كان يريد بـ ذلك استهداف وتخريب مقابر أولياء الله وهدم بيوتهم حذوًا بـ الملهم والمنظِّر الأكبر في التخريب والتدمير المتوكل العباسي. وكما كان الهدف سياسيًا عند المتوكل حينما استهدف ضريح الإمام الشهيد، كذلك كانت كلمة (الشرك) المزعوم عند ابن عبد الوهاب غطاءً دينيًا لهدفٍ سياسي...
ينقل المؤرخون؛ إن الخليفة العباسي هارون (٧٦٦ - ٨٠٩ م) كان من أوائل من قام باستهداف مقابر أولياء الله وذلك حينما أمر بقطع شجرة السدرة، التي كانت علامة على ضريح سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه في أرض الطف، (١) وكان يهدف لطمس مكان المرقد الطاهر، وتلاه بعد ذلك المتوكل (٨٤٧ــ٨٦٢ م)، حيث وسّع في عملية الهدم وتفنن في المحاولات من ؛ الحرث، وجري الماء، وتخريب البنيان، ومحو جميع الآثار، وقد كرر محاولاته لمدة عشرين عامًا، (٢) وكانت أشهر محاولاته؛ فتح قناة من نهر العلقمي باتجاه الضريح المقدّس، وذلك لمحوه بالكامل، وحينما توقف الماء في الأرض حيرانًا وأسلم أمره للسبط الشهيد سميت تلك البقعة الطاهرة بـ أرض الحائر.
من خلال دراسة تاريخ الدولة العباسية وتحديدًا دور المتوكل؛ يتجلّى بـ وضوح أن ثمة أهداف سياسية كانت وراء طمس المرقد الشريف، وذلك حينما رأى المتوكل وفود الزوار والحجاج يتجهون نحو نينوى، فخشي من آل أبي طالب والشيعة، ورأى انه من خلال استهداف رمز التشيع سيتمكن من اخماد المعارضة وسيستمر حكمه، هذا ناهيك عن حالة العداء والبغض الشديدين اللذان كان يكنّهما تجاه أهل البيت النبوي الطاهر.
ومن جهة أُخرى فإن اختيار هذا النوع من المواجهة - أي استهداف المقبرة- يستدعي أن نقف عند المكوِّنات النفسية والشخصية لدى المتوكل ومن قبله هارون العباسيين، فرغم أن العامل السياسي وحالة العداء لـ أهل البيت لا تقتصر على هذين الخليفتين فحسب، وإنما كان ذاك ديدن جميع الخلفاء السابقين لكن أيًا منهم لم يقم باتخاذ هذا الأسلوب، فـ المقابر كانت بعيدة عن مخططاتهم وكانوا يمارسون الأدوار التقليدية المعروفة في الاضطهاد؛ من الاغتيالات والاعتقالات وسائر فنون التعذيب والظلم بحق الأحياء.
صحيح ان استهداف الجثث الطواهر لم يكن ليبدأ بالعباسيين، فقد قطعت السدرة التي كانت تستظل تحتها السيدة الزهراء عليها السلام عند زيارة الشهداء وقبر عمها الحمزة، ثم أُخفي مكان قبرها الى اليوم وأُخفي قبر الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام لفترة من الزمن، كما مُنع الإمام الحسن عليه السلام من أن يدفن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم..
لكن طمس معالم القبر وتخريب الأضرحة المبنية عليها بذاك الشكل الواضح والصريح، كانت ميزة بارزة وخاصة باسم المتوكل العباسي بالذات.
من هنا فإننا حينما نبحث في شخصية المتوكل ونظام حكمه نرى بعض الصفات التي تمثل الجانب الأبرز لديه كـ الإفراط في التمسك بـ القشور والمظاهر والشكليات.
