المشكلة في العراق عميقة جدا، علتها الخلل الحاد في المركب الحضاري للمجتمع العراقي، والقيم المصاحبة لعناصر هذا المركب، والعنصر الاول في المركب الحضاري هو الانسان، فاذا صلح الانسان صلح ما بعده، واذا فسد الانسان فسد ما بعده، والانسان هو المسؤول الكبير والموظف الصغير والمواطن العادي...
أين "هنا" التي اقترح ان "نبدأ" منها؟ اين تقع نقطة البداية؟ واي هدف تنتهي اليه؟، نقف الان في نقطة سوف اطلق عليها اسم "احوال العراق الان"، و"الان" لحظة تاريخية هي حصيلة عقود مرت من الزمان، لنقل، تسهيلا لتصورها، انها بدأت عام ١٩٦٨، السنة التي استولى فيها حزب البعث على السلطة. وحزب البعث حزب شوفيني عنصري متخلف لا يمت الى العصر والحضارة بصلة، على يديه ضاعت الفرصة التاريخية الثانية لبناء عراق حضاري حديث. كانت الفرصة الاولى التي اطلق عليها الباحث اللبناني غسان سلامة "اللحظة الليبرالية" في العهد الملكي، والثانية التي سوف اسميها "اللحظة الاسلامية المستنيرة" التي مثلها محمد باقر الصدر، ووأدها صدام حسين. والفرصة الثالثة، لنسميها الفرصة الديمقراطية التي اضاعتها عيوب التاسيس التي ارتكبتها الاحزاب التي تولت السلطة بعد سقوط النظام الدكتاتوري وما زالت دون ان يكون في افقها قدرتها على بناء عراق حضاري حديث.
"الان" تمثل حالة متردية يمر بها العراق رغم الايجابيات الكثيرة التي يمثلها سقوط النظام الدكتاتوري، واضحت عناوين هذه الحالة معروفة: الفساد والمحاصصة وتردي الخدمات وانعدام الفعالية الخ.
وتشير استطلاعات راي تجريها مراكز مختلفة الى ان اكثرية الناس غير راضين على "الحالة الان"، وهم يتطلعون الى التغيير، رغم انهم، من ناحية اخرى، غير فعالين في اي مشروع تغييري جاد.
المشكلة الاساسية التي تواجه دعوات الاصلاح والتغيير التي رفع شعارها بعض الناس لم تلامس جوهر المشكلة او السبب الاساسي الحقيقي لما يواجهه العراق في "الحالة الان". لا الاحزاب ولا الشخصيات ولا الخطب الاصلاحية اشارت او شخصت بوضوح العلة، انما سلطت الاضواء على اعراضها وافرازاتها ونتنائجها دون ان تنفذ الى جوهرها، ولذا بقيت اقتراحات المصلحين فوقية واجرائية وهامشية، ولذا لم يتحقق شيء، ولا يمكن ان يتحقق شيء اذا بقي القوم يتعاطون مع المشكلة برؤية قاصرة قصيرة الامد.
المشكلة في العراق عميقة جدا، علتها الخلل الحاد في المركب الحضاري للمجتمع العراقي، والقيم المصاحبة لعناصر هذا المركب. والعنصر الاول في المركب الحضاري هو الانسان، فاذا صلح الانسان صلح ما بعده، واذا فسد الانسان فسد ما بعده. والانسان هو المسؤول الكبير والموظف الصغير والمواطن العادي. ربما سيقول كثيرون:"احسنت" وهم يقرأون الجملة الاخيرة، لكن في التطبيق لا نجد جهدا ملموسا لاصلاح الخلل الحاد في المركب الحضاري انطلاقا من الانسان. لم اسمع تصريحا واحدا ولا شاهدت عملا واحدا بهذا الاتجاه. ولهذا فشلت وسوف تفشل كل الجهود التي تجري تحت راية الاصلاح لانها ببساطة لا تعالج العلة الاساسية وراء كل مشاكل وازمات العراق. لن تنفع التظاهرات، ولا المؤتمرات، ولا الاجراءات الفوقية في تغيير الحال الى ما هو افضل منه اذا لم تعالج العلة الاساسية وهي الخلل في المركب الحضاري والقيم الحافّة بعناصره. لا اقصد من هذا بث روح اليأس في النفوس؛ فانا على ايمان كامل بامكانية التغيير والاصلاح، لكني اصر على ضرورة ان تتكثف الجهود صوب العلة الاساسية، ولا تضيع وتتشتت في ممارسات ونشاطات واعمال بعيدة عن العلة الاساسية.
لهذا فان جوابي عن السؤال: من اين نبدا؟ هو: من الخلل الحاد في المركب الحضاري. لابد ان نصلحه اولا. وجوابي عن السؤال الثاني: اين نصلح الخلل الحاد في المركب الحضاري؟ هو: في كل مكان يتم فيه صناعة شخصية الانسان وتنشئته، وفي مقدمة هذه الاماكن: المدرسة. للان لا توجد خطوات للاصلاح انطلاقا من المدرسة. اي جهد لا يتوجه صوب المدرسة يمكن ان يحقق اي شيء غير الاصلاح. من هنا نبدأ.
اضف تعليق