لابد أن تؤمِن الحكومة وجميع العاملين بالسياسة في العراق، بقضية واضحة ومفهومة، مفادها طالما هناك حقوق مهدورة للشعب، فإن التظاهرات لا تنتهي، كونها حق مكفول للجماهير، كما أنها الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها استرداد تلك الحقوق، فزمن التفرّد ولّى، والاستبداد ليس له مكان في هذا العصر...
التظاهرة التي خرجت في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الجاري في العراق، هي امتداد لمسلسل التظاهرات عبر سنوات متعاقبة، شملت بغداد وعددا من المحافظات، لكن مظاهرات الأول من تشرين، كما يراها المراقبون المحليّون والدوليون غير مسبوقة، وما دلَّ على ذلك بلوغ العنف فيها أقصى درجاته، ليصل عدد الشهداء والجرحى إلى أعلى مستوى له عمّا جرى فيما سبق، وهو مؤشر دامغ على فشل الحكومات المتعاقبة في معالجة المطالبات والحقوق المشروعة التي خرج من أجلها المتظاهرون.
بعد النتائج المروّعة التي انتهت إليها دوّامة العنف المتبادَل بين القوات الأمنية والمتظاهرين، سارعت السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى اتخاذ إجراء وخطوات سريعة لاحتواء الموقف الخطير، فظهر رئيس البرلمان على الشاشة وحوله ومعه عدد من النواب ورؤساء منظمات ونقابات مهنية، وأعلن خطوات كثيرة (من باب تطييب الخاطر) ومعظم تلك الخطوات من اختصاص السلطة التنفيذية، ولكنها أسهمت بالفعل بتهدئة الشباب.
وأعقبه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في كلمة متلفزة أعلن فيها حزمة من المعالجات التي قيل عنها بأنها (فوق طاقة الحكومة)، وتتجاوز إمكانيات الميزانية المالية كي تستجيب لها، والآن حين نعود إلى تلكما الكلمتين سنجد أنهما بحسب المختصين والمراقبين تتجاوز قدرة الدولة العراقية وحكومتها على الإيفاء بها كونها حصيلة تراكم فشل متعاقب وإهمال متواصل لحقوق الشباب خصوصا والعراقيين عموما.
اجتثاث الفساد من جذوره
المعروف أن المشكلة إذا لم يتم معالجتها جذريا، والورم الخبيث إذا لم يتم اجتثاثه من جذوره، فإنه سوف يظهر من جديد أشد خطورة، وإذا تم تحليل حزمات وإجراءات (التهدئة) التي أطلقتها السلطتان في أعلاه، فإنها بالتأكيد لم تعالج المشكلات والأمراض التي يعاني منها العراق (سياسيا وإداريا واقتصاديا وخدميا)، من الجذور ولم يتم استئصالها كما يجب، وهذا أمر متوقَّع لأن عمر الأخطاء والفشل المتراكم جاوز عقداً من السنوات، فهل يُعقَل إمكانية حلّه في أيام أو في خطابات بدا واضحا أن همّها تهدئة الشارع وإطفاء نيران الغضب الجماهيري؟
لذلك دعا نشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي حاولت الجهات المختصة حجبها، إلى مظاهرة أخرى قادمة، قد تكون أشد وأكبر من سابقاتها، وهو أمر يجب أن تتوقعه الحكومة وسواها من المعنيين ونعني بهم الطبقة السياسية بكلّيتها، (كتل سياسية وأحزاب وشخصيات مستقلة)، بجميع العاملين في السياسة وفي مقدمتهم السلطتين التنفيذية والتشريعية، وسبب تجدّد التظاهرات أمر من الغباء أن لا تتوقعه الجهات السياسية والتشريعية المعنية.
طالما أن المعالجات السابقة مستعجَلة وقد تكون غير مدروسة، فإنها لا يمكن أن تحد من غضب الشارع، ولعل نقطة الضعف الواضحة في الإجراءات الحكومية والتشريعية سابقة الذكر، تكمن في كونها أكبر بكثير من قدرة الحكومة والبرلمان على إنجازها، ولذلك من المتوقَّع أن تخرج احتجاجات جماهيرية بعد امتصاص الصدمة.
