وطبيعة المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، ستكون مرهونة إلى حد بعيد إلى طبيعة العلاقة التي ستتشكل بين العسكر والإسلاميين فإذا كانت العلاقة قائمة على أساس التناغم التام، فإن الأمور تتجه إلى أن تكون دول الربيع العربي أشبه ما يكون إلى النموذج الباكستاني حيث سيطرة العسكر...
يبدو من مجموع المعطيات السياسية والإستراتيجية والأمنية المتوفرة، عن البلدان التي نجحت فيها ثورات الربيع العربي، أنها تتجه لاعتبارات داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، إلى توزيع مصادر القوة في الاجتماع الوطني بين العسكر والحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها وأطيافها وألوانها.. بحيث تكون الدولة (بالمعنى العلمي) والتي تشمل المؤسسات الثابتة والخيارات الإستراتيجية بيد المؤسسة العسكرية، بحيث هي التي تتحكم فيها وتديرها وفق الرؤية الإستراتيجية القائمة.. أما السلطة كفضاء للتنافس والتداول، فسيكون في أغلب هذه الدول بيد الحركات الإسلامية..
وطبيعة المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، ستكون مرهونة إلى حد بعيد إلى طبيعة العلاقة التي ستتشكل بين العسكر والإسلاميين.. فإذا كانت العلاقة قائمة على أساس التناغم التام، فإن الأمور تتجه إلى أن تكون دول الربيع العربي أشبه ما يكون إلى النموذج الباكستاني..
حيث سيطرة العسكر على المفاصل الأساسية للدولة ومع منافسة دائمة للسياسيين على المساحات السياسية والاقتصادية الأخرى..
أما إذا كان الإسلاميون ينشدون بناء دولة مدنية وديمقراطية حقيقية، ويبادرون باتجاه بناء كتلة سياسية - ديمقراطية تتجه صوب هذا الهدف، وتحول دون هيمنة العسكر، فإن النتيجة، حتى ولو كانت هناك صعوبات حقيقية آنية من جراء التنافس والتدافع والصراع، هي اقتراب دول الربيع العربي من النموذج التركي..
لهذا فإننا نعتقد أن اللحظة السياسية التي تعيشها دول الربيع العربي، هي لحظة حساسة ومصيرية، وحضور جميع القوى الديمقراطية في الميدان ويقظتها الدائمة، سيساهمان في تحديد شكل المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي..
وبتعبير آخر أقول: أن الدول التي قطعت أشواطا مهمة باتجاه العلمانية، هي الدول القادرة اليوم على بناء نموذج ديمقراطي جديد.. لأنه لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية، بدون وجود دولة بمختلف مؤسساتها ثابتة ومستقرة وضاربة بجذورها في الاجتماع الوطني... ووفق هذه الرؤية فإنني أعتقد أن الدولة القادرة وفق المعطيات الحالية لبناء ديمقراطية شبه حقيقية هي جمهورية تونس، لكونها فيها دولة بمختلف مؤسساتها، وقطعت أشواطا حقيقية وفعلية باتجاه العلمنة والخيار العلماني..
أما في جمهورية مصر العربية فإن الاستبداد السياسي الذي تعاقب لعقود طويلة، ومؤسسة الدولة لم تسلم منه، لذلك فهي تعاني من ذات العيوب التي تعاني منها السلطة في مصر..
مما يعقد عملية الانتقال نحو الديمقراطية في التجربة المصرية.. والذي يدفعنا إلى تبني هذا التحليل حول مآل دول الربيع العربي المنظور، هو وجود إرادة دولية، عملت عبر وسائل عديدة للتحكم أو المساهمة في التحكم حول مآل هذه الثورات والتحولات الكبرى..
والذي يبدو أن الإرادة الدولية لا زالت تراهن على المؤسسة العسكرية لضمان استمرار الخيارات الإستراتيجية لهذه الدول، بحيث تحول دون تحولها الاستراتيجي على مستوى الخيارات والتحالفات..
وعلى كل حال، فإن ما تشهده دول الربيع العربي من انتخابات برلمانية ومظاهر ديمقراطية أخرى، هي الخطوة الأولى في مشروع إرساء معالم وحقائق الديمقراطية في الفضاء الوطني لهذا البلد العربي أو ذاك.. وإن هذه البلدان تحتاج إلى الكثير من الجهود والمثابرة والإبداع السياسي، من أجل تعزيز خيار الديمقراطية في الفضاء الاجتماعي والسياسي، ومن أجل الحؤول دون عودة السلطة المضادة حتى ولو كانت بقفازات ناعمة..
فالديمقراطية ليست مشروعا ناجزا، وإنما هي تبنى لبنة لبنة، وتحتاج إلى كل الجهود والطاقات من أجل إرساء حقائقها في السياسية والمجتمع..
