الدول الحديثة أصبحت تعتمد في قدراتها العسكرية على المعلومات الاستخباراتية التي تقوم بها الأجهزة الأمنية والمخابراتية والتي تمتاز في الخطورة والمجازفة من حيث مدى القدرة التي تتناسب وتتفاعل مع القرار السياسي والعسكري على الصعيدين المحلي والدولي، وكذلك تعتمد على تطور المنظومة الاستخباراتية وكفاءة رجالها من...
يُعد مفهوم الأمن حقيقة متغيرة تبعاً لظروف الزمان والمكان، ووفقاً لاعتبارات داخلية وخارجية، فهو ليس مفهوماً جامداً، بل هو مفهوم ديناميكي يتطور بتطور الظروف، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأوضاع والمعطيات المحلية والإقليمية والدولية، فالأمن يمثل حالة حركية (ديناميكية) مركبة لا تتصف بالجمود. ويرتكز مفهوم الأمن عموماً على ثلاثة محاور رئيسة يأتي في مقدمتها تأمين كيان الدولة داخلياً وخارجياً إلى جانب تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن تحقيق الرضا التام لأفراد المجتمع.
إن الدول الحديثة أصبحت تعتمد في قدراتها العسكرية على المعلومات الاستخباراتية التي تقوم بها الأجهزة الأمنية والمخابراتية والتي تمتاز في الخطورة والمجازفة من حيث مدى القدرة التي تتناسب وتتفاعل مع القرار السياسي والعسكري على الصعيدين المحلي والدولي، وكذلك تعتمد على تطور المنظومة الاستخباراتية وكفاءة رجالها من خلال قدرتهم الفائقة والسريعة على التحليل والتنسيق وكذلك اعتمادها على مختلف العلوم كعلم النفس الجنائي، والعلوم السياسية، والعلوم الاقتصادية، وعلم النفس الاستخباري، وتفاعل هذه العلوم للمساعدة في تحقيق وتهيئة بيئة أمنية محكمة وسد الثغرات الأمنية ومكافحة التجسس في القوات المسلحة وتحقيق الأمن العام وحماية الوطن.
وفي هذا السياق، يشكل الأمن الوطني العراقي مطلباً على درجة عالية من الأهمية إلى جانب حرية التعبير والرفاه الاقتصادي، وهو ما يستدعي اتخاذ كافة الإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية لديمومة الأمن الوطني، ويُعد الجهد الاستخباري والحصول على المعلومة الاستخبارية في مقدمة تلك التدابير والإجراءات لتعزيز الأمن والاستقرار الداخلي.
فمن الواضح، أن الدول تعتمد في سبيل تعزيز أمنها الوطني آليات ووسائل متعددة، تختلف من دولة إلى أخرى، تبعاً لحجم أهدافها ومصالحها السياسية وتبعاً لمواردها الاقتصادية ومدى جاهزية قواتها الأمنية وحجمها الفعلي. فالتحديات والتهديدات الداخلية والإقليمية التي تعرض لها العراق بعد عام 2003 تستدعي اتخاذ جملة من الآليات من أجل تعزيز أمنه الوطني، مع أهمية تعدد وتنوع تلك الآليات لكي تكون متوائمة مع حجم التنوع في العراق اجتماعياً وسياسياً، وحجم وتأريخ العراق وحجم موارده، وحجم التهديدات التي تقف بوجهه، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم عسكرية.
إن طبيعة التداعيات والظروف التي شهدها العراق كان لها انعكاسات على القوات الأمنية بصورة عامة والجيش العراقي بصورة خاصة، ولا سيما في مجال توفير الأسلحة والمعدات الحديثة وفقاً لما تقتضيه طبيعة العمليات العسكرية في العراق ضد الارهاب والتنظيمات المتطرفة، سيما وأن الجيش العراقي والأجهزة الأمنية الأخرى تواجه نوعاً جديداً من التهديدات والمخاطر التي تختلف عن التهديدات التقليدية التي عرفتها الدول، مما يستدعي معالجة المواقف وسد الثغرات بالشكل الذي يعيد الأمن والأمان والاستقرار للمواطن العراقي.