ومن المفارقات الصادمة، أن ينشر أحد النشطاء (وهو أكاديمي وأديب) منشورا في أحد مواقع التواصل يقول فيه (إن الحكومة خصصت لعائلة كل شهيد في المظاهرات الأخيرة عشرة ملايين دينار، وقد عرض أحد الوسطاء على إحدى عوائل الشهداء أن يحصل لهم على المبلغ المذكور بسرعة! مقابل خمسة ملايين دينار، أي أن الوسيط يتقاسم المبلغ المخصص مع عائلة الشهيد مقابل عبوره الحواجز البيروقراطية!!)، وسواء صحَّ هذا المنشور أو كذب، فإنه يشير إلى دوّامة الفساد والبيروقراطية التي تعصف بالناس حكومة وشعبا!.
هل كان يجب على الحكومة والبرلمان أن يسرعا في تقديم حزمة الإجراءات بالطريقة التي تمّت بها، وهل كانت هذه الطريقة المثلى لمعالجة أسباب التظاهرات؟، من وجهة نظر شخصية نقول ربما أسهمت إلى حد ما في وقف الغضب الجماهير، وليس امتصاصه كلّيا، بمعنى أن المعالجات والإجراءات لم تقضِ على المشكلة ولم تحلّها والأسباب واضحة ومعروفة.
من الخطأ الجسيم أن تتخذ الحكومة خطوات احترازية من دون معالجة أسباب أصل المشكلة المستعصية، والدليل أن ما تمّ اتخاذه للتهدئة ليس كافيا، ولا يمكنه منع تجدد الغضب الجماهيري، ولعل الحسنة الوحيدة لحزمة الإجراءات التنفيذية والتشريعية أنها ساعدت على التهدئة، لكنها من جانب آخر قد تكون سببا في اشتعال متجدد أكثر خطراً من سابقه، لماذا؟ الجواب سهل جدا، إن تلك الإجراءات لم تتصدَّ لجذور المشكلة ولم تسعَ لجذِّها من جذورها.
ما هو المطلوب إذن؟
لابد أن تفهم الحكومة ومعها الطبقة السياسية بكلّيتها، أنّ أي احتراز حكومي يقوم على استخدام القوة والعنف المفرط ضد المتظاهرين، سوف يزيد من المشكلة ويساعد على استعصائها أكثر فأكثر، نعم لابد من اتخاذ الاحتياط الأمنية اللازمة في حالة قيام مظاهرات أخرى، وهذه الاحتياطات يجب أن تصبّ في حماية المتظاهرين وليس قمعهم، وقد يقول قائل ما نوع الاحتراز الحكومي الصحيح في التعامل مع مشكلة التظاهرات المتجدد؟، الجواب يكمن في المقترحات التالية:
- ترك أسلوب ذر الرماد في العيون والابتعاد عن التهدئة بوعود غير قابلة للانجاز.
- تفكيك منظومة الفساد بحلول رادعة جديّة وحازمة.
- إعادة الروح إلى القطاع الصناعي وخصوصا القطاع الخاص، على أن تكون الإجراءات علمية متخصصة وجادة وسريعة قدر الإمكان.
- دعم المزارعين وتقديم حوافز تعيد من شأنها صنع هجرة عكسية من المدن إلى الريف.
- إقامة دورات شبابية لتنمية المهارات وفق خطط مدروسة سهلة التطبيق.
- مضاعفة فرص العمل بما يكفي لكل قادر عليه، والتخفيف من سياسة التوظيف في الدولة، يتم ذلك بالاعتماد على القطاع الخاص ودعم المشاريع الفردية الصغيرة.
- إطلاق مشروع تثقيفي كبير منظّم ومخطط له جيدا لتحويل المواطن من النزعة الاستهلاكية إلى الإنتاج.
- رسم سياسة اقتصادية واضحة لتغيير النمط الريعي إلى سياسة تنوع الموارد.
- إيصال رسالة واضحة من الطبقة السياسية إلى نفسها، مفادها أننا جميعا في مركب واحد، والغرق لا يقتصر على الشعب وحده.
- تطوير ثقافة تعامل رجل الأمن ومكافحة الشغب والحمايات بأنواعها، كي يتمكن من التعامل المقبول مع المتظاهرين.
الخلاصة، لابد أن تؤمِن الحكومة وجميع العاملين بالسياسة في العراق، بقضية واضحة ومفهومة، مفادها طالما هناك حقوق مهدورة للشعب، فإن التظاهرات لا تنتهي، كونها حق مكفول للجماهير، كما أنها الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها استرداد تلك الحقوق، فزمن التفرّد ولّى، والاستبداد ليس له مكان في هذا العصر، والاحتراز الحكومي بكل خطواته يجب أن لا يخرج عن إطار المشروعية ولا يتجاوز بنود الدستور.
اضف تعليق