بعد أن أريقت دماء حوالي مائة انسان مسلم في مسجد النور بنيوزلندا، وسقطوا بين شهيد وجريح، سارعت وسائل الاعلام العالمية الى فصل الرجل الارهابي عن أي ارتباط سياسي او قومي متطرف، والقول بانه مندفع من ذات نفسه، وانه يحمل كراهية وحقداً للمسلمين لتأثره بتيار اليمين المتطرف...
بعد أن أريقت دماء حوالي مائة انسان مسلم في مسجد النور بنيوزلندا، وسقطوا بين شهيد وجريح، سارعت وسائل الاعلام العالمية الى فصل الرجل الارهابي عن أي ارتباط سياسي او قومي متطرف، والقول بانه مندفع من ذات نفسه، وانه يحمل كراهية وحقداً للمسلمين لتأثره بتيار اليمين المتطرف السائد في الغرب، علماً ان المسلمين في هذه الجزيرة الوادعة أقصى الشرق، لا يكاد يُذكروا في وسائل الاعلام العالمية، بل حتى في وسائل اعلامنا "الاسلامية"، فيما يلاحظ النشاط الكبير والواسع الابعاد للمسلمين في استراليا المجاورة، بيد أن الاختيار وقع على الحلقة الأضعف.
ولكن؛ هل تضيع جذور الكراهية والحقد التي غذت المهاجم بهذه السهولة، وربما تغذي اشخاصاً كُثر آخرين، ربما ينتظرون الوقت المناسب لتنفيذ الأومر؟
القضية تتعلق بايديولوجيا متطرفة يراد ان تكون رأس حربة لمواجهة تنامي الوجود الاسلامي في الغرب بشكل خاص.
لقد شهدت اوربا في الاونة الاخيرة بروز هذه الايديولوجيا من تحت رداء الاحزاب السياسية الموسومة باليمين المتطرف، والتي تكن العداء للجاليات الاسلامية، وتسعى للحد من الهجرة، وممارسة الضغوط عليهم بذريعة "الاندماج"، بيد ان الجديد في الأمر أن هذا اليمين المتطرف ليس محدوداً بدول مثل المانيا وايطاليا وهولندا وفرنسا، وحتى الولايات المتحدة، وانما وصل الى أقصى نقطة في العالم ليغذّي رجلاً بشحنات عالية من الكراهية والحقد الى درجة تجعله يستسهل ارتكاب تلك المجزرة المروعة وبدم بارد.
ما يطلق عليه اليوم بالتيار الشعبوي في الغرب، او اليمين الشعبوي، او غيرها من المصطلحات المستحدثة، ربما يكون استعارة جائرة لمفردة الشعب، او الشعوب، فمن يقول أن الشعوب في اوربا واميركا واستراليا تؤمن بافكار معادية للمسلمين؟ انما المطلوب ان يتحول المصطلح الى شعار عالمي يؤلب على المسلمين ويجعلهم مستهدفين في كل مكان وزمان، وقد أسهم الاعلام الغربي العالمي، في تكريس الصورة النمطية غير الصحيحة للعلاقة بين الجاليات المسلمة والبلاد الغربية التي يقيمون فيها، بانها تحمل كل اشكال التنافر والتناقض، ولا مجال للتعايش بسلام.
وهذا ما ينظر له رجلٌ قادم من اميركا جرّب العمل السياسي بمعية دونالد ترامب، وقبلها كان المستشار الاعلامي لحملته الانتخابية، وبعد فوز الاخير في الانتخابات الرئاسية، جعله من المقربين جداً، ليكون "كبير المسشارين" للرئيس الاميركي في البيت الابيض.