وعليه، وبسبب الخصوصية الجيوسياسية التي يجسدها الوضع الاقليمي للعراق، كان الهاجس الأمني معبراً عن الاستثنائية في درجة تحسسه للأوضاع المحيطة به باتخاذ التدابير والسياسات لضمان مستويات مقبولة من الاحساس بالأمن والاستقرار وبما يعزز من مستلزمات التماسك والتضامن الاجتماعي والحفاظ على الكيان الذاتي للدولة، وهو ما يستلزم النهوض بعمل المنظومة الأمنية والعسكرية والتي تعد هي الأساس في حماية ودعم الأمن الوطني العراقي من خلال تطوير وتفعيل الجهد الاستخباري.
ولا شك فإن معطيات البيئة الداخلية والخارجية التي واجهت الدولة العراقية لا سيما بعد عام 2003، وما تعرض له العراق من تهديدات وصلت إلى تهديد وجود الدولة ككيان بعد احداث حزيران 2014 وبروز تنظيم داعش الإرهابي، فرضت تحديات وتهديدات أثرت وتؤثر بشكل مباشر في الأمن الوطني العراقي، مما يفرض على صانع القرار ضرورة فهم هذه المعطيات وتحليلها عند رسم السياسات وصياغتها سواء كان ذلك على مستوى السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية. وهو ما يجعل الجهد الاستخباري الوسيلة الرئيسة التي تعتمد عليها القيادة السياسية في صناعة وإعداد القرارات المتعلقة بالأمن الوطني. سيما وأن نظرية الاستخبارات الحديثة أصبحت تقوم على أساس المراحل التعددية للأجهزة الأمنية والاستخبارية والبحثية لغرض خلق حالة من التنافس فيما بينها لدعم الأمن الوطني وللتقليل من احتمالات المباغتة التي يمكن أن تتعرض لها الدولة فضلاً عن بناء أجهزة متعددة تقوم على أساس التخصص في المهام والعمل.
ومن ناحية أخرى، فإن الأعمال الإرهابية التي شهدها العراق على مدى السنوات الأخيرة جعلت أجهزة الاستخبارات أمام مسؤولية وطنية كبيرة في مواجهة التحديات الأمنية التي تعرض أمن البلاد للخطر، والتي ستكون لها انعكاسات على الشأن الداخلي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وامنياً.
فطبيعة التهديدات الارهابية والتحديات التي تواجه الأمن الوطني العراقي والتي انتجتها المتغيرات الدولية والاقليمية بعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، تبرز أهمية الجهد الاستخباري أو ما يسمى أيضاً بالمعلومة الاستباقية في معارك القوات الأمنية العراقية في مواجهة التنظيمات الارهابية المسلحة، وهو ما يعني أن منظومة العمل في مجال الجهد الاستخباراتي في العراق تحتاج إلى تنسيق وتوحيد في الجهود مع أهمية الإعتماد على تعاون المواطنين في توصيل المعلومة الدقيقة الأمر الذي يتطلب زيادة العناصر الأمنية المدربة في هذا الجانب، وكذلك استيراد المعدات الحديثة التي تستخدم في هذا المجال، وهي من العوامل الرئيسة في تنشيط العمل الاستخباري لألقاء القبض على الإرهابيين وعلى كل من تسول له نفسه أن يعبث بأمن العراق. فضلاً عن ضرورة اعتماد الخطط العسكرية السريعة التي تتلائم مع مراحل القتال وأهمية توفير كافة مستلزمات نجاح المعركة للقطاعات الأمنية.
وعليه، وفي إطار مواجهة مصادر التهديد الجديدة التي أصبحت تواجه الأمن الوطني العراقي، فمن الضروري اعتماد أجهزة الاستخبارات العراقية في المستقبل على استراتيجية الدفاع بـ(العمق الإقليمي) التي تهدف إلى كسر مصدات الأجهزة والمنظمات الداعمة لنشاطات التنظيمات الإرهابية في العمق الوطني، فمبدأ الدفاع في العمق هو استراتيجية يمكن وصفها بأنها الأنضج والأصلح لأداء مؤسسات الاستخبارات العراقية من خلال تفعيل نشاطاتها وتقليل جوانب ضعفها.
