاسة العسكرية تواكبها ارتداد خطير على المتبنيات العقدية والثقافية لدى المواطن السعودي، وهو ما يحاول الامير السعودي؛ محمد بن سلمان، استيعابه بما يخدم سلطة أبيه والدولة السعودية، بيد ان المراقبين يعدونها غير مجدية، بل لها مردود عكسي، فكيف يكون مجتمع محافظ مثل المجتمع السعودي، ودولة راعية للدين والالتزامات المشددة، منفتحة مرة واحدة على كل شيء في العالم، من الموسيقى وحفلات الغناء وظهور المغنيات الغربيات باشكال مثير وغير مسبوق، وبكلمة؛ فان تعرض منشآت ارامكو النفطية لتلك الضربة الموجعة من قبل دولة مثل اليمن، وتحديداً ممن تسميهم "جماعة الحوثي" لا يخفف ألمه أي اجراء داخلي مهما كان، لأن المواطن السعودي بات يشعر أنه غير آمن في ظل الحرب الخاسرة التي تخوضها الأسرة الحاكمة مع اليمن، وانه ضحية لا أكثر.

طبعاً؛ لا ننسى أن ايران هي الاخرى تعاني من تصداعات داخلية لا يُحسد عليها بسبب العقوبات الاميركية، وايضاً تفشي الفساد الاداري في مؤسسات الدولة، واستشعار المواطن الايراني انه آخر ما تفكر به حكومته، بل والدولة بشكل عام والتي يفترض انها تباهي بديمقراطيتها دول الشرق الاوسط، فارتفاع الاسعار بشكل جنوني وسقوط مريع لقيمة العملة المحلية، حتى بات حديث الشارع الايراني؛ احتكار الاقتصاد والسوق بيد طبقة سياسية محدودة في ايران، ولا فرص للانتاج والتنمية الشاملة، الامر أدى تراجع الثقة والايمان بقيم الثورة الاسلامية، في مقدمتها؛ العدل، والمساواة، والحرية.

وهذا يدفع ايران اليوم قبل أي يوم آخر لتكريس وجودها في العراق ليكون المتنفس الأكبر لها اقتصادياً ومعنوياً، وسياسياً ايضاً، وحسب مراقبين وخبراء، فانه لولا الاطاحة بصدام عام 2003، والوجود الايراني المكثف في العراق، ولأول مرة في التاريخ الحديث، لما استطاعت ايران أن تعرض عضلاتها العسكرية والنووية امام العالم طيلة الستة عشر عاماً الماضية.

احتجاجات مطلبية في العراق أم مطالب ايران والسعودية

كما أسلفنا؛ فان حركة الاحتجاج في العراق تمثل امتداداً للغضب المتوقع من سوء الاوضاع في العراق في الاصعدة كافة، لكن؛ اذا نلاحظ بدء الاحتجاجات بعد انقضاء مراسيم عاشوراء، علينا أن ننتبه الى الهدوء غير الطبيعي في المدن ذات الاغلبية السنية، لاسيما المحافظات؛ الانبار، والموصل، وصلاح الدين، في حين المطالب يفترض انها تمثل ضمير العراقيين كلهم، وهي القضاء على الفساد وتشكيل حكومة نزيهة ومخلصة للشعب.

فكان لابد من صد التقدم الايراني بنفس الأدوات التي تستفيد منها ايران، منها؛ قضية الامام الحسين، عليه السلام، حيث يلاحظ للمرة الاولى سماع هتافات "هيهات منّا الذلة"، كما هي المرة الاولى رفع صور مفترضة للإمام علي، او الامام الحسين، في بعض المدن، وايضاً رايات حسينية بيد المتظاهرين الشباب، ثم جاء الترويج عبر وسائل التواصل الاجتماعي بضرورة حمل صور الامام الحسين في التظاهرات المزمع انطلاقها في 25من الشهر الجاري، وبعد انتهاء مراسيم الاربعين.

هنالك أعمال تعبئة واسعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لاندلاع التظاهرات الاحتجاجية في نسختها الجديدة في الموعد المقرر، وفي جميع مدن العراق، وتحديداً في الوسط والجنوب، وخلال هذه التعبئة في ايام الزيارة الاربعينية تتم الاشارة بوضوح الى المرجعية الدينية، ليس كشخص، وإنما كصفة في المجتمع وإظهارها على أنها غير ذي فائدة اذا لم تقف وتؤيد مطالب الشباب في الشوارع.

إن إفشال التجربة الشيعية في العراق يعد حلماً وطموحاً سعودياً، ومن خلفه دوائر إعلامية وسياسية بريطانية، وهو نفس الانزعاج الذي كانت تشعر به ايران من الحرية التي منحتها أميركا، وبلا حدود للعراقيين بعد الاطاحة بصدام، فكانت تعبئ وتروج للعراق المضطرب في ظل الاحتلال الاميركي، وما تسبب به من ظهور للجماعات الارهابية، وفي الوقت الحاضر فان السعودية تصارع الهزيمة المحتومة في اليمن وتريد انسحاباً يحفظ ما تبقى لها من ماء وجه امام شعبها والعالم، ولذا فان اندلاع حرب أهلية، او تصفيات دموية داخل المجتمع الشيعي تحديداً في العراق، يعطي للسعودية الدليل امام العالم بانها كانت على حق بالتدخل في اليمن، وعليه؛ على ايران الخروج تماماً من العراق لوقف أعمال العنف المتوقعة.

إن ما يعرف ببيضة القبان اليوم هم؛ الشباب المتظاهر في الشوارع، فاذا كانوا أكثر ذكاءً من ايران والسعودية وبريطانيا، ولم ينزلقوا الى ما يُعد لهم من حمام دم غير متوقع ومستمر الى أجل غير معلوم، فانهم سيكونون القوة الحقيقية التي تجبر الحكومة على تصحيح مسارها تدريجياً، وليس مرة واحدة، بالتخلّي نهائياً عن المحاصصة الطائفية، والتخلص من داء الفساد الاداري.

وأول خطوة على هذا الطريق توسيع نطاق التظاهرات الاحتجاجية بين أوساط المجتمع، والخروج من كونها حراكاً للشباب الغاضب من بطالته، ليشترك فيها المعلمون والمحامون والكسبة وحتى الفلاحون للمطالبة بإصلاح شامل لمجمل مؤسسات الدولة، فالازمات في العراق تشد بخناقها جميع افراد الشعب العراقي وليس فقط شريحة الشباب، وهذا من شأنه خلق الارادة الشعبية العامة للإصلاح والتغيير، ويحول دون تمزق المجتمع بين مؤيد للتظاهر والاحتجاج، وبين معارض وما يصفونه بالفوضى والانفلات الأمني.

اضف تعليق