الكلمات الاولى للكتاب تؤكد بوضوح ان ناجل يركز اساسا على مشكلة واحدة وهي كيف نجمع بين رؤية فرد معين داخل العالم مع رؤية موضوعية حول نفس ذلك العالم، الفرد ووجهة نظره جرى تضمينهما\". بعد ذلك هو يذهب لمعالجة المشاكل المعينة التي يرى كل واحدة منها...
في كتابه (رؤية من لامكان، 1986) يناقش الفيلسوف الامريكي توماس ناجل مختلف المشاكل الناجمة من التعارض بين العالم الموضوعي الذي نعيش فيه والذي نحن جزء منه، والطريقة المتأصلة ذاتيا التي ننظر بها لذلك العالم.
يرى ناجل ان فهم العلاقات بين هاتين الرؤيتين الخارجية والداخلية هو اساسي لحل تلك المشاكل: "انها القضية الاساسية حول الاخلاق، المعرفة، الحرية، الذات، وعلاقة الذهن بالعالم المادي"(ص3). سنستعرض هنا المشاكل التي يشير اليها ناجل، ونسلط الضوء على الاهمية المركزية لهذه القضية ضمن الفلسفة.
الكلمات الاولى للكتاب تؤكد بوضوح ان ناجل يركز اساسا على مشكلة واحدة: وهي "كيف نجمع بين رؤية فرد معين داخل العالم مع رؤية موضوعية حول نفس ذلك العالم، الفرد ووجهة نظره جرى تضمينهما". بعد ذلك هو يذهب لمعالجة المشاكل المعينة التي يرى كل واحدة منها ليست الاّ مظهرا لتلك المشكلة الكلية الواحدة.
مشكلة رقم 1: كيف نفسر وجود التجربة الذاتية ضمن الكون المادي الموضوعي؟
هذه المشكلة هي صيغة حديثة لمشكلة الذهن/الجسم، اي، ما هي العلاقة بين الذهن والجسم؟ هل هما وجودان منفصلان، ام انهما مظهران مختلفان لشيء واحد؟ السؤال طُرح في مقال لناجل عام 1974 بعنوان "ماذا يعني ان تكون خفاشا؟ " وجرى إحياء هذه المشكلة اخيرا في عمل شالمرس المشكلة الصعبة للوعي (Chalmers، 1995).
يرى ناجل بانه على الرغم من اننا قد نفهم الطريقة التي يستخدم بها الخفاش الصدى لفهم عالمه، ليطير ويمسك الحشرات، لكننا لا نعرف ابدا ماذا يشعر الخفاش وهو يستعمل الصدى، ذلك بالضبط لأننا لسنا خفافيش. فهمنا لصدى الخفاش يمكن ان يكون فقط تفسير فسيولوجي ووظيفي، نحن لدينا فقط رؤية عن صدى الخفاش من الخارج. تصورنا للكيفية التي يشعر بها الخفاش بالصدى من الداخل وفهمه للعالم، هي نفس الطريقة التي نرى بها العالم مستعملين عيوننا. وبما ان صدى الخفاش كطريقة غريبة لفهم العالم قياسا برؤيتنا الانسانية، عندئذ يمكن الاستنتاج ان تجربة الصدى الداخلية للخفاش هي غريبة كليا عن تجربتنا البصرية، واننا سوف لا نعرف ابدا ماذا يعني ان تكون خفاشا.
الهدف من جدال ناجل هو لكي يبين ان هناك حقائق حول العالم ليست متاحة للفهم العلمي والموضوعي، حقائق يمكن معرفتها فقط من وجهة نظر محددة. الخفاش هو مثال على هذا.
العلم ربما يكشف عدة حقائق حول الطريقة التي يطير بها الخفاش وكيف يتصرف وكيف يفهم العالم، من خلال الملاحظة والتجربة. غير ان هناك شيء واحد حول الخفاش لا يمكن كشفه وهو كيف يشعر بارتداد الصوت. هذه التجربة هي عالم خاص للخفاش. ناجل يمدد الجدال ليقول ان شعور التجربة الذهنية للانسان لا يمكن اختزاله الى مفاهيم موضوعية مادية.
كتب ناجل مقاله كتحدّي للسلوكيين الذين كانوا وقت نشر المقال في موقف فكري قوي. هذه الجماعة تدّعي اما ان الظاهرة الذهنية يمكن اختزالها كليا الى عالم مادي، كما عُرف بواسطة العلم، او انها لاتوجد ابدا. ناجل سعى لإعادة التأكيد على وجود الاثنين، وليبيّن انه لا يمكن اختزال الظاهرة الى اشياء مادية موضوعية.