فيلسوف التطرف والعنصرية الجديدة في الغرب
ستيف بانون؛ هذا الرجل الاعلامي المؤدلج على التطرف ومعاداة المسلمين في الغرب، أمضى حوالي عام في البيت الابيض الى جانب ترامب، وقبل ان يترك منصبه في ظل خلافات بينه وبين منافسيه من مستشارين ومقربين آخرين، ترك بصماته العميقة في فكر الرئيس الاميركي المبرمج هو الآخر على أفكار عنصرية قائمة على المادية البحتة، كونه قادم من عالم المال، وليس من عالم السياسة والتعاطي السلمي مع قضايا دولية مشتركة، وفي حوار لبانون مع مجلة "نيويوركر" وصفته بانه "فيلسوف ترامب وعقله المفكّر"، وفي كتاب "نارٌ وغضب" لمؤلفه؛ مايكل وولف، والذي تضمن تفاصيل مثيرة عن المشروع السياسي لترامب في البيت الابيض ودور بانون في فوزه بالانتخابات، جاء عن افكار بانون بانه "كان يرى أن على أمريكا أن تدخل في عزلة دولية، لتحافظ على مواردها وهويتها، وكان هذا جنوناً في نظر الجميع ما عدا ترامب واليمين المتطرف، أمّا بانون فقد رأى في كلامه فكرة ثورية ودينية".
وقد كثر اللغط حول علاقة بانون بالرئيس الاميركي، وايضاً علاقته بطاقم المستشارين في البيت الابيض، وراحت وسائل الاعلام الاميركية وغيرها تركز على هذه الخلافات التي ربما تحصل في أي طاقم حكومي بالعالم، عازين هذه الخلافات الى سبب استقالة بانون من منصبه في البيت الابيض، بيد أن الاخير وبعد استقالته لم يذهب الى بيته او يبحث لنفسه عن فرصة عمل أخرى، كما يفعل سائر المسؤولون والمستشارون في الادرات السابقة، كأن نراهم يعودون الى قاعات التدريس في الجامعات، او يستأنفون اعمالهم الادارية في شركات تجارية كبرى بعد ان تركوها لخدمة البيت الابيض، بيد أن هذا المنظّر للتطرف العنصري، لم يفعل ذلك، انما توجه فور مغادرته البيت الابيض الى اوربا للبحث عن بقاع خصبة لنشر افكاره المتطرفة، مثل فرنسا وايطاليا والمانيا وبلجيكا، وليعقد هناك ندوات مفتوحة ولقاءات ومحاضرات يعلن فيها جهاراً أن "العودة الى الهوية القومية هو السبيل الى النهوض الجديد في بلاد الغرب"، كما جاء في حوار مطول له مع مجلة نيويوركر الاميركية.
ومن البقاع الخصبة التي زارها بانون؛ جمهورية البوسنة والهرسك، ليلتقي هناك بالأقلية الصربية في هذه الجمهورية ذات الاغلبية المسلمة التي نزفت بشدة بسبب المجازر الرهيبة التي ارتكبتها هذه الأقلية عام 1992 بدعم ورعاية مباشرة من جمهورية الصرب (الأم)، فواجهت هذه الجمهورية الفتية في أول ايام تشكلها حرب إبادةٍ مريعة ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين امام أنظار العالم بأسره، وبعد مضي كل هذه الفترة على حرب الابادة الوحشية، يأتي هذا الرجل ليثير غبار الكراهية والتطرف القومي، كما لو يريد القول بان المساعي الدبلوماسية والحلول السلمية والتعايش والتسامح وغيرها من المفاهيم الايجابية البناءة ليست ذي فائدة لاصحاب الارض المهددين في هويتهم وثقافتهم –حسب تصوره- من قبل المسلمين.
يبقى السؤال المحيّر؛ ما الذي يدفع بانون او غيره لأن يشمّر عن ساعد التطرف ويمتشق العداء للمسلمين؟
اذا نبعد الممارسات غير الحضارية لبعض المسلمين والتي هي أقرب الى جاهلية الجزيرة العربية، منها الى الحضارة الاسلامية التي يعرفها أهل العالم، فان صورة الاسلام، وسلوك المسلمين في كل مكان بالعالم، لاسيما في بلاد الغرب، ربما تكون من أروع صور الاجتماع النزيه والمسالم، العاكف دوماً على الاسهام في تقدم وتطوير وخدمة البلاد التي يقيمون عليها، ولعل الوجود الشيعي المتزايد في بعض البلاد الغربية، لاسيما بريطانيا واميركا واستراليا، ودول اوربية اخرى، يكون عاملاً مساعداً في تقديم مصاديق عملية لمفاهيم وقيم اخلاقية وانسانية من خلال المعاشرة اليومية والتعامل في ميادين شتّى.
