غرقت البلاد بالتنظير، وهذا ما دفعها للغرق في بحر الفشل، والفشل ابن النظرية التي لا تتجاوز حدود الكتاب او اللسان المُعَطر بالشعارات البراقة، اصحاب الشعارات والخيال الواسع انتجوا لنا قوانين تجدها مشرعة لدولة على مستوى عالٍ من التقدم، لكن حينما تنزل للميدان تتبخر تلك القوانين امام الواقع...
كثيرا ما نسمع ان فلانا مثقفا فلماذا لا يتقلد منصبا رفيعا، او ان الوزير الفلاني الفعلي هو مثقف جدا ويجدر بالحكومة استنساخه او جلب الكثير ممن هم على شاكلته، تتداول هذه الاحاديث على السنة الناس، وتروج لها حاشية الوزير وما دونه، وكانها شهادة كفاءة في ادارة وزارته، او ادارة ملف الدولة كاملة في حال الحديث عن رئيس وزراء.
هل الثقافية العالية ومعها الشهادة العالية هي الطريق الوحيد لرفع المسؤول الحكومي الى سلم النجاح وتحقيق نتائج تصب في مصلحة الشعب؟ ربما نعم، وربما لا، فليس كل مثقف هو وزير ناجح، وليس كل صاحب شهادة بسيطة هو وزير فاشل، الواقع على ارض الميدان هو الذي يثبت نجاحه او فشله، فاذا كانت الدولة تعاني من مشكلة السكن، يقاس نجاح الوزير المسؤول عن هذه المهمة بحل ازمة السكن، واذا كانت وزارة التربية تعاني من نقص في المدارس يقاس نجاح وزيرها بالقضاء على المشكلة، ولا فضل لشخص يحمل شهادة الدكتوراه اذا فشل في تحقيق الإنجاز في ظل قلة التخصيصات المالية ومشاكل الفساد، فمنصبه وُجد لمواجهة هذه التحديات.
هكذا هي فكرة تسنم المناصب العليا في الدولة هي نوع من انواع القيادة، وتتطلب من صاحبها الخروج بانجاز جيد في وقت محدد وموارد محدودة وبغض النظر عن التحديات، لان جميع الاعمال فيها تحديات، وخطوات الوزير العملية القابلة للتطبيق هي التي تجلب الانجاز، اما من يتحدث بالنظريات العلمية فقد يكون كلامه جميلا لانه اقرب للخيال، او لانه يتناسى التحديات من اجل خلق جو رومانسي، والمثقف او صاحب الشهادة العليا يحمل الكثير من الافكار التنظيرية، لذلك يكون كلامه جميلا وتتمنى لو انه يقود العراق الدهر كله، فالخيال الممزوج بقليل من الشعارات الوطنية يجعل الشخص مطلوبا في كل مكان، فهذا الشخص المثقف، قد لا يستطيع تحويل نظرية واحدة من نظرياته الى واقع، وكلامه شبيه بافلام سبايدر مان المنقذ.
كان احد الوزراء في حكومة حيدر العبادي احد افضل المتحدثين، يستطيع التغلب على المسؤولين العرب في خطاباته، يتحدث وكانه استاذ للتاريخ والجغرافيا والمنطق والفلسفة وما بينها الفيزياء والكيمياء، لكن على ارض الواقع لا تختلف وزارته عن الاخريات، وانجازاته لا تتعدى الترقيع المعتاد، من جانب اخر برز وزير الشباب والرياضة وهو يحمل شهادة البكلوريوس فقط، حقق إنجازات واضحة في اصعب الظروف التي مر بها البلد وهي الحرب على داعش مع قلة التخصيصات المالية (قد يقول قائل انه اكمل مشاريع من سبقه، وهذا بحد ذاته عمل رائع لانه يكمل ولا يهدم).
الادارة مثل قيادة السيارة، فالسير في الشوارع العراقية من اكبر التحديات، ولا تنفع هنا النظريات الفلسفية ولا الكلام الجميل، تحدث لي عن الشخص الذي يتجاوز كل هذه المعوقات، وهذا ما يفعله سائق سيارة اجرة لا يملك شهادة الابتدائية، واذا تحدث تجد كلامه غير مترابط ولا يستأهل ان تنصت له، هذا يهم، انه ليس خطيبا بس سائق اجرة، ووظيفته ان يوصلك للمكان المحدد، والحال ينطبق على الوزير، فهو ليس خطيبا بقدر ما هو مدير يوزع المهام ويخطط ويبني المشاريع لوزارته.
الوزير الحقيقي تجد كلامه قليلا، وفي اغلب الاحيان يكون بسيطا ولا يتحذلق او يُنَظّر كثيرا، يتحدث عن مشاكل وزارته واهم الوسائل اللازم لتجاوزها، ويطلب من موظفيه تقديم المقترحات الافضل للمساهمة في ايجاد الحلول، وما يحتاجه العراق ليس ذلك المنظر العظيم، انما هو الشخص الذي يركز على الاشياء الصغيرة والكبيرة في مؤسسته او وزارته، ليجد الحلول.
غرقت البلاد بالتنظير، وهذا ما دفعها للغرق في بحر الفشل، والفشل ابن النظرية التي لا تتجاوز حدود الكتاب او اللسان المُعَطر بالشعارات البراقة.
اصحاب الشعارات والخيال الواسع انتجوا لنا قوانين تجدها مشرعة لدولة على مستوى عالٍ من التقدم، لكن حينما تنزل للميدان تتبخر تلك القوانين امام الواقع، فمن شرعها اناس لا علاقة لهم بالحياة العامة، واوكلوا مهمة تطبيقها الى اناس لا يعرفون من الواقع سوى توبيخ المواطن، واتهامه بقلة الوعي.
وما بين المُشَرّع المنعزل عن واقعه، والوزير المثقف يقبع هناك فشل كبير من شمال العراق الى جنوبه، فشل لَبس ربطة عنق انيقة، وحلق ذقنه جيدا، وجلب مستشارا يكتب خطابات محبوكة على شاكلة أفلام هوليود، فركضت الجميلات لتلتقط مع الصور، وبات موضع حسد اقرانه الرجال، هذه هي إنجازات الوزير المثقف.
اضف تعليق