الوطن والوطنية من الحقائق التاريخية، وينبغي أن نتعامل مع هذه الحقيقة بعيداً عن التعصب والإستعلاء والنزعة الشوفينية المطلقة. فالوطنية تكون كما يريدها أهلها أن تكون. فإذا كان أهلها متعصبون، فإن الوطنية ستكون كذلك. أما إذا كان أهلها متسامحون وإنسانيون، فإن الوطنية ستصبح متسامحة وإنسانية. فالوطنية...
يبدو الحديث عن المسألة الوطنية في الفكر العربي المعاصر، في زمن التكتلات الضخمة ومشاريع الأمم الكبرى، والحضارات الكونية والعولمة الاقتصادية أشبه بالسباحة عكس التيار.
ولكن ثمة حقيقة تشفع لنا البحث في هذه المسألة في هذا الزمن. إذ أن وعي الذات، والأرضية التي يقف عليها المرء، يُعد من الضروريات القصوى لبناء مشاريع الأمة الكبرى. إذ أن مفهوم الوطن والوطنية في فكرنا العربي والإسلامي المعاصر، غير ممكن التحقيق إلا في نطاق مشروع الأمة الحضاري، الذي تتوافر وتتراكم شروطه الموضوعية والذاتية على مستوى الواقع.
وتدل كلمة (الوطن) في اللغة العربية حسب (المعجم الوسيط) بالمكان (بطن) وطنا أقام به. (أَطَنَ) المكان وطنَ به. والبلد إتخذه وطنا ونفسَه على كذا: مهَّدها له ورضَّاها به[1].
والوطن، المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله[2]. ولا نجانب الصواب إذا قلنا، أن تخطي حاجز الوطنية، أو عدم تحولها إلى سقف ضيق ونهائي لا يتم إلا بإستيعابها، والتعاطي معها بإعتبارها معطى تاريخي وكينونة اجتماعية في التاريخ، من الأهمية التعاطي الإيجابي معها.
والتعاطي الإيجابي هنا يعني، أن الوطن والوطنية من الحقائق التاريخية، وينبغي أن نتعامل مع هذه الحقيقة بعيداً عن التعصب والإستعلاء والنزعة الشوفينية المطلقة. فالوطنية تكون كما يريدها أهلها أن تكون. فإذا كان أهلها متعصبون، فإن الوطنية ستكون كذلك. أما إذا كان أهلها متسامحون وإنسانيون، فإن الوطنية ستصبح متسامحة وإنسانية. فالوطنية والتي تحيل على مفهوم الوطن بكل مضامينه الرمزية والشعورية والأيدلوجية الثابتة في العقل الجمعي، وهو القاسم المشترك بين جميع أفراد الوطن.. أما الوطنية فهي مسألة اجتماعية-سياسية-ثقافية، تدل على جملة الروابط والعلاقات التي تربط أبناء الوطن الواحد.
والوطنية هنا ليست في قبال القومية أو الدين، وإنما هي دائرة من دوائر الإنتماء الطبيعية في حياة الإنسان الفرد والمجتمع.
ولا شك أن حسن العلاقة مع هذه الدائرة، سينعكس إيجابياً على بقية الدوائر. كما أن سوء العلاقة مع هذه الدائرة أو عدم تمكننا من صياغة نمط محدد للعلاقة مع هذه الدائرة، سينعكس سلباً على بقية دوائر الانتماء الطبيعي في حياة الإنسان. فهي دوائر متكاملة، متضامنة مع بعضها، بحيث أن الانتماء إلى الدين يدفع ويؤسس ويغذي الانتماء إلى الوطن، كما أن الانتماء إلى الوطن لا تتحقق فاعليتة، إلا إذا إحترمت قومية الإنسان وهكذا دواليك.
ولهذا فإن السديم البشري يتحول إلى مجتمع، أمة، حينما تتحقق مواطنية أبناءها في كل الأبعاد والجوانب.
فالوطنية حاجة طبيعية في داخل كل إنسان ووفاق أو توافق بين مجموعة من البشر على متطلبات قواعد العيش المشترك. فالمسألة الوطنية تتأسس بكل مفرداتها وآفاقها على حرية الاختيار ومستلزماته لبناء الكيان الوطني الواحد. وبدون ذلك ليست ثمة وطنية وإن تاجر البعض بإسمها، وإنما كانتونات اجتماعية مغلقة متحاجزة، يضمر كل كانتون لنظيره السوء. وتشظيات ثقافية-فكرية تسوغ هذا التحاجز والتنافر. "وماذا تعني الأرض إن لم تكن وطنا يتعلق به المواطنون ويحبونه ويدافعون عنه ويعمرونه ويتغنون بجماله ويضعون عليه خصائصهم وينطبعون بطبائعه؟ ففي غياب مقولة الوطن المقترنة بمقولة الشعب منطقياً وتاريخياً، قد تكون الجغرافية الطبيعية عامل إعاقة في السيرورة الوحدوية، ولا سيما الهوى الصحراوية الواسعة الفاصلة-الواصلة بين المدن والواحات والأرياف والتجمعات السكانية" [3].
وإن أجلى خللا أصيب به الواقع العربي والإسلامي على المستوى النظري، هو طغيان نظرية العدمية القومية، التي تتجاوز كل الخصوصيات لوطن ما أو شعب ما، من أجل شيء آخر لا تتوفر شروط قيامه.
وبهذا أصبح الواقع العربي والإسلامي، يعيش في حيرة من أمره، بين واقع وطني ملموس ويضغط على الإنسان في مصالحة وأفكاره وعلاقاته وأحلامه، وبين تطلع بعيد ينحو نحو ضرورة الوحدة العربية أو الإسلامية.. إننا لا ندعو إلى التخلي عن قيمة الوحدة، أو نلغي حلمنا بها، وإنما نحن بحاجة إلى إعادة نظر في الطريق الموصل اليها. وبإمكاننا أن نتحدث عن المسألة الوطنية في الفكر العربي المعاصر، من خلال المحاور التالية..