وفي هذا الصدد يقول الكاتب وأستاذ السياسة في جامعة القاهرة أحمد عبد ربه: "مع تولي الخليفة المتوكل، فإنَّ تاريخًا جديدًا قد بدأ في حياة المسلمين، تاريخًا مليئًا بالتدهور على كل المستويات، تدَهور العلم، وتدهورت الفلسفة وتدهور التعليم.. ولم تكن مشكلة المتوكل فقط أنه أضاع قيمة بيت الحكمة، أو أنه اضطهد المعتزلة، ولكن كانت مشكلته الكبرى أنه قضى على التفكير النقدي والفلسفة الإسلامية!، ودخل المسلمون عصرًا جديدًا حيث سادت خطب المنابر وتراجعت خطب العلم والعلماء وصار الخطاب الإسلامي نتاجًا لخطب الجمعة والتي كانت تعبيرًا عن التوازنات والحسابات السياسية القائمة في السلطة المسيطرة على الدولة أو المدينة التي تنطلق منها الخطبة، بعد أن كانت المعرفة الإسلامية نتاج البحث والعقل والنقد، ساد التشدد وانتشرت الخرافات، ودخلنا في عصر الأحاديث الموضوعة ولم يجرؤ خليفة ولا أمير ولا وزير أن يراجعها في وقتها رغم أن بعضها يتناقض مع القرآن ومع العدالة ومع سماحة الإسلام لكنه طالما اختفى التفكير سادت الخرافة وساد النصابون باسم الدين، والغريب أنه وحتى وقتنا هذا لا يوجد من يجرؤ على مواجهة هذه الفوضى في الأحاديث وإن وجد فإنه يتعرض للتشكيك والذم!..". (٣)
من خلال هذه المواصفات قد يستوعب المتابع؛ لماذا انفرد المتوكل في استهداف المقابر وجعلها وسيلة لإعلان مواقفه السياسية.
ثم ان هذه الحقبة المتوكلية أنتجت فردًا بـ خصائص أحمد بن حنبل (٧٨٠- ٨٥٥ م)، والذي تخصص أيضًا برؤى خدمت النظرية المتوكلية وأعطتها طابعًا دينيًا، ثم طوّر أحمد بن تيمية (١٢٦٣- ١٣٢٨ م) أفكار هذه المدرسة بالتركيز على تكفير كل من يعارض فكرهم، ومن بعده واصل محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر الميلادي عملية التطوير التي تمسكت بمقولة "الشرك" وتركت جميع المجالات العلمية والسياسية والدينية لتبقى كلمة (الشرك) عنوانًا لحركته، وكان يريد بـ ذلك استهداف وتخريب مقابر أولياء الله وهدم بيوتهم حذوًا بـ الملهم والمنظِّر الأكبر في التخريب والتدمير المتوكل العباسي.
وكما كان الهدف سياسيًا عند المتوكل حينما استهدف ضريح الإمام الشهيد، كذلك كانت كلمة (الشرك) المزعوم عند ابن عبد الوهاب غطاءً دينيًا لهدفٍ سياسي وهو إنشاء دولة وكسب الغنائم من ورائها، وجذب البسطاء تحت غطاء الدين..