ولا ريب أن سقوط الديكتاتور، ليس نهاية الطريق، وإنما هو بدايته، وكما كان لحضور الشعب بكل فئاته وشرائحه وظيفة أساسية في سقوط الديكتاتور، فإن الديمقراطية لن تبنى إلا بحضور الشعب وحيوية وفعالية كل مكوناته في المجال العام والحياة المدنية.. فلحظة الانتقال والتحول من نظام إلى آخر، هي من أدق اللحظات وأخطرها.. لهذا فإننا نعتقد أن حضور الشعب في الميدان وفعالية الحركات السياسية والمدنية، هما حجر الأساس لإدارة لحظة الانتقال والتحول بطريقة تضمن التحول السياسي نحو التعددية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة..
وكلما أصبحت مجتمعاتنا مهددة بالعنف وظواهر النبذ والاستبعاد والتهميش والتعصب الطائفي والمذهبي والقومي والعرقي، تتأكد حاجتنا كأفراد ومجتمعات إلى الخلاص والمصالحة والإنصاف.. لأن العنف لا يعالج بعنف مثله، ولأن النبذ والمفاصلة الشعورية والعملية لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قومية، لا يمكن مواجهة كل مفاعيل ومتواليات هذه التباينات والصراعات، إلا بالإصرار على التسامح والعفو وحسن الظن والمصالحة والتفاهم بعيدا عن لغة الانتقام والثأر والتشفي.. فالمنجز الحضاري والثقافي هو الكفيل بوقف حركة التاريخ نحو الانحدار صوب الصراعات والنزاعات العبثية.. فمن المعلوم أن قصر الحمراء في غرناطة يعتبر أحد روائع الفن المعماري والثقافي معا، ولكن بما أنه إسلامي، فإن الأسبان بعد سقوط الأندلس هجروه وأهملوه زمنا طويلا، بل تركوه للغجر لكي يحتلوه ويفعلوا به ما يشاؤون، وذلك قبل أن يرمموه في العقدين الأخيرين ويقدموه كتحفة يهرع السياح لرؤيتها والاستمتاع بها..
فالعنف لا يعالج إلا بالإصرار على الحوار والعفو والتسامح.. ونزعة التدمير لا تضبط إلا بالاستمرار في بناء حقائق التنمية وتجويد العمل الصالح..
ومن الطبيعي القول: أن سقوط الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، والتي عاثت في مجتمعاتها فسادا بكل صنوفه وألوانه، ليس نهاية الطريق، بل هو الخطوة الأولى في مشروع تفكيك حوامل الاستبداد والفساد.. وإن الشعور بأن كل المشاكل قد انتهت بعد انهيار الأنظمة الديكتاتورية، هو شعور مخادع وزائف.. لا ريب أن انهيار الأنظمة الاستبدادية، علامة من علامات الخير والانجاز، ولكنها علامة ليست كاملة، لأن قوى النظام الشمولي المنهار، قد تمتلك القدرة على الالتفاف على كفاح الناس، بحيث يبقى النظام السابق الذي صنع الديكتاتور قائما ومستمرا ولكن بقفازات ناعمة..
فمن حق الناس أن تفرح بسقوط الديكتاتور، ولكن مشاعر الفرح والحرية، لا تكتمل بدون تفكيك بنية النظام الشمولي، وبناء حياة قانونية ودستورية وقضائية جديدة، تؤسس لنظام سياسي جديد، يحول دون عودة الديكتاتور والنظام الفاسد، حتى ولو بجلباب جديد.. فامتلاك المستقبل والقبض على عوامل التحكم في المصير، تتطلبان بناء الخطط والعمل المتواصل لتأسيس وبناء دولة مدنية – حديثة، تعيد الاعتبار لجميع المكونات والتعبيرات وتتعامل مع مجتمعها وفق القانون والعدالة، وبعيدا عن كل نزعات الاستئثار والاحتكار والاستزلام.. فالمطلوب ليس القضاء على الديكتاتور الفرد، وإنما القضاء على الديكتاتور الظاهرة بكل جذورها وأسبابها وموجباتها..
ومع إيماننا بأهمية العمل على تفكيك كل الحوامل المنتجة لظاهرة الاستئثار والاستبداد، فإننا في ذات الوقت ندرك أهمية العمل على ضبط النزاعات الأهلية وحالات الانتقام والثأر.. بمعنى إننا في الوقت الذي ندعو فيه إلى إنهاء كل موجبات ظاهرة الاستبداد والديكتاتورية من الفضاء الاجتماعي والسياسي، في ذات الوقت ندرك أهمية المصالحة الداخلية وطوي صفحة الماضي بدون ثأر وانتقام، لأنه لا يمكن أن تبنى ديمقراطية في ظل نزعات العنف والانتقام، لأن هذه النزعات تغذي الإحن والأحقاد، وتفجر كل عناوين التشظي العمودي والأفقي في المجتمع.. ولكي تكتمل رؤيتنا في هذا السياق سنوزع الدراسة إلى محورين أساسيين وهما:
1- العرب والتحول السياسي..
2- آليات وميكانيزمات الإنصاف والمصالحة في المجتمعات العربية..
اضف تعليق