أولاً: الثقافة العربية بين الخصوصية والعالمية:
بادئ ذي بدء ينبغي القول أن كل الثقافات الوطنية والقومية، تسعى جاهدة وتطمح أن تكون ثقافة عالمية-إنسانية. لأنها تتضمن بشكل أو بآخر مشروعاً ونزعة ترى في ذاتها وقيمها، أنها الجديرة بالتمكن والريادة على مستوى الكرة الأرضية. لهذا تتصارع الثقافات، وتتنافس من أجل أن تتبوأ موقعاً أفضل في الخريطة الثقافية العالمية.
وإجمالاً في هذه المسألة نقول: إن الثقافة المحلية (الوطنية) الحيّة، التي تنظر إلى الكائن البشري كإنسان، وتخاطبه كنموذج للإنسانية جمعاء، وتجتهد في علاج مشكلاته، وبلورة تطلعاته. إن هذه الثقافة تستطيع أن تتجاوز حاجز المحلية والإقليمية والقومية لتدخل عالم العالمية. لهذا بإمكاننا أن نقرر أن شرط العالمية هو في التحديد الواقعي والسليم لـ (كيف تنظر الثقافة (أي ثقافة) إلى المجتمعات البشرية الأخرى وثقافتها).
إن الثقافة المنفتحة والمتسامحة، هي التي تكون مصدر تكوين كل إجتماع بشري. والثقافة الاستعلائية والعنصرية، والتي تؤمن بمحليتها حد الإنغلاق والإنطواء هي التي تبقى أسيرة هذه الحواجز والأطر. فالثقافة التي لا تضمر إلى الإنسان كنوع أي شر وأي حقد، هي التي تنطلق من مفهوم الخصوصية إلى العالمية.
فمضمون الثقافة الجوهري، هو الذي يحدد أن الثقافة مؤهلة أن تصبح ثقافة حضارة وثقافة عالمية أم لا. وتنجح الثقافة إذا كان مضمونها إنسانياً من توسيع رقعتها الجغرافية، وتأسس لنفسها (هذه الثقافة) الإمكانات الذاتية، لإستيعاب وهضم الخبرات والتراث الإنساني العلمي والتقني.
فالانفتاح على المغاير الثقافي والحضاري، مسألة أساسية للإنطلاق بالثقافة الذاتية إلى رحاب العالمية. ونستطيع القول في هذا الصدد: أنه كلما كانت مفاهيم الثقافة مفاهيم وقيماً إنسانية، اقتربت من رتبة العالمية والإنسانية، وإن إنسانية الثقافة وإنفتاحها وتسامحها، هو الذي يتيح للأطراف الثقافية الأخرى، إستيعاب العلم وإخصابه من جديد في البيئة الجديدة. ولهذا نجد أن الثقافة الأوربية، حينما كانت تعتمد على النصية الحرفية، وهيمنة الكنيسة على كل شيء، لم تكن ثقافة ذات طابع عالمي-إنساني. وبدأت الثقافة الغربية تأخذ طابعها العالمي والكوني، حينما أنهت من بنائها النظري، حالة الإنطواء ومحاربة الآراء المختلفة.
وتجسدت هذه المعضلة في التاريخ الأوربي في صراع الدين والعلم. إذ يقول (أميل بوترو) : "إن أمر العلاقات بين الدين والعلم، حين يراقب في ثنايا التاريخ، يثير أشد العجب، فإنه على الرغم من جهود أعاظم المفكرين التي بذلوها ملحين في حل هذه المشكل حلاً عقلياً، لم يبرح العلم والدين قائمين على قدم الكفاح، ولم ينقطع بينهما صراع يريد كل منهما أن يدمر صاحبه لا أن يغلب فحسب.. على أن هذين النظامين، لا يزالان قائمين ولم يكن مجدياً أن تحاول العقائد الدينية تسخير العلم، فقد تحرر العلم من هذا الرق، وكأنما إنعكست الأية من ذاك، وأخذ العلم ينذر بفناء الأديان، ولكن الأديان ظلت راسخة وشهد بما فيها من قوة الحياة وعنف الصراع..
إن هذا النص يعكس ويجسد أزمة الصراع، التي كانت سائدة في الفكر الأوروبي بين النسقين الفكريين: العلمي والديني. والتي إنتهت بإقصاء النسق الديني عن مجال الحياة والمجتمع. وتبقى عقلية التمركز الذاتي الأوربي، واعتبار مرجعيات الفكر الأوربي كمتعاليات تسبق تفكيره للآخر، والعجز عن فهم التغاير والتنوع على مستوى الحضارات، هو أحد الأسباب الرئيسية التي تمنع من أن تصبح الثقافة الغربية ثقافة عالمية-كونية. لأن هذه المركزية الشديدة للفكر الأوربي، تؤسس طموحا داخل النسق الثقافي والسياسي الغربي تتجه نحو التفرد والتعالي. وإعتبار إبداعات هذا الفكر هي النهائية، التي ينبغي أن يقبل بها الجميع. وما نظرية (فوكوياما) المسماة بـ نهاية التاريخ إلا نموذج على المفهوم الواحدي للحضارة والثقافة الذي يتبناه الفكر الأوربي.. ويشير إلى هذه المسألة الكاتب (مطاع صفدي) بقوله "لقد كان هجوم المشروع الثقافي الغربي، بأدوات التقنية على العالم يهدف أولاً إلى تدمير كلي من ناحية لبنى الخصائص القومية من حيث هي الحوامل التاريخية للمشاريع الثقافية المختلفة.
ومن ناحية ثانية كان هدف هذا الهجوم إعاقة أية جدلية مثاقفة سليمة تساعد الأمم على استعادة حيوية المشروع الثقافي الخاص، الذي يثبت حضوريته بإمكانياته الذاتية، مضيفاً من قوته إلى قوى التغيير المختلفة الناشطة داخل المشروع الثقافي-العالمي للإنسان..