وفي هذا الصدد ينقل المؤرخون: " المنتسبون إلى الحركة الوهابية كانوا ينتمون إلى المدرسة الدينية الحنبلية، أي إن الحاضرة النجدية كانت مجتمعًا حنبلي الهوى قبل أن يكون وهابي الحركة". (٤)
وبناءًا على ذلك؛ فإنَّ أمر (الدين) لم يكُ ليستدعي ظهور حركة جديدة، حيث كانت حياة الناس تسير بشكل طبيعي وفقًا للمذهب الحنبلي، إلا أن الطمع في الاستيلاء على السلطة قد أدى إلى اتفاقية عُرفت بـ (الدرعية) تمت بين محمد بن سعود آل مقرن أمير الدرعية ومؤسس الدولة السعودية الأولى ومحمد بن عبد الوهاب المنظّر الديني للدولة، وكانت مهمة هذا الأخير إنتاج الخطاب الديني ليشاركه مع شريكه في القرار السياسي، وكـ نتيجة هذه الشراكة ظهرت نظرية (الشرك) المزعومة، وتم توظيفها كـ آلية سياسية للوصول إلى السلطة. (٥)
ومن هنا تحوّلت مفردة "التوحيد" لا إلى معنى التوحيد في الأولوهية، وإنما إلى الإنضواء تحت لواء الدولة الجديدة وهو التوحيد السياسي. ولذلك فإن المدن التي رفضت الانضمام للدولة الجديدة وُصفت بـ الردة ووصف أهلوها بـ المرتدين رغم كونهم مسلمين!.(٦)
وفي هذا الصدد كتب ابن عبد الوهاب رسالة إلى أهالي مدينة شقراء يحذّرهم من عدم الانضمام إلى الدولة السعودية بأن لا يحذوا حذو مدينتي "حريملا" و"ضرما" اللتان انضمتا ثم انفصلتا فـ وصف سكانهما بـ "المرتدين". (٧)
وكذلك رسالته إلى أهل القصيم الذين دعاهم إلى معاداة وبغض أهالي مدينة الزلفي التي كانت لم تخضع بعد للدولة السعودية، وإلا سيكونون مشركين، وقد جاء في رسالته: "وأهل القصيم غارهم [أي أخذهم الغرور] أن ما عندهم قبب ولا سادات، ولكن أخبرهم.. ما داموا لا يبغضون أهل الزلفي، فلا ينفعهم ترك الشرك، ولا ينفعهم قول لا إله إلا الله.. إن كان ما أبغض أهله". (٨)
و هذه العبارة تدل بوضوح على أن كل من لم يخضع للدولة السعودية فهو مشرك حسب تصريح ابن عبدالوهاب، ومع أن (الشرك) مقولة دينية لكنها كـ مقولة التوحيد الذي مرّ ذكره طُرحت لأغراض سياسية..
ومما سبق يُلاحظ تطور السياسة المتوكلية عند الحركة الوهابية ثم المؤسسة السعودية واصطباغ الجميع بالصفات والمظاهر التي تميز بها عهد المتوكل من جهل وخرافة ووضع ونصب.
وعليه؛ فإنَّ السبب الكامن في استمرار تخريب آثار البقيع وسائر الأماكن المقدّسة في مكة والمدينة هو العامل السياسي وهو نفس السبب في مشروع التخريب على مر العصور، إلا ان الاستمرار في هذه السياسة لن يخدم الدولة السعودية بل على العكس سيجعل منها مرآة للجهل والتخلف، كما قد حصل سابقًا عندما استمروا في تخريب قبر سيد الشهداء عليه السلام ومنع توافد الزوار لم ينفع ذلك المتوكل فاضطر إلى تغيير سياسته وسمح بإعمار القبر الشريف في آخر الأمر تحت ضغط الرأي العام؛ فـ نادى المنادي: "من أراد زيارة الحسين عليه السلام فله الأمان طول الأزمان" (٩) وبسيطرة البويهيين على سلاطين العباسيين تغيرت سياسة الدولة وحلفائها تجاه المثوى الطاهر تمامًا، وبقي ذلك النضج في سلالتهم، وهجروا سياسة آبائهم العدائية تجاه تطوير البقعة الطاهرة. (١٠)
فلماذا لا تحذو السعودية هذا الحذو وتعيد المجد لسيرتها بأن تهجر سياسة الآباء العدائية تجاه البقيع المقدّس وتسمح بـ إعادة البناء والإعمار كدولة ناضجة متحضرة.. وفي حال لم تكفَّ عن مواصلة التخريب؛ فلم يبقَ سبب آخر غير أن يتجلى كـ الشمس؛ ان شدة العداوة والبغضاء لآل رسول الله صلَّى الله عليه وآله لدى الدولة الوهابية أشدّ مما كانت عليه عند المتوكل وغيره من الخلفاء السابقين، ويبدو أن التاريخ سيعيد نفسه فلا يزول هذا الجهل إلا بزوالهم، وبذلك تلقائيًا ستتوقف عملية التخريب ويبدأ الإعمار المقدّس.
اضف تعليق