ما حدث هو حرق لسنوات من بناء العلاقات الدبلوماسية وتخريب لجهود إعادة ترميم صورة العراق كدولة مسالمة قادرة على حماية البعثات الدبلوماسية لديها، فهذا الملف شديد الحساسية وتقاس على أساسه مدى قوة الدولة وقدرتها على تنفيذ التزاماتها الخارجية، وبتكرار حوادث ضرب السفارات بالصواريخ او اقتحامها بالمتظاهرين...
مجموعة من الشباب يتظاهرون امام السفارة البحرينية وسط العاصمة بغداد، ثم يقتحمونها مستبدلين العلم البحريني بالعلمين العراقي والفلسطيني، بعدها أقيمت حفلة شِواء للعلم الأمريكي والإسرائيلي وصور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والغاية إيصال رسالة رفض لورشة المنامة التي تعد أولى خطوات تطبيق صفقة القرن ودفن القضية الفلسطينية الى الابد.
الشرطة تدخلت بعد انتهاء عملية الاقتحام وانتهاك حرمة السفارة من قبل المتظاهرين، واعتقلت اكثر من 40 شخصا وأغلقت الطرق المؤدية لمنطقة المنصور، وزير الداخلية ياسين الياسري وصل الى مقر السفارة للاطلاع على الأوضاع، المنامة استدعت سفيرها في بغداد، ووزير الدولة السعودية لشؤون الخليج ثامر السبهان يصف ما حدث بالامر المؤسف.
من سمح بهذا الاقتحام هو قوات الامن، لكن لماذا؟ لان الشرطي في العراق لا يمكنه ان يوقف تظاهرة تقف وراءها جهات يعرف توجهاتها، ومدى ارتباطها بالصراع الإقليمي المستعر هذه الأيام، فالتظاهر ضد البحرين يعني ان هناك جهة قوية تقف وراء هذا النشاط، ولو ان شرطياً منع اقتحام السفارة يمكن ان تنتهك حرمته ويتعرض للضرب المبرح.
ما حدث تحول الى قضية رأي عام، هناك من يؤيد أي نشاط يؤدي الى الوقوف بوجه المخططات الامريكية لضرب القضية الفلسطينية، وفريق اخر يدعو للتركيز على القضايا الوطنية من قبيل الكهرباء وتوفير فرص العمل لجيوش العاطلين كونها الأهم في المرحلة الحالية.
ما يجمع الآراء المتضاربة ان التظاهر ضد صفقة القرن او أي مشروع اخر امر مكفول وفق القوانين الدولية والوطنية، ومن حق المواطنين التعبير عن ارائهم بحرية وايصال رسائلهم الاعتراضية او المؤيدة، لكن للتظاهر حدود وكما لك حق التعبير فللآخر حرمة ويجب حمايته، وهذا ما لم يلتزم به من تظاهروا امام مقر السفارة البحرينية في بغداد فقد انتهكوا بنود احدى اهم الاتفاقيات الدولية التي ترسم صورة الدولة العراقية لدى الخارج.
فاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الموقعة عام 1961م، وفي المادة 22 منها تنص على الاتي:
- تتمتع مباني البعثة (الدبلوماسية) بالحرمة، وليس لممثلي الحكومة المعتمدين لديها الحق في دخول مباني البعثة إلا إذا وافق على ذلك رئيس البعثة.
- على الدولة المعتمد لديها التزام خاص باتخاذ كافة الوسائل اللازمة لمنع اقتحام أو الإضرار بمباني البعثة وبصيانة أمن البعثة من الاضطراب أو من الحط من كرامتها.
- لا يجوز أن تكون مباني البعثة أو مفروشاتها أو كل ما يوجد فيها من أشياء أو كافة وسائل النقل عرضة للاستيلاء أو التفتيش أو الحجز لأي إجراء تنفيذي.
نص الاتفاقية واضح ولا يحتاج الى تأويل، ما قام به المتظاهرون معالجة بالاخطاء، أي معالجة الخطأ بخطأ اكبر، فمن حقهم التظاهر امام السفارة وحتى الاعتصام لايام واسابيع، واطلاق شعارات رافضة لكل اشكال التطبيع مع إسرائيل ومحاولات بيع القضية الفلسطينية، لكن لا يجوز لهم عبور حدود الاتفاقيات الدولية، ومن يرى انه يملك قضية كبرى مثل القضية الفلسطينية يفترض انه لا يقوم بممارسات غير مدروسة، وكان الاجدر ان تكون كل الخطوات محسوبة من اجل الوصول الى الهدف المنشود وهو تحرير الأرض العربية والإسلامية، وما دون ذلك فهو نوع من التهور الذي تضيع بسببه الحقوق وتعرض ما تبقى من حقوق بلادنها نحن للانتهاك أيضا لأننا نظهر للعالم تدني مستوى الانضباط لدينا ما يجعل الوصاية الدولية (رسمية او غير رسمية) امراً حتمياً.
هل يعتقد احد ان اقتحام مبنى السفارة البحرينية سوف يوقف ورشة المنامة؟ يمكن القول ان من اقتحمها لن يفيد فلسطين بشيء، ولا العراق، لانها حولت مجرى الاحداث من حق الإدانة لفعل التطبيع الى التبرير لفعل انتهاك أصول القانون الدولي والاتفاقيات الدولية، والرسالة تاتي في سياق الصراع الإقليمي الدائر في المنطقة، ما يعني تحول العراق الى صندوق بريد بين الدول المتصارعة، ولا يهم ان يتحول هذا الصندوق الى رماد في المستقبل.
كل ما حدث هو حرق لسنوات من بناء العلاقات الدبلوماسية وتخريب لجهود إعادة ترميم صورة العراق كدولة مسالمة قادرة على حماية البعثات الدبلوماسية لديها، فهذا الملف شديد الحساسية وتقاس على أساسه مدى قوة الدولة وقدرتها على تنفيذ التزاماتها الخارجية، وبتكرار حوادث ضرب السفارات بالصواريخ او اقتحامها بالمتظاهرين فقد نسمع بعد فترة انسحاب بعض الدول التي لا ترى ضرورة في البقاء على ارض لا تعدو كونها ساحة حرب لخصوم اقليميين.
اضف تعليق