ولقد حاول المفكر الغربي (لفي شتراوس) دحض هذا المفهوم الواحدي للحضارة والثقافة بقوله : أشرنا إلى أن كل مجتمع يمكنه من خلال وجهة نظره الخاصة تصنيف الثقافات إلى ثلاثة أنواع هي الثقافة المعاصرة له، ولكن الموجودة في مكان آخر من الكرة الأرضية، والثقافة التي ظهرت في المكان نفسه تقريباً ولكنها كانت سابقة في الزمان. وأخيراً الثقافات التي وجدت على السواء في زمان سابق، وفي مكان مختلف عن مكان وجوده.
فالثقافة الغربية بتمركزها الذاتي، ونفيها للمغايرة والتنوع ساهمت وتساهم بشكل مباشر في إغتيال الكثير من الخيارات الحضارية الصالحة للإنسان حاضراً ومستقبلاً.
وتأسيساً على هذا كله نقول: إن عالمية الثقافة، لا تتحقق عن طريق محاربة الثقافات الآخرى، وإنما عن طريق إحترامها والتسامح معها، والتفاعل مع أنساقها المتعددة.
والثقافة العربية بمضمونها وجوهرها الإنساني، بإمكانها أن تصبح ثقافة عالمية إنسانية إذا توفرت الأمور التالية..
1- الوعي بالذات
بمعنى أن طريق العالمية لأية ثقافة أو منظومة معرفية، لا يمر عبر تجاوز الذات بما تشكل من رموز وقيم وتاريخ.. وإنما العالمية تأتي عن طريق الوعي بالذات ودورها في صقل المواهب، وتعبئة الطاقات في تجاه عالمية الثقافة.
والوعي بالذات ليس مسألة هلامية أو فضفاضة وإنما يعني:
أ ـ المزيد من التعرف والكشف على الثروات المعرفية والثقافية التي تختزنها الذات الحضارية في تراثها وتاريخها.
ب ـ حضور الذات في عملية المثاقفة مع الثقافات الإنسانية، حتى لا تكون عملية المثاقفة طريقا إلى هدم الأسس المعرفية التي تتكئ عليها الذات. وحضور الذات في عملية المثاقفة، يؤدي إلى خلق الإندفاعة القوية والضرورية لفهم الثقافات المغايرة، والعمل على هضم الصالح منها.
ج ـ إحترام الثقافات الإنسانية الأخرى. لأن الاحترام في بُعده الثقافي يؤسس القاعدة النفسية والفكرية لهضم نقاط القوة المتوفرة في تلك الثقافة.
ويخطئ من يعتقد أن عالمية الثقافة، تتحقق عن طريق نفي وإقصاء الثقافات الأخرى، والعمل على طرد مساهمات الثقافات الأخرى في الحركة الحضارية الإنسانية، والترجمة العملية لمسألة الاحترام المذكورة، تتجسد في التعاطي الايجابي مع عطاءات وإنجازات الثقافات الإنسانية الأخرى، والانفتاح على المنتوج الثقافي لتلك الثقافات، والتعامل معه على أساس أنه إنجاز إنساني عام، يمكننا الاستفادة منه، لو انسجم وخصائصنا الذاتية الحضارية والتاريخية.
وبالتالي فإن الوعي بالذات، هو خط الدفاع الأول، الذي يمنع عملية الاستلاب والتحلل في مستوياتها الثقافية الحضارية. فالمزيد من الحضور الثقافي العربي والإسلامي، لا شك هو الذي يمنع عمليات الإنهيار في الانساق الثقافية والفكرية، وان الضباب هو الذي يهيئ جميع العوامل والأسباب لعمليات الإنهيار المقصودة.
لذا فإننا نقول: إن عالمية الثقافة العربية، لا تمر عبر الذوبان في الثقافات الأخرى، وإلغاء الحدود فيما بين الثقافات كما أن العالمية، لا تتحقق من خلال الانغلاق والانطواء على الذات الثقافية بما تنتجه هذه الذات ثقافياً وفكرياً.
إن طريق عالمية الثقافة العربية يمر عبر الوعي بالخصوصية الثقافية العربية نحو توسيع القواسم المشتركة مع الثقافات الإنسانية الأخرى.
2- الحوار بيـن الثقافات:
على المستوى العملي والفعلي، لا يمكن أن تعيش ثقافة بدون مثاقفة وعملية تواصل بشكل أو بآخر مع الثقافات الإنسانية الأخرى، إلا أن الفرق بين الثقافات يكمن في قدرة كل ثقافة إنطلاقاً من ثوابتها وخطوطها الكبرى، على تكييف المنجزات الإنسانية، التي قام بها الإنسان (الفرد والمجتمع) إنطلاقاً من ثقافة مغايرة.
فالثقافة التي لا تتمكن من هضم متغيرات العصر وإنجازاته وإدخالها في المنظومة الثقافية الذاتية، تبقى ثقافة متكلسة، لا تمارس الدور الايجابي والمؤثر في عمليتي الحوار والتواصل الثقافيين.
بينما الثقافة التي تتمكن من هضم تطورات العصر ومنجزاته هي تلك الثقافة القادرة على الامساك بناصية المستقبل.
من هنا فإن الحوار بين الثقافات، من الروافد الأساسية لإغناء كل ثقافة على مستوى الشكل والمضمون. وبهذا تمتزج العناصر الثقافية وصولاً إلى تفعيل القواسم المشتركة بين الثقافات، على مستوى حركة الأفراد والمجتمع.
لهذا فإننا نقول: إن الحوار بين الثقافات، من القنوات المهمة لدخول الثقافة في رحاب العالمية، لما تشكل عملية الحوار على المستوى الثقافي من تكريس لمفهوم الاحترام لكل منجز إنساني بصرف النظر عن موطنه الأصلي.