فوبيا (رعب) القيم والتقاليد
ربما يقفز في ذهن القارئ الكريم مشاهد التضامن والدموع والشموع من النساء والاطفال وعشرات المواطنين في نيوزلندا، وحتى العرسان وهم يمران من امام مسجد، وغيرها من مشاهد التضامن مع ضحايا المجزرة، واستنكارهم الشديد لما حصل، وهو أمر حسن لاشك، بيد أن الواضح ايضاً؛ حصول مثل هكذا مواقف مع قضايا عدّة في الغرب، حيث يخرج المئات في الشوارع لتأييد قانون حظر الاجهاض، وفي جانب آخر، ربما نرى حشوداً أخرى في الشوارع تطالب بحقوق المثليين، او تظاهرات ضد المشاركة في حرب خارج الحدود، مما يبين التفاعل العاطفي لهذه الشعوب مع قضايا انسانية مهما كانت، وعلى نفس هذه الوتيرة يعزف المتطرفون والمعادون للاسلام، حيث يشيرون الى تهديد ماحق للحالة الانسانية من هذه الجالية، مستغلين صور نمطية وأمثلة لحالات خارجة عن الذوق العام والعقل والمنطق، لعل أبرزها مسألة النقاب والإصرار عليه كنوع من الحجاب من قبل بعض الجهات المحسوبة على الجالية الاسلامية، او أداء الصلاة في الشوارع والطرقات لمجرد حلول موعد الصلاة، او غيرها من الممارسات.
الحديث عن القيم الغربية ليس جديداً، إنما بدأ مع الايام الاولى من الحرب الاميركية على الشرق الاوسط التي انطلقت بعد أحداث 11ايلول عام 2001، وفيما كانت الطائرات الاميركية تقصف مواقع طالبان في افغانستان، كان الرئيس الاميركي جورج بوش يتحدث الى الشعب الاميركي والى المجتمع الغربي بشكل عام عن مخاطر تهديد التقاليد والثقافة الغربية من قبل من يصفهم بالجماعات الاسلامية المتطرفة، علماً أن في عام 2001 لم تكن لهذه الجماعات ولا المؤسسات الثقافية المنتشرة في البلاد الغربية، ومن الطوائف كافة، أي تهديد، او محاولة اختراق للثقافة الغربية وتقاليد الشعوب، سوى البحث عن سبل العيش الآمن والكريم مع الاحتفاظ بثقافتهم الاسلامية.
بيد ان الحرص على هذه الثقافة، وعدم التنازل للثقافة الغربية بالكامل، تحت شعار "الاندماج" هو الذي يجعل قوى متطرفة واشخاص مثل بانون وغيره، لأن يحمل لواء محاربة الجاليات المسلمة، وايضاً فتح الابواب امام المهاجرين من البلاد الاسلامية.
ولذا فان بانون المنظّر، والرجل المنفذ لمجزرة مسجد النور في نيوزلندا، ما هُم إلا رموز قابلة للتكرار في أي لحظة مادامت الاخطاء والسقطات تتكرر هنا وهناك، وإن كانت صغيرة ونعدها تصرفات فردية، فهي في عيون المتربصين الدوائر، مبررات تكفيهم لشن حملات تشكيك واتهامات مسيئة، ثم التعرض لحياة المسلمين ولكرامتهم بشكل مباشر، علماً إنه ليس من المعقول التفكير في الحدّ من تعرض المساجد والمؤسسات وأماكن تواجد المسلمين لهجوم المعارضين، لأن هكذا حوادث تحصل حتى في بلادنا الاسلامية –والشيعية ايضاً- لسبب أو لآخر، إنما المهم صناعة الصورة الذهنية الحسنة والحقيقية للإسلام في اذهان المواطن الغربي في كل مكان.
اضف تعليق