ومن دون شك أن أي إخفاق يشوب عمل هذه الأجهزة هو انعكاس سلبي يعصف بديمومة البيئة الأمنية في العمق الاستراتيجي الوطني للعراق. فضلاً عن إعادة النظر بأسلوب الإدارة والأداء لمختلف الأجهزة الاستخبارية نتيجة الحاجة الملحة إلى دور فعال لهذه الأجهزة تماشياً مع حجم التهديد الاستخباراتي والأمني الذي يواجه الأمن الداخلي.
لذلك لابد من العمل على تطوير المنظومة الاستخباراتية ودعمها كونها تعد من أهم أولويات نجاح وتفعيل المنظومة الأمنية -العسكرية، ويتم ذلك من خلال عدة آليات لعل أهمها:
- تعزيز الجهد الاستخباري من خلال الاعتماد على المصادر العسكرية والأمنية التي تقدم المعلومة الدقيقة وفي الوقت المناسب وبما يساعد في مكافحة الاختراقات المعادية.
- رفع كفاءة الأجهزة الاستخبارية من خلال تطوير منظومة تأهيل وتدريب تشمل إعداد كوادر القيادة المؤهلة والتدريب على احترام حقوق الإنسان.
- زيادة التنسيق والتعاون مع أجهزة استخبارات الدول الحليفة والصديقة والمنظمات الدولية لا سيما في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
- تطوير المنظومة الاستخبارية ودعمها بالكفاءات البشرية المؤهلة للعمل في هذا المجال عبر الدورات التخصصية المحلية والعالمية مع القدرة على استخدام الوسائل الحديثة والتقنيات المتطورة التي تستخدمها أجهزة الاستخبارات الحديثة في العالم.
- يتطلب العمل الاستخباري توفير مبالغ لغرض إدامة وإسناد منظومة المصادر الموثوقة حيث بدون ذلك يصعب توفير المعلومات الدقيقة.
- جمع المعلومات الاستخبارية من قبل وكالة المعلومات في وزارة الداخلية، والمديرية العامة للاستخبارات والأمن، والاستخبارات العسكرية، وجهاز المخابرات والأمن الوطني، وجهاز مكافحة الإرهاب والعمل بها ودراستها وتحليلها وخاصة تلك المتعلقة بالتهديدات الإرهابية المحتملة الوقوع والتي تؤثر بالشكل السلمي على الأمن الوطني العراقي.
ومن هنا يأتي دور الجهد الاستخباراتي لرصد المعلومات في المناطق المعرضة للتهديد وتعضيدها، ورأب التصدعات الأمنية، فضلاً عن إدامة الاختراق المعاكس للمناطق الرخوة أمنياً، ولا سيما في مناطق عمق التأثير الأمني، التي تعني خط المواجهة الأول استخباراتياً مع التنظيمات الإرهابية، فاستخبار الحدث قبل انطلاقه ومن ثم معالجته بتكتيكات أمنية خاصة بعيدة عن العمل العسكري المكشوف إعلامياً هو من صلب التكتيكات الاستخباراتية المتبعة في الوقت الحاضر.
وعليه يمكن القول، بأن تفعيل الجهد الاستخباري هام جداً كونه قادر على المساعدة كثيراً في إنجاح وإفشال العمليات العسكرية، ومنع وقوع المباغتة عليها وتمكين أصحاب القرار من الاحتفاظ دائماً بزمام المبادرة والقدرة على مباغتة العدو، فهي تعد بالنسبة للقائد بمثابة (البصر والسمع)، إذ تشكل الأنشطة الاستخبارية الجيدة والفعالة عنصراً مضاعفاً للقوة والأسلحة وذا أهمية من الدرجة الأولى لما تقدمه من مساندة ودعم للقوات المسلحة التي من شأنها تعزيز استقرار الأمن الوطني العراقي.
اضف تعليق