من هنا نجد أن الثقافة العربية والإسلامية في صدر الإسلام الأول، لم تكن حبيسة الجغرافيا التي نتجت فيها، وإنما انطلقت من تلك البقعة الجغرافية إلى كل أصقاع العالم. والسر في ذلك يرجع إلى طبيعة تعامل الثقافة العربية والإسلامية مع الثقافات الأخرى. إذ لم يسع العرب والمسلمون إلى إقصاء الثقافات الأصلية لكل شعب، وإنما سعوا إلى تمثل نقاط الايجاب والقوة في تلك الثقافات، والعمل على تكييفها مع الثقافة الفاتحة، فقد سعت الثقافة العربية والإسلامية، إلى استيعاب الثقافات الأخرى، وهضم مكوناتها الايجابية ونقاط قوتها. وفي مقابل ذلك سعت بعض الثقافات إلى ممارسة عمليات الإقصاء والنفي للثقافات المغايرة.
ويشير إلى هذه المسألة الكاتب العربي (منير شفيق) بقوله "إن الروماني على سبيل المثال، حين خرج من روما، ليفتح الأمصار، لم يكن هدفه جعل الخارج رومانياً، وإنما تعميق هوة اللامساواة، بإقامة تسلط مباشر على الخارج بعد ضمه إلى امبراطوريته، وبهذا يبقى الروماني متميزاً من كل الجوانب، فهو صاحب السطوة والسلطة والنفوذ وقوة العنف، وهو ناهب الثروة، والمتمتع بالخيرات والرفاه، وهو ممارس الاستغلال والاستبعاد والاضطهاد.
أما بالنسبة إلى العربي المسلم حين خرج من الجزيرة العربية، ليفتح الأمصار فكان يحمل القرآن وذلك من أجل نشر العقيدة، وإدخال الشعوب الأخرى في الإسلام. أي كان هدفه تحقيق الوحدة مع الخارج ومساواته بنفسه، من خلال العقيدة الإسلامية التي تقضي بذلك".
وهكذا فإن الثقافة العربية والإسلامية على المستوى التاريخي، لم تحمل مشروعاً عدائياً للخارج، وانما إنطلقت بمبادئها وقيمها، لتقنع الشعوب والعوالم الأخرى بها، فتتوحد معها، ويصبح الجميع في ظل أمة واحدة وثقافة واحدة.
لهذا فإن الحوار بين الثقافات جزء من الكيان الفطري للثقافة العربية والإسلامية، إضافة إلى أن الحوار، يزّود الثقافة العربية والإسلامية بإستمرار بزخم مكاسب الإنسان وإنجازات الثقافات الأخرى.
وأخيراً: فإن النمو والتطور، ينبغي أن يعتمد على جذورنا العقدية والثقافية الخاصة، لا بتلقيح ما هو غريب عنا.
ثانياً: الثقافة الوطنية ومسألة الهوية:
مع التطور التكنولوجي والتقني، ودخوله في كل مرافق ومجالات حياة الإنسان الفرد والمجتمع، باتت الهويات الذاتية لكل مجتمع مهددة بالمسخ والتشويه، لما يصاحب هذه الثورة التكنولوجية من عمليات ثقافية وحضارية تتجه وتهدف إلى تغيير النسق العقدي والحضاري الذي تسير على هداه المجتمعات والشعوب.
لهذا فمن الضروري تحديد الهوية الذاتية لمجتمعاتنا، والاجابة الصريحة والواضحة على سؤال (من نحن؟)، حتى نتمكن من الاستفادة القصوى من منجزات التقنية الحديثة.
ولعله من البديهي القول: أن تحديد هوية المجتمع الحقيقية، والاجابة السليمة على سؤال (من نحن؟) تاريخياً وراهناً لهما إرتباط صميمي بمختلف مناحي الحياة. لما تقوم به الثقافة الذاتية، من دور في إحياء الهوية الجماعية وتعبئتها، وإعادة تنشيط وتوحيد عناصرها ورموزها، وتحديث مقومات الشخصية الوطنية وفق منظومات ونظم تنسجم وحاضر المجتمع وراهنه.
كما أن الثقافة الذاتية (الوطنية) هي بمثابة الاطار والوعاء الذي يستوعب منتوج المثقف. لذلك فإن منتوج المثقف ينبغي أن ينطلق من الخطوط العريضة وروح الثقافة الوطنية، بما تمثله هذه الثقافة من رموز وأفكار وقيم. وأن يقوم المثقف بأداء وظيفته المعرفية تجاه محيطه ومجتمعه، بما يعزز الانتماء الحضاري لهذا المجتمع، ودخوله العصر بجدارة واقتدار. ومن هنا فإن هذه المسألة لا تعد ترفاً فكرياً أو جدلاً فلسفياً، إنها الواقع بتداعياته المختلفة، الذي لا يمكننا الاستفادة منه إلا بتحديد الأرضية الحضارية والثقافية التي نقف عليها. لأن عملية التحديد هذه هي التي تبلور لنا ماذا نريد أفراداً وجماعات، وهي التي تصيغ أهدافنا وتطلعاتنا المنظورة والبعيدة. ولهذا نجد أن بإختلاف الهويات، تختلف الاستراتيجيات وطرائق التفكير ونمط العيش والحياة. فالذي يعتمد في هويته على الاقتصاد مثلا يغفل بقية الابعاد الثقافية والحضارية، يقوم بتفسير التاريخ وأحداثه، وجميع الظواهر الإنسانية المعاصرة، وفق شروط ومتطلبات (الاقتصاد) كأساس لهوية ذلك المجتمع. وهكذا دواليك.
فتحديد الهوية الوطنية الذاتية، والاتكاء عليها بشكل إيجابي، هو الذي يؤهل المجتمع إلى ممارسة دوره بالصورة المطلوبة. وهذا مما يجعله راكزاً ومتزناً، وليس ريشة في مهب الريح.
