ولعلّ الشباب المتمرد الطامح إلى التغيير المدني، السلمي، الرافض للشرعيات القديمة، والباحث عن شرعيات جديدة أخذ يدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بفشل التجارب العنفية وانتشار الفوضى وتشظي المجتمعات وانقسامها، أن إنجاز عملية التغيير تحتاج إلى كفاح سلمي وتراكم طويل الأمد، باستخدام جميع الوسائل اللاعنفية...

من الحقائق الجديدة التي أفرزتها حركة الاحتجاج الواسعة التي شهدها العالم العربي، هي إمكانية التغيير بواسطة المقاومة اللاعنفية، أي بالوسائل السلمية الطويلة الأمد إلى أن تستجيب الحكومات للإرادات الشعبية، فتتنحّى أو تستقيل أو تجد فرصة مناسبة للتسوية السياسية والانتقال من طور نظام شمولي أو استبدادي أو فردي إلى نظام جديد عبر التحوّل الديمقراطي، كما حصل في أوروبا الشرقية، خصوصاً في بولونيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الديمقراطية، وإن اتخذ التغيير طابعاً عنفياً في رومانيا ويوغسلافيا لاحقاً، لكن التغيير كان في العديد من البلدان قد حصل عبر الكفاح السلمي، اللاعنفي.

ولعلّ الشباب المتمرد الطامح إلى التغيير المدني، السلمي، الرافض للشرعيات القديمة، والباحث عن "شرعيات جديدة" أخذ يدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بفشل التجارب العنفية وانتشار الفوضى وتشظي المجتمعات وانقسامها، أن إنجاز عملية التغيير تحتاج إلى كفاح سلمي وتراكم طويل الأمد، باستخدام جميع الوسائل اللاعنفية، حيث ستضطر الحكومات في نهاية المطاف، مرغمة ومضطرة إلى الاستجابة، بتجاوزها أو انزياحها عن مواقعها.

وتلك إحدى ثمرات موجة التغيير التي ابتدأت في أوروبا الغربية، خصوصاً بانتهاء الاستعصاء في البرتغال وإسبانيا واليونان في أواسط السبعينات، ثم في أواخر الثمانينات في أوروبا الشرقية وبعض أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، وكان من المؤمل أن تصل موجة التغيير إلى العالم العربي، لكنها انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط، لأسباب تتعلق بمصالح القوى الدولية من جهة، وعدم نضج أدوات التغيير حينها من جهة، على الرغم من التضحيات الكبيرة التي قدّمتها شعوب المنطقة.

لقد أدركت الكثير من النخب بسليقتها الثورية ورغبتها الحقيقية في التغيير أن طريق العنف لن يوصلها إلى أهدافها المرجوّة، فالعنف يولد العنف، وعنفان لا يوصلان إلى السلام، خصوصاً بما يعتمل من ردود أفعال وتأثيرات لاحتمالات تجدّد العنف وضياع المنجزات وتهديد كيانية الدولة واندلاع حروب أهلية، كما أن رذيلتين لا تنجبان فضيلة، ولكن كيف السبيل للوصول إلى ذلك؟ الأمر يحتاج دائماً إلى مبادرات جسورة وشجاعة، لتبنّي الجديد من خيارات التغيير، خصوصاً أن خيارات التغيير بالعنف ارتدّت على أعقابها في الكثير من النماذج، وعانت مجتمعات العنف ردود أفعال وأمراضاً اجتماعية ونفسية حادة، عادت بها القهقرى بعد سنوات طوال من ضياع فرص التنمية.

وإذا كانت ثقافة العنف هي القاعدة السائدة على مدى التاريخ، فإن ثقافة اللاعنف تحتاج إلى بناء طويل الأمد، لنقضها، واعتماد الأخيرة بديلاً عنها. ولا بدّ من وجود دعاة لها، مؤمنين برسالتها، بحيث تتحوّل القوة الكامنة في الإنسان من العنف إلى اللاعنف، ومن الاستخدام الخشن إلى الاستخدام الناعم، بحيث يمكن للاعنف أن ينتصر على العنف، داخل الإنسان أولاً ومع الآخر ثانياً.

يقول بوذا: إذا رددنا على الحقد بالحقد، فمتى سينتهي الحقد؟ وذلك هو جوهر الفلسفة اللاعنفية التي اتبعها المهاتما غاندي، فعبر مقاومته اللاعنفية استطاع الانتصار على أعتى امبريالية في زمانه، وتمكّن من تمريغ هيبة بريطانيا العظمى بالوحل، وهكذا حرّر بلاده بوسائل سلمية وبأقل خسائر بشائرية، مُحرزاً استقلالها، واضعاً إيّاها منذ ذلك الحين، العام 1948 على طريق الديمقراطية والتعددية والتسامح والتعايش وقبول الآخر. ولهذا لم يكن عبثاً أن يردّد غاندي مفهومه للتسامح على نحو واقعي بقوله: لا أحبّذ التسامح، لكني لم أجد وسيلة أفضل منه.

وإذا كان نيلسون مانديلا رمز التسامح والتسامي على جراحه ورفضه للانتقام والثأر، فإنه حسب قوله لا يريد أن يعيش في الماضي، وهكذا تمكّن من تقديم تجربة نموذجية للعالم، فخطت جنوب إفريقيا بعد انتخابات تاريخية لكل الأعراق والأقوام واللغات والسلالات، نحو التسامح والعيش المشترك والتطور الحضاري والتواصل الإنساني، وأصبح مانديلا رمزاً راهناً ومستقبلياً لفكرة اللاعنف والتسامح، خصوصاً وقد جرّب الأولى، لكنه انحاز إلى الثانية وتمسّك بها مكتشفاً جدواها الإنساني الباهر، وقدّم بلاده كمصدر إلهام للاعنف والتسامح والعدالة، في مواجهة التاريخ العنفي، العنصري، الظالم لأغلبية شعب جنوب إفريقيا.