رغم ان جدال ناجل هو مقنع ضد الاختزالية المادية، لكنه بطريقة ما هو ببساطة يعيد عرض المشكلة القديمة للذهن/الجسم. هو يجادل بان الذهن والمادة لهما خاصيتان متميزتان، الاول يمكن ممارسته فقط ذاتيا – من وجهة نظر الفرد، والاخر يُعرف موضوعيا، ولهذا فانهما لا يمكن ان يكونا نفس الشيء. وكما يقترح ناجل، هما ربما مظهران ثنائيان لنفس الجوهر. السبب الذي يجعل رؤية ناجال في هذا الادراك متميزة جدا عن الجدال الديكارتي التقليدي هو ان جداله يبدأ من وجهة نظر الشخص الثالث (3PA) (1). جدال ديكارت يبدأ من تقييم الوعي من خلال تحقيقات الشخص الاول (1PA) لخواص متميزة وغير اختزالية للوعي. منظور الشخص الثالث لناجل ينطوي على قوة وضعف.
مظهر الضعف يأتي بسبب ان المعارض له قد يجادل بان ما يقترحه ناجل في امتلاك الوعي ربما هو غير موجود. في مقال ناجل، يفترض ان الخفاش واع. لكن الحجة المضادة بسهولة ترى ان الخفاش طائر ليس له شعور داخلي ابدا. كذلك لا دليل على اي وعي للخفاش، هناك فقط المعرفة العلمية بسلوك الخفاش ووظيفته. ولكن الى اي مدى يمكن الاعتماد على هذه الحجة المضادة؟ اذا كان الخفاش غير واع فهل الكلب واع؟ اذا كان الكلب غير واع فهل انسان اخر واع؟ بالتأكيد المعارض لا يستطيع الجدال بان الناس الآخرين ليس لديهم حياة ذهنية؟ ماذا يمكن ان تكون شخصية عبقرية متميزة كبيكاسو مثلا؟ الناقد يمكن ان يستمر بموقفه السوفسطائي، بان جدال ناجل هو غير صائب لأنه يبدأ بافتراض ان هناك اذهان واعية اخرى. لهذا الحد، يكون لاتجاه الشخص الاول أفضليته تجاه عرض ناجل للمشكلة، وعي الشخص الاول هو ببساطة هناك، واضح لذاته.
غير ان قوة جدال ناجل في الشخص الثالث هي في كونها تجعلنا نفكر في منظور غريب والذي لا يمكن تخيله تماما لنا ومختلف كليا عن الطريقة التي نفهم بها العالم كبشر، القارئ يأتي لإدراك ان هناك فرق نوعي بين الطريقة المادية الموضوعية للعالم، والطريقة الذاتية التي يُدرك بها بوعي. ان تجربة الخفاش لعالمه تختلف عن العالم المادي ذاته. من الصعب انجاز هذه المسألة وفق الصيغة الديكارتية للجدال لأنه عندما يفكر شخص ما بوعيه الذاتي سيكون من الصعب فصل تصوره للعالم عما يكون عليه العالم ذاته: عندما أرى الكرسي، من الصعب فصل تصوري الواعي للكرسي عن الذرات والطاقة التي هي بالفعل تشكّل وجود الكرسي بالعالم المادي، والذي هو مستقل تماما عن رؤيتي له.
لكن جدال ناجل هو بالنهاية ايجابي، بصرف النظر عن مظاهر الضعف أعلاه، لأنه بالفعل يمكّننا من الاعتقاد بالفرق الحقيقي بين المعرفة الذاتية والموضوعية.
مشكلة 2: كيف نتأكد ان الطريقة التي نفهم بها العالم هي نفس الطريقة التي يكون فيها العالم حقا؟
من المؤكد، نحن ننظر للعالم وفق رؤيتنا الذاتية. عندما أنظر نحو أسفل طريق مستقيم، انا أرى الطريق وكل البيوت الممتدة على طول الطريق متناقصة في الحجم كلما ابتعدت عني. بالطبع، المنازل الممتدة على الطريق هي في الحقيقة ليست أصغر. تلك ببساطة الكيفية التي تبدو لي من نهاية الطريق بسبب المنظور البصري الذي خلقته زاوية نظري. لو أسير الى النهاية الاخرى للطريق، وانظر نحو الخلف الى البيوت من ذلك الموقع، فجأة أجد البيوت التي كانت أبعد وأصغر اصبحت أقرب وأكبر. انا أعرف ان البيوت هي حقا كلها بنفس الحجم وان الالتباس نتج لأني دائما انظر اليها من زاوية نظر. انا لا استطيع الهروب من المنظور، ولا يمكنني ابداً النظر مباشرة الى الطريق والبيوت بطريقة يختفي فيها الالتباس.
المحصلة من هذا هو اننا نستطيع فقط معرفة العالم الخارجي من خلال توسّط رؤيتنا الذاتية. ومن هنا يُثار سؤال: كيف يمكن لنا ان نتأكد بان هذا الوسيط هو مؤشر جيد للعالم الخارجي؟ ماذا لو ان تصوري الذاتي هو أوهام او أحلام؟ هذه الاسئلة اثارها ديكارت (1641) وهي امثلة عن مشاكل المعرفة الشكية.
رغم ان ناجل يعترف ويعالج هذه المشكلة، لكن تعليقاته لا ترقى الى الجواب. هو يكتب، "ان البحث عن المعرفة الموضوعية، وبسبب تبنّيها لصورة واقعية، فلا مفر من ان يكون البحث عرضة للشك الذي لايمكن دحضه ولكن يجب ان يتقدم البحث تحت ظلاله"(ص71). لذا فان الشك هو محصلة ضرورية للواقعية. وحتى لو قبلنا الواقعية كحقيقة (بمعنى، ان هناك اشياء وعمليات في العالم توجد مستقلة عني وعنك)، لكن تعليقات ناجل لا تجيب على الاتّهام الذي اثارته الشكية، بان العالم ربما يختلف عن الطريقة التي اعتدنا للاعتقاد بها من خلال تصوراتنا.
مشكلة 3: الرغبة الحرة والقدرية
العالم يُفهم موضوعيا كنظام من الأحداث التي تحدث طبقا للقوانين الطبيعية. في ضوء هذه الطريقة من الفهم، يبرز سؤال هل هناك مكان للفرد المستقل في ذلك النموذج الموضوعي ليتصرف برغبة حرة؟ اشياء مثل الفرد المستقل والرغبة الحرة تبدو مفاهيم غريبة في العالم المادي. تلك المفاهيم هي عناصر ذاتية لنا لا ترتبط بفهمنا الموضوعي.
مشكلة 4: الاخلاق
المشكلة الاخلاقية هي في كيف نربط حاجات النظام الاخلاقي الموضوعي للمجتمع مع حاجات الافراد وافعالهم. هل يمكن لحاجات الاكثرية في المجتمع ان تهيمن على حاجات فرد معين (النفعية)؟ او هل ان الفرد دائما يُسمح له ليقوم بما يريد بصرف النظر عن النظام الاجتماعي (الفوضوية)؟ هنا تبرز الصعوبة في التوازن الذاتي/الموضوعي.
مشكلة 5: الاستدلال التجريبي
هذه المشكلة تُعد هامة بسبب تأثيرها على العلوم التجريبية. الاستقراء هو جوهر الطريقة العلمية. انه يسمح للعلماء بالتعميم من خلال الاستنتاج من حالات معينة او أحداث معينة. مشكلة الاستنتاج هي كيف نستطيع تبرير الاستدلال. هل فقط بسب ان جميع الغربان التي لوحظت حتى الان هي سوداء اللون، استطيع الاستنتاج بثقة ان كل الغربان سوداء؟ هذا السؤال هام لأنه يستلزم العلاقة بين الملاحظة الذاتية لأحداث معينة وتكوين وتبرير تعميمات موضوعية.
من بين جميع المشاكل أعلاه، نجد المشكلتين الاولى والثانية يعبّران عن المشكلة الاساسية للعلاقة بين العالم الموضوعي والذاتي. المشكلة الاولى تسأل كيف نفهم التجارب الذاتية في ضوء وجود العالم المادي الموضوعي،، مشكلة 2 تسأل كيف يستطيع كل واحد منا بناء رؤية عالمية موضوعية موثوقة من وجهة نظرنا الذاتية المعينة. وكما يؤكد ناجل في المقدمة ان جميع المشاكل الموضحة أعلاه هي مظاهر لنفس المشكلة الكلية الأكبر، لكن هاتين المشكلتين تحديدا يمثلان الصعوبة الحقيقية في ربط وجهتي النظر.
اضف تعليق