من هنا فإن الخطوة الأولى في طريق التقدم والتطور، والاتجاه نحو الحضارة والمدنية، تتجسد في حسم قضية هوية المجتمع وذاته الحضارية.
وكثيراً من الاخفاقات التي منّي بها عالمنا العربي الإسلامي، مردّه في المحصلة النهائية، إلى غياب تحديد واضح لمقولة الهوية في المشاريع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للعالم العربي والإسلامي. إذ لا يمكن لمشروع ينتمي في جذوره الحضارية والثقافية إلى حضارة مغايرة أن ينجح في تربة حضارية أخرى. إذ أن من الشروط الأساسية لنجاح أي مشروع أن يكون منسجماً وهوية المجتمع الأصلية.
وقبل أن نستطرد في أهمية تحديد الهوية، ودورها في عمليات التنمية والانجاز، لابد أن نقف قليلاً ونسأل: كيف ينبغي أن ننظر اليوم (في اطار هذه التحولات والتطورات) إلى مسألة الهوية؟. إننا بإمكاننا أن نجيب على هذا السؤال من خلال النقاط التالية:
1- يحتاج كل مجتمع كي يعي ذاته ويتطور ويتقدم بإستمرار إلى أطر مرجعية ومعرفية وأخلاقية وروحية. والهوية الذاتية الوطنية لأي مجتمع هي الاطار المرجعي الذي يستمد منه المجتمع حيويته وفاعليته.
والهوية الوطنية بطبيعة الحال لا تدفعنا أو لا تعني بالنسبة لنا أن نغلق أبوابناً على ما هو ليس في أيدينا، وتتحكم به قوى أخرى خارجة عنا.
وإنما تعني إننا في البدء لابد أن نحقق هويتنا الحضارية والثقافية، ونجعلها حاضرة في حركتنا الاجتماعية والثقافية، وننطلق من هذا الحضور الثقافي والحضاري للتفاعل مع الثقافات الاخرى. وبهذا لا تكون ثقافة المجتمع المعاصر أو تصرفاته المختلفة خارج هذا المنظور والفهم للهوية وأبعادها. بل هي منطلقة منه لا لكي تجمده في قوالب ماضوية، وانما لكي يكون المجتمع ملتحماً إلتحاماً عضوياً مع منظومته القيمية والحضارية، وهذا الالتحام هو الذي يؤسس العوامل الذاتية والموضوعية لإنطلاق المجتمع وقدرته على العطاء على المستوى الحضاري.
لهذا كله نرى أن تحديد الهوية والإطار المرجعي المنسجم وتاريخنا للثقافة العربية هو الخطوة الأولى الضرورية لإخراج المجتمع العربي من حالة الإزدواجية والثنائية التي يعيشها في كل شيء، تراث ليس بمقدور المجتمع العربي استنطاقه بما يتناسب وتطورات العصر، ومكتسبات حضارية وتقنية ليس بمقدور الإنسان الاستغناء عنها. فالهوية الذاتية والاطار المرجعي العربي القائم على النتاج الإنساني المنضبط بضوابط الوحي والملتزم بقوانينه ومحدداته واستحضار كل هذه الأمور على مستوى إعادة إنتاجها وفق ما تتطلبه الظروف واللحظة التاريخية. في تقديرنا كلها مسائل أساسية لتكوين الوعي القادر على دفع المجتمع إلى مدارج التقدم والتطور.
فالهوية الوطنية ليست تعبيراً عن حقيقة بنائية ومؤسسية فحسب ولكنها أيضاً مجموعة قيم واتجاهات ومشاعر تشجع على العطاء الثقافي المنسجم وأصول الهوية الوطنية.
2- إن للهوية الذاتية الوطنية وظيفة أساسية تتجسد في المقاومة الذاتية لحالة الهيمنة والتحلل والسلبية، وهي عامل توازن يمنع المجتمع من التحول إلى ورقة في مهب الريح. لهذا فإن التخلي عن الهوية الذاتية، والتوجه بلا أرضية وبوصلة نظرية لثقافات الآخرين، ما هو إلا ضرب من ضروب التسوّل الثقافي لا تنتج إلا المزيد من إفتقار الثقافة الذاتية للمجتمع.
لهذا فإن الهوية الذاتية لها تأثيرها المباشر على تصرفات أبناء المجتمع في الاقتصاد والاجتماع والتربية والحضارة. وهذه الثقافة الذاتية هي التي جعلت المفكر الإيطالي (غرامشي) يقف موقفاً واضحاً من مشكلة الفلاحين في جنوب إيطاليا.
ونحن ننطلق من ضرورة تثبيت مسألة الهوية في الثقافة العربية، بإعتبار أن الكثير من الانتاج الثقافي والمشاريع في المجتمعات العربية، قد إنطلقت من إطار ومنظور مرجعي لا ينسجم والهوية التاريخية والذاتية للمجتمع العربي مما أدى إلى حالة من الاستغراق المتنامي والمتعاظم في عمليات التماهي الكلي مع السياقات الرمزية المنسجمة وذلك الاطار المرجعي الغريب. ونحن وإذ ننتقد الاطار المرجعي الغريب الذي تنطلق منه بعض الانتاجات والمشاريع لا نلغيه مطلقاً. ولكننا ينبغي أن ننطلق من إطارنا الذاتي في التعاطي مع الأطر المرجعية الأخرى.
ثالثاً: الوحدة والتنوع في الإطار الوطني:
لا يختلف أحد من الناس حول ضرورة الوحدة والتلاحم بين أبناء المجتمع الواحد والأمة الواحدة. لما لها من فوائد عديدة وآثار حسنة لصالح المجتمع والأمة. وتشترك في هذا الاجتماع حول ضرورة الوحدة وفوائدها المرجوة، جميع المدارس الفكرية والسياسية في الوطن العربي والإسلامي. بحيث إنك تجد في جميع أدبيات وخطب هذه المدارس، تأكيد على مسألة الوحدة، وإعتبارها عملاً إستراتيجياً، ينقل عالمنا العربي والإسلامي من وضع مأزوم، إلى آخر مليء بالإمكانات والقدرات والتطلعات الاستراتيجية.