لقد ربط عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة قبل أكثر من سبعة قرون بين الظلم والخراب، مثلما ربط بين العدل والمساواة والعمران، ولا يأتي ذلك إلاّ باعتماد السلم وسيلة للتغيير والتراكم والبناء.

إن خيار اللاعنف هو خيار الوعي الإنساني الحضاري الراقي، ضد سلطة العنف التي تمثل الإكراه والقسوة، في حين يُفترض بسلطة الحق أن تكون العقل والضمير، واللاعنف، حسب جين شارب كبير باحثي مؤسسة البريت اينشتاين في بوسطن، هو ممارسة حضارية تفرض على الجهة التي تعتمدها حل مشكلاتها وصراعاتها مع الآخرين، بانتهاج أساليب إنسانية سلمية.

ويحتاج طريق اللاعنف إلى شجاعة عالية وطاقة كبيرة في الرد على العنف، بالمقاومة السلمية، وإذا كانت هناك أهداف إنسانية نبيلة، فلابد أن تكون الوسيلة إنسانية ونبيلة أيضاً، هكذا تتماهى الغاية مع الوسيلة، وهما كالبذرة للشجرة على حد تعبير غاندي، الأمر الذي يحتاج فيه المرء إلى مران طويل ومغالبة للنفس ورياضة روحية عقلية ونفسية لإعادة بناء ذات الإنسان ولإقناعها بخيار اللاعنف، تارة بالقول لا لعنف الآخرين وأخرى لا لعنف الذات، وبالطبع فإنه يحتاج إلى تربية وتنشئة طويلة ليس أقل منها ما بذله مربٍ كبير هو كومنسكي التشيكي لإعادة إحياء وبناء اللغة التشيكية الجديدة منذ أكثر من ثلاثة عقود.

إن مناسبة الحديث عن "حضرة اللاعنف" هو التكريم ذات اللمسة الإنسانية الذي نظمته جامعة اللاعنف، لشخصية اجتماعية متميّزة، انتقلت من القناعة بالعنف إلى الإيمان باللاعنف، هكذا بدأ حديثه موسى فريجي بتواضع الكبار ليقول: إن هزيمة العام 1967 دفعته للتفكير بجميع الوسائل للردّ عليها، بالعنف وبغيره، عبر دعمه لمنظمات المقاومة الفلسطينية منذ وقت مبكر، ولردّ العنف بالعنف، ولكن التحوّل في حياته حصل، حينما تعرّف إلى المفكّرة التربوية أوغاريت يونان والمفكر اللاعنفي وليد صليبي (رئيسا جامعة اللاعنف)، فبدأت مسيرة حياته تتجه من تأييد العنف لاسترداد الحقوق إلى اللاعنف، الوسيلة التي وجدها أكثر نجاعة للدفاع عن الحقوق، هكذا كانت معاناته الأولى من خلال التفكير بمقاومة الاحتلال "الإسرائيلي" وتحرير فلسطين، ولكن هذه المرّة باللاعنف، ودليله العملي هو انتفاضة الحجارة الجبارة التي أقلقت "إسرائيل" وفنّدت الكثير من حججها على المستوى العالمي.

دوائر ثلاث كانت تشغل موسى فريجي رجل الاقتصاد والسياسة والنشاط الإنساني، الدائرة الأولى- هي كيف يجسّد المقاومة اللاعنفية، في مواجهة كل تراث "إسرائيل" العنفي المنفلت من عقاله، وهو سؤال كبير ويحتاج إلى زمن للإجابة عنه، لكنه اقتنع به وعمل من أجله، ولهذا فهو موجود في جامعة اللاعنف لنشر هذه الثقافة، وتعميمها لخلق جيل لا عنفي في مواجهة العنف، وقد قدّم على هذا الصعيد عصارة خبرته وجهده وماله لهذا المولود.

والدائرة الثانية- إيمانه بالتسامح، وهذا يعني عدم التمييز والاعتراف بالآخر واعتماد التنوّع والتعددية والدفاع عن الحقوق، بل والتمسك بها، وليس كما تذهب الفكرة الدارجة عنه التي تتصوره نوعاً من المساومة والتخاذل والعفو عن الارتكاب.

والدائرة الثالثة- هي المشترك الإنساني، الذي آمن به والذي عبّر من خلاله عن قناعاته بالمساواة بين البشر بغض النظر عن دينهم وطوائفهم وقومياتهم وأفكارهم وجنسهم ولغتهم ولونهم وانحدارهم الاجتماعي.

"حضرة اللاعنف" المصغّرة شهدت أمسية ضمت 25 شخصية من المثقفين من بلدان مختلفة، جمعهم هدف نشر ثقافة اللاعنف، بينهم سفيرة إسبانيا وسفير إيطاليا ووزراء ومفكرون وأكاديميون من لبنان، نساء ورجالاً، وكان مسك الختام فيها أغنية "شو حلو لمّا نحب"، للفنان أحمد قعبور، لحّنها وألف كلماتها، خصيصاً لدعم فلسفة اللاعنف، لما شهده لبنان والعالم العربي من عنف لا ضفاف له.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق