ازمة \"التوك توك\" هي اختصار لمشكلة ابرز، وهي ازمة الإدارة وغياب تطبيق القانون، فلو كانت لدينا إدارة ناجحة للحكومات المتعاقبة منذ 2003 وحتى الان لما التحق اغلب الشباب بجيوش البطالة، ولو كانت هناك حكومة حازمة خلال السنوات السابقة لما سمحت بهذا التناقض بين الاستيراد والمطابقة مع القوانين العراقية...
في شارع فلسطين وسط العاصمة العراقية بغداد، وتحديدا قرب ساحة بيروت توجد بعض المعارض لبيع عربات صغيرة مكونة من ثلاث عجلات تتسع لحمل راكبين او ثلاثة تسمى "التوك توك"، وفي المنطقة التي تباع فيها يمنع سير هذه العربات، فساحة مظفر المجاورة لشارع فلسطين تمثل اخر نقطة يمكن لسائقي عربات "التوك توك" الوصول اليها (المنع يطبق انتقائياً وحسب نوعية السيطرة الأمنية).
لماذا تباع عربات "التوك توك" في شارع فلسطين، وتمنع من السير في نفس المنطقة؟ لا جواب لسؤال كهذا، فنحن في العراق والفوضى امر طبيعي، ومن الأمور الاعتيادية ان نرى العربات تعمل في المناطق الفقيرة التي لا تحتوي على شوارع واسعة لسير سيارات التكسي، او انها مناطقة مزدحمة جدا ويقطنها الفقراء وأصحاب العشوائيات، لذلك يكثر استخدامها في مدينة الصدر وأصبحت علامة فارقة لها، وتعمل أيضا في منطقة الباب الشرقي اكثر مناطق العراق ازدحاما، فالاطفال والمراهقون هم من يملكون مفاتيح "التوك توك" رغم انهم لا يحملون إجازة قيادة ولا أرقاما مسجلة لعرباتهم.
بدأ دخول عربات "التوك توك" الى العراق مطلع عام 2015، وتكاثرت بسرعة لتملأ الفراغات في المناطق شديدة الزحامات، حيث تنسدل مثل الحشرة الصغيرة دون ان يمنعها أي شيء، تسبب ارباكاً لسائقي سيارات الأجرة، وتصيبهم بنوبات غضب، لقلة معرفة سائقيها باساسيات القيادة في الشوارع، وعدم التزامهم بما تحدده شرطة المرور من تعليمات، فضلا عن سحبهم جزءا كبيرا من زبائن سيارات الأجرة ليخلقوا تنافسا شرساً على الركاب.
يرى أصحاب "التوك توك" انها تمثل مورداً في بلد تشح فيه فرص العمل، ووسيلة لكسب الرزق بتكلفة اقل، بينما يراها اخرون احدى أسوأ مراحل تدهور الدولة العراقية، لكونها تعيد البلد الى الوراء وتجعله شبيها بالبلدان شديدة الكثافة السكانية مثل الهند، ففي الوقت الذي تبني فيه الدول المتقدمة القطارات والانفاق والطرق السريعة يلغي العراق الإشارات المرورية واجازات السوق، ولوحات السيارات ويستبدلها بعربات لا قانون يحكمها ولا شوارع منظمة تسير فيها، انما وجودها ووظيفتها ان تسير في شوارع غير منظمة، فتصعد الرصيف عند حصول الزحام، او تخترق جموع السيارات في الشوارع العامة، ربما لا يصدق حديث "التوك توك" من يعرف تأريخ بغداد التي تعد اول مدينة عربية تستخدم السيارات الكبيرة ذات الطابقين لنقل الركاب.
ازمة "التوك توك" هي اختصار لمشكلة ابرز، وهي ازمة الإدارة وغياب تطبيق القانون، فلو كانت لدينا إدارة ناجحة للحكومات المتعاقبة منذ 2003 وحتى الان لما التحق اغلب الشباب بجيوش البطالة، ولو كانت هناك حكومة حازمة خلال السنوات السابقة لما سمحت بهذا التناقض بين الاستيراد والمطابقة مع القوانين العراقية، فكيف يجرؤ تاجر على ادخال بضاعة لا يمكن تسجيلها رسمياً، وبما ان مديرية المررور تمنع إعطاء أي صفة لعربة "التوك توك"، تجعلها سائلة لا هي من جنس السيارات ولا هي من جنس الدراجات النارية، ما يعني بقاءها بدون ارقام.
ترى من سمح بدخولها الموانئ العراقية؟ انه سوء الإدارة وغياب تطبيق القانون، وبعد ان دخلت للعراق، وأصبحت امرا واقعا لا مفر منه، الا يجب على السلطات ان تتفاعل مع الواقع الجديد اما بمصادرتها وتغريم من يقودها بالشوارع او ان تنظم بقانون خاص، وربما يمكن الحاقها بالسيارات، لكن لا توجد الغرامة ولا يوجد القانون.
هناك مئات المشاكل المشابهة لمشكلة "التوك توك" مثل العشوائيات السكنية والبطالة وعدم وجود شبكة نقل وطنية، وغياب الكهرباء، ومثلها ازمة المدارس والجامعات الاهلية والحكومية..الخ. تبدأ المشكلة صغيرة، تتجنب الحكومة الحديث عنها، وان طرحت بالاعلام يتم تسخيف الفكرة، والتقليل من شأنها وشأن كاتبها لكونه لا يهتم بالقضايا الكونية التي تشغل تفكير المواطن مثل الصعود الى القمر ومحاولات اكتشاف حرارة الشمس المتعامدة على العراق.
وانا اكتب هذا المقال أعلن عن قبول ترشيح وزراء الدفاع والداخلية والعدل، بعد طول انتظار وترقب، فيما بقيت وزارة التربية بدون وزير، وبعد الماراثون الطويل للحكومة سوف ينتقل البرلمان الى ملف الدرجات الخاصة، ليكمل دورة برلمانية كاملة بين تشكيل الكتلة الأكبر، وتشكيل الحكومة، والتصويت على الدرجات الخاصة وتعديل قانون الانتخابات، اما الاهتمام بالقوانين التي تنظم حياة المواطنين فهي مؤجلة الى حيث يشاء الله.
الدولة التي يعتكف قادتها وبرلمانها كل اربع سنوات من اجل اكمال الكابينة الوزارية وتحديد الوزراء ووكلاء الوزراء ورؤساء الجامعات وحتى مدراء البلديات، لا يمكن لها ان تحل مشاكلها الحقيقية، بل تقوم بتسخيف المشاكل الكبيرة، وتجعل الحديث عنها نوع من الترف الفكري. من يريد ان يعرف لماذا يستغرق تشكيل الحكومة كل هذا الوقت، فلينزل الى الأسواق والشوارع وسوف يكتشف ان غياب القانون وسوء الإدارة لا ينتجان دولة مهما كثرت الأحزاب السياسية التي تدعو للاصلاح.
اضف تعليق