ولكن تفترق هذه المدارس والنظريات في منهجية تحقيق الوحدة، والطريق الموصل اليها في الواقع الخارجي.
فالوطن العربي والإسلامي تاريخياً وحاضراً، يعيش حالات التنوع والتعدد بمختلف أشكالها اللغوية والجغرافية والعقدية.. بحيث إننا نستطيع القول أن هذه الحالات ليست مسألة طارئة على خريطة العالم العربي والإسلامي، بل هي جزء من كيانه وبنيته الأصلية. فهل تعني الوحدة إقصاء كل حالات التنوع والتعدد الطبيعية والتاريخية المتوفرة في عالمنا العربي والإسلامي، لصالح صيغة وحدوية قائمة على نمط رتيب من التوحد السياسي والثقافي والاجتماعي، لا ترى من الضروري أو من مصلحة الوحدة العناية بتلك التنوعات الطبيعية والتاريخية في مجتمعنا العربي والإسلامي.
فهل طريق الوحدة المطلوبة يمر عبر القفز على تلك الحالات والحقائق التاريخية، وتجاهلها في استراتيجية العمل الوحدوي. وإعتبار أن هذه الحقائق التاريخية والثقافية هي وليدة عصور التخلف والانحطاط والتأخر الحضاري، والمخططات الاجنبية في بلادنا. وبالتالي تتحقق مشروعية محاربة وإقصاء هذه الحقائق والانماط التاريخية والثقافية، تحت عنوان أنها جزء لا يتجزأ من آليات التخلف ومخططات الاستعمار والاعداء الخارجيين.
إن واقعنا العربي والإسلامي الحديث، يؤكد لنا أن بعض المدارس الفكرية والسياسية في محيطنا العربي والإسلامي نظرت إلى تلك الحقائق والانماط، وفق منظور أن الوحدة تعني التوحد القسري القائم على نفي كل أشكال التعدد والتنوع الطبيعية والتاريخية المتوفرة في مجتمعنا. لذلك فقد استخدموا كل ترسانتهم النظرية والعملية في سبيل محاربة حقائق التنوع والتعدد المتوفرة في المجتمع العربي والإسلامي.
ومن الطبيعي، وبإعتبار أن هذه الحقائق ليست طارئة على خريطتنا الحضارية، لذلك فإن محاربتها والعمل على إقصائها من ميدان التأثير الثقافي والاجتماعي، أوجد حالة من التشبث بعوامل التميز وأسباب التنوع، والعمل على تقوية الوجود الذاتي في اطار الدائرة الخاصة.
وبعد حقبة زمنية مديدة استخدمت خلالها كل وسائل تذويب هذه الحقائق والأنماط، لا نجد أن هذه المدارس استطاعت أن تحقق مفهومها للوحدة القائم على القسر ونفي كل حقائق التنوع والتعدد، وإعتبارها المعادل الطبيعي والموضوعي للتفتت والتمزق والتشرذم.
ولهذا نرى أن الوحدة المطلوبة، بإعتبارها أصلاً وخياراً حضارياً، لنا نحن العرب والمسلمين، لا تمر أو تتحق عبر التوحد القسري، وإقصاء حقائق التعدد في خريطة وجودنا التاريخية والحضارية.
فالوحدة لا تعني التطابق التام في وجهات النظر، وطرق التفكير بين أبناء الوطن الواحد. وإنما تعني احترام حقائق التعدد والتنوع، والعمل بشكل مشترك ووحدوي على ضوء تلك الحقائق.
وتاريخياً لم تكن الوحدة التي صنعها العرب والمسلمون، تعني التوحيد القسري ونبذ أشكال التنوع الطبيعية في الوجود العربي والإسلامي. وإنما المسلمون صنعوا وحدة قائمة على احترام التنوع وخصائص التعدد الطبيعية. لأنها حالات وحقائق طبيعية، ومتناغمة مع نواميس الوجود الإنساني.. لأن الباري عز وجل قد خلق البشر مختلفين من نواح عديدة…
أ ـ لتكوّنهم من ذكر وأنثى {وإنه خلق الزوجين الذكر والأنثى}.
ب ـ مختلفون لأختلاف ألسنتهم وألوانهم {ومن آياته خلق السموات والأرض وإختلاف ألسنتكم وألوانكم}.
جـ ـ مختلفون لإختلاف عقائدهم {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}.
وعلى ضوء هذا الاختلاف والتنوع، تنشأ الوحدات الاجتماعية المستقلة، لكن لا لكي تتباعد عن بعضها، وإنما لكي تتعارف.
فالتعارف هو المنظور القرآني، لتجاوز الآثار السيئة والسلبية لحالة الاختلاف والتعدد "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
فطريق الوحدة في التجربة العربية والإسلامية، يأتي عن طريق احترام حقائق التنوع، لأن التعدد والتنوع ليست حالات أو وقائع مضادة للمنظور الوحدوي، بل هي عناصر تثري مفهم الوحدة، وتزيد مضمونه حيوية وفاعلية.
وفي المقابل فإن إقصاء هذه الحقائق لا يوصلنا إلى الوحدة، بل بالعكس يفرغها من مضمونها الحضاري، ويجعلها وبالاً على الكيان المجتمعي بأسره.
واستطراداً نقول: إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تمتلك ثروات فكرية وعقلية هائلة، من جراء تعدد الأفكار، وتنوع القناعات، وفي إطار الأفق الواحد.
وإن الحكمة تقتضي أن تحترم هذه الأفكار والقناعات حتى تمارس دورها الطبيعي في البناء والتطور.
فالوحدة لا تنجز على أنقاض مكتسبات المجتمع أو الأمة التاريخية والحضارية، بل عن طريق إحترامها وفسح المجال لها، وتفعيلها بما يفيد حاضر المجتمع ومستقبله.
أما الضوابط المنهجية التي تجعل التعدد والتنوع، طريقاً موصلاً إلى وحدة قوية وصلبة فيمكننا إختصارها في المقولة التالية…
إن الاختلاف بين البشر، على مستوى الأفكار والتصورات، ليس حالة سلبية، بل هو جزء من الناموس الكوني العام. فمادام الإنسان يحمل عقلاً وقدرة على التفكير، فإنه قابل لإنتاج فكرة أو تصور مغاير للفكرة أو التصور الذي أنتجه الإنسان الآخر. وبالتالي فإن الاختلاف بين البشر في التصورات والأفكار مسألة طبيعية وبديهية. إلا أن اللا طبيعي هو أن تتحول إختلافات البشر الطبيعية، إلى خلافات وصراعات وأزمات يضعها الإنسان تجاه أخيه الإنسان.
لهذا فإن المنهجية السليمة لإعتبار التنوع واحترامه، هو سبيل الوحدة الطبيعي، هو أن ننظم إختلافاتنا وتنوعنا، ونوجد لأنفسنا أفراداً ومجتمعات الأطر والقنوات الصالحة لإدارة إختلافاتنا وتغاير وجهات نظرنا. وبالتالي فإن العمل على قسر الناس على قالب فكري واحد، لا يؤدي إلا إلى المزيد من تمسك أولئك النفر بخصائصهم ونقاط تنوعهم، مع ضياع البناء القوي للمجتمع الواحد. بينما احترام قناعات الآخرين ونظراتهم الثقافية، يجعل هذه القناعات والنظرات، رافداً أساسياً من روافد البناء الوحدوي السليم.
إننا نرى أن طريق الوحدة، يمر عبر احترام التنوع وحقائق التعدد في المجتمع الواحد. ودون ذلك تبقى الوحدة شعاراً زائفاً، يخفي حقائق سياسية وثقافية مضادة لمفهوم الوحدة ومقتضياتها.
وإن حقائق العصر تؤكد أن فرض الوحدة بالقوة، لا يؤدي إلى تحقيقها بل يصنع ويؤسس كل عوامل التفتيت في المجتمع الواحد.
وهكذا يبقى خيار الوطن العربي والإسلامي، أن يكون متنوعاً في الوحدة، ومتوحداً في التنوع.
رابعاً: من هنا تبدأ الوحدة:
إن القراءة الواعية للأدب العربي الوحدوي والى النتاج الفكري الذي يؤسس التصورات الفكرية والنظريات الثقافية والسياسية والاقتصادية لمشروع الوحدة. يجعلنا نكتشف أن هذا الأدب والانتاج الفكري يقف موقفاً مضاداً من مفهوم الدولة القطرية، ويعتبرها بما تشكل من نظام سياسي، وشبكة من العلاقات والمصالح عقبة تحول دون تحقيق مفهوم الوحدة القومية.
لهذا فإن هذا الانتاج، يركز على مفهوم الدولة القومية ودورها في تعزيز مكانة الأمة سياسياً وإقتصادياً. وتتخذ موقفاً سلبياً من تجربة الدولة القطرية، لما تشكله من عنوان للتجزئة السياسية والاقتصادية.
وفي تقديرنا أن الواقع القطري، لم يختلف من التاريخ العربي القديم والحديث. وإنما هو حقيقة تاريخية-سياسية-اقتصادية، استمرت في عصور الاخفاق والهزيمة العربية، كما هي أيضاً مستمرة في زمن الازدهار والتقدم العربي. ولكن الفرق الأساسي بينهما هو:
إن الكيان القطري في زمن الحضارة والتقدم، كانت ترتبط هيكلياً (سياسياً واقتصادياً) مع بقية الكيانات القطرية. مما يجعل العلاقات بين هذه الأطراف مفتوحة على كل المستويات والصعد.
ففي تاريخنا العربي القديم مثلاً، لم يختف من الوجود السياسي والاقتصادي، القطر العراقي أو المصري أو اليمني أو السوري. وإنما الذي إختفى (في زمن التقدم والحضارة) هو حالة التعصب الأعمى لهذه الكيانات القطرية.
أما في عصور الإخفاق والهزيمة، فقد تحولت الكيانات القطرية إلى كيانات مغلقة، تمارس في الكثير من الأحيان القطيعة والانفصال السياسي والاقتصادي مع أشقائها من الكيانات القطرية الأخرى.
وبإمكاننا أن نقرر: إن التاريخ العربي في هذا الأطار، هو حالة من التراوح بين هذين الخيارين. وتعتمد حالة التراوح على القاعدة الحضارية.
فحينما يصبح العرب متقدمين، يكون الخيار السائد هو الخيار الأول القائم على وجود الكيانات القطرية النهائية. ولعلنا وفق هذا المنظور، نستطيع أن نفهم الواقع القطري العربي المعاصر.
وإن هذه الأمور تدفعنا إلى إعادة القراءة السياسية والحضارية لواقع الدولة القطرية في العالم العربي والإسلامي. حيث أن الوحدة العربية، لم تعن في يوم من الأيام ذوبان هذه الكيانات القطرية في إقليم واحد، وإنما نجد أن أرقى الحقب الوحدوية في تاريخنا هي عبارة عن وجود مجموعة من الأقاليم والولايات ذات الحكم المحلي والتسيير الذاتي، ويجمعها نظام سياسي واحد، يشكل المظلة العليا لمجموع الأقاليم العربية والإسلامية. ووفق هذه الصيغة التاريخية، لم تنتف القطرية والوطنية من الواقع العربي، وإنما الذي إنتفى هو إنحباس المواطن فيها على مختلف المستويات.
لذلك فإننا نرى أن النهج الوحدوي السليم، والمستند على الحقائق التاريخية والمعاصرة. هو الذي يقوم على احترام القطرية والوطنية، والعمل على تنميتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، حتى تشكل بمجموعها كياناً سياسياً واقتصادياً عربياً ذا وزن دولي.
وعبر هذا النهج نتخلص من مشكلة عميقة إبتلي بها الوطن العربي في العصر الحديث. وهي مشكلة الاقليم القاعدة او الانموذج. الذي يحاول أن يسيطر على كل الأمور والقضايا بدعوى الوحدة العربية. ولا نبالغ إذا قلنا أن إخفاق الكثير من المشاريع الوحدوية العربية، يرجع إلى هذه المشكلة وتداعياتها السياسية والدولية. ولهذا فإننا ينبغي أن نقيم تصورنا الوحدوي، على قاعدة أن إصلاح وتطوير وتنمية الاقليم أو الكيان الوطني، يخدم إستراتيجياً مشروع الوحدة القومية. لأن الوحدة الصلبة، لا تتحقق بين مجموعة من الأقاليم والكيانات الوطنية الضعيفة، والتي لا تمتلك مقومات البقاء. وإنما تتحقق بين مجموعة من الأقاليم القوية، والتي تمتلك مقومات الدولة المستقلة. ويجانب الصواب من يعتقد أن بقاء الكيانات القطرية ضعيفة ومهترئة هو بسبب التجزئة السياسية وإنما هو بسبب السياسات الخاطئة التي لم تستطع أن تنمي وضع هذا الجزء، وتعمق أسباب قوته ومنعته. لهذا فإننا نرى أن إصلاح وتطوير الجزء (الإقليم) ضرورة من ضرورات الوحدة العربية.
فلو سعى المواطنون العرب (كل في إقليمه وكيانه الوطني) إلى تنمية واقعه وسد ثغراته، وتمتين اقتصاده، وتطوير وضعه السياسي.
فإننا سنحصل على مجموعة من الكيانات القطرية القوية، التي تزيدها الوحدة قوة وإقتداراً.
أما إذا كسل المواطنون، وتراخى القوميون عن بناء وطنهم (الاقليم) فإن الوحدة ستكون عبئاً ثقيلاً على الاقليم المقتدر.
ولنا في تجربة الوحدة الألمانية خير مثال. فإن تأخر الإقليم الشرقي سياسياً واقتصادياً عن توأمه الغربي، هو الذي حوّل مشروع الوحدة إلى عبء ثقيل على المواطن الألماني الذي يعيش في الاقليم الغربي. ولهذا فإننا نقول: إن التجزئة السياسية والاقتصادية التي يعيشها العالم العربي اليوم ليست حالة نهائية. وإن رفع الحالة لا يتم عبر التلويح بآفاق الوحدة وفوائدها الجمة، وإنما يتم عبر أن يشمّر مواطنو كل إقليم عن سواعدهم، ويبلورون لأنفسهم الخطط والمشاريع الإنمائية المنسجمة وخصوصياتهم المحلية، والانطلاق في رحاب بناء القوة الشاملة. إن هذا النهج وحده، هو الذي يزيل واقع التجزئة السياسية والاقتصادية في العالم العربي، ودون ذلك هو محض أمنيات وتأجيل وإتكال على الآخرين في إصلاح أوضاعنا وأمورنا.
إننا أيضاً بحاجة إلى أن ننتقل من حقبة استهلاك الشعارات الوحدوية، التي تؤكد على أهمية الوحدة والقواسم المشتركة التي تجمع الأطراف العربية، والمستقبل المأمول من مشروع الوحدة. إلى حقبة التراكم والتأسيس الذاتي، المستند على صنع حقائق وحدوية في الأقاليم والأقطار العربية.
فما زالت كياناتنا القطرية تفتقر إلى الحقائق الوحدوية الاقتصادية والثقافية فضلاً عن السياسية. وهذا ما يفسر بقاء شعار الوحدة بلا مضمون. لأنه بعد لم تتشكل في الفضاء القطري، الحقائق الوحدوية الدامغة والداعمة لكل مشروع يتجه إلى تقوية أواصر التضامن والتعاون في الدائرة القومية العربية أو الدائرة الإسلامية.
وينبغي القول والاعتراف في هذا الصدد: إن أغلب مؤسساتنا القومية لم تستطع لعوامل ذاتية وموضوعية، من تثبيت حقائق وحدوية في الجسم العربي كله. وخير مؤشر على هذه الحقيقة، فشل الجامعة العربية في إيجاد حل عربي لأزمة الخليج الثانية، وفي منع الحروب العسكرية أو المواجهات السياسية الحادة التي تجري بين فترة وأخرى بين دول عربية شقيقة.
وإن الحقائق الوحدوية التي ينبغي أن تتأسس في الوجودات القطرية، هي بحاجة إلى قواعد قانونية-سياسية عملية لمشروع التعاون العربي.
حيث أن التعاون وفق هذا المنظور، هو الذي يؤدي إلى تشابك المصالح العربية مع بعضها، ويمنع عمليات الاختراق الأجنبي، ويقرّ بنا على المستوى العملي من مفهوم الوحدة القومية.
وأخيراً: ما أروع الوحدة والتعاون، الذي يتم بين مجموعة من الأقوياء، لا بين قوي وضعيف.
من خلال هذه المحاور والتعبيرات السياسية والثقافية والاجتماعية، نكتشف أن المسألة الوطنية في الفكر العربي المعاصر قضية مركزية وذات أبعاد وآفاق متعددة. وفي ذات الوقت هي مسألة غير نهائية، بمعنى أن الإنسان بإبداعه وتضحياته ووعيّه وقلقه الحضاري، يضيف إلى هذه المسألة ويعمق أبعادها ويبلور أرضيتها ويزيل كوابح نموها وازدهارها.
اضف تعليق