الجدل التي اثارته حقيقة جثه "عزت الدوري" تشابه في واقعها لغز اختفائه الطويل عن الانظار بعد سقوط بغداد عام 2003، على الرغم من انه مصاب بمرض "سرطان الدم" الذي يتطلب علاجا سريعا كل سته اشهر، ومع ان الجميع توقع خبر وفاته في اية لحظة او القاء القبض عليه بسهولة، الا ان جميع هذه التوقعات لم تتحقق، بخلاف ما حدث مع "صدام حسين"، وقد اعلنت الحكومة العراقية مرار ان "الدوري" تم قتله، ثم اعلنت قيادة حزب البعث في العراق خبر وفاته عام 2005، لكنه كذب هذه الاخبار بعدة تسجيلات صوتية اعلن فيها تنصيب نفسة "امين سر القيادة القطرية والقومية" لحزب البعث الذي قضى معظم حياته في خدمة اهدافه ذات الايدلوجية القومية.
وقد اختلفت التقارير الاستخبارية والمصادر الرسمية حول مكان اختباء عزت الدوري، الا ان المرجح كان يتوقع تخفيه في المناطق الشمالية، سيما وان الدوري كانت تربطه علاقات مميزة مع اصحاب "الطريقة النقشبندية" القريبة من التصوف، والتي انتشرت في تركيا وكردستان العراق، وقد اقام الدوري العديد من "التكيات" الخاصة بالطريقة النقشبندية وفروعها في العديد من مدن العراق ابان حكم صدام حسين، ووفر لاتباعها الحماية والاموال، وهو ما اهله لقيادة "جيش رجال الطريقة النقشبندية"، الذي وفر له الحماية والقوة بخلاف "صدام حسين" الذي سقط بيد القوات الامريكية بسهولة.
عزة الدوري لم يكن يتمتع بكاريزما قيادية (ولعل هذا احد اسباب اختيار صدام للدوري ليكون النائب الاول له والشخص الثاني في سلم القيادة في نظام حكمة)، مثلما كان ذو خلفية ثقافية واكاديمية سطحية ومتواضعة، فضلا عن انعدام خبراته العسكرية، الا ان جملة من العوامل والظروف ساعدت على تحول الدوري الى لغز محير بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية والحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003، ولعل ابرز هذه العوامل:
- اعتماده على اتباع الطريقة النقشبندية في توفير الملاذ الامن والحماية، اضافة الى محدودية تنقلاته في المناطق التي غالبا ما تكون خارج نطاق سيطرة الدولة كالموصل وبعض مناطق الانبار وصلاح الدين.
- مقتل او اعتقال ابرز قيادات حزب البعث داخل العراق اتاح للدوري اعتلاء رأس الهرم القيادي فيه، (مع العلم انه لم يعلن نفسه امين سر القيادة القطرية والقومية للحزب الا بعد اعدام صدام حسين عام 2006)، كما انه ازاح منافسيه الاخرين بعد ان قرر فصل 150 عضوًا على خلفية قرارهم عقد مؤتمر قطري في دمشق، دون موافقته، بقيادة محمد يونس الأحمد، العضو السابق في القيادة القطرية.
- استغلال الفوضى الامنية التي احدثتها التنظيمات المتطرفة بعد اشهر من غزو العراق على يد قوات التحالف التي قادتها الولايات المتحدة الامريكية، وتعاون الدوري بشكل وثيق مع هذه التنظيمات، وبالأخص تنظيم "القاعدة" وتنظيم "الدولة الاسلامية في العراق" وتنظيم "كتائب ثورة العشرين"...الخ، والتي عمل الدوري معها من خلال تنظيم "جيش رجال الطريقة النقشبندية".
- استعانته بخبرات وعلاقات عدد كبير من ضباط الجيش والمخابرات العراقية السابقة، من الذين انخرط عدد كبير منهم في صفوف التنظيمات المتطرفة والحركات المسلحة في داخل العراق (والتي قدر عددها اكثر من 23 تنظيم وحركة وجناح مسلح تنوع بين الفكر التكفيري والارهابي والقومي والطائفي)، وشكل بعض هؤلاء الضباط، حجر الاساس لعدد من هذه التنظيمات الكبيرة، كما هو الحال بالنسبة لتنظيم ما يعرف (الدولة الاسلامية/ داعش)، والذي يسيطر على مساحات واسعة من العراق وسوريا.
- كما انه استفاد كثيرا من الدعم الاقليمي، الذي وفر له الغطاء المالي والسياسي في مقابل افشال العملية السياسية والنظام الديمقراطي الجديد في العراق، والذي شكل هاجسا مزعجا لدى الكثير من الدول المجاورة للعراق، انطلاقا من خوفها على انظمتها ذات الحكم المطلق، والخوف من صعود القوة الشيعية في المنطقة، تحسبا لاكتمال "الهلال الشيعي" المفترض.
في 9/6 من العام الماضي شكل هجوم تنظيم داعش الكبير على 6 محافظات عراقية كبيرة، نقطة تحول في الصراع مع التنظيمات المتطرفة داخل العراق، مثلما شكل نقطة تحول بالنسبة للتقارب بين حزب البعث وقياداته مع التنظيمات التكفيرية في تحقيق هدف مشترك اعتمد على انهاء الحكم واسقاط الدولة العراقية وكل مؤسساتها السياسية والامنية، وكان دور عزة الدوري بارزا في التنسيق وجمع مختلف الحركات والتنظيمات المسلحة للعمل مع تنظيم داعش، الذي اكدت تقارير استخبارية غربية انه لم يحتج اكثر من 1000 مقاتل لإسقاط مدينة الموصل التي تضم اكثر من 2 مليون مواطن وعشرات الالاف من الاجهزة الامنية الرسمية، والغريب في الامر ان تنظيم "داعش" قد انقلب على عزة الدوري وتنظيم "النقشبندية" التابع له وقاتله مثلما فعلها من قبل مع "جبهة النصرة" التابع لتنظيم القاعدة في سوريا، وهو امر اتضح من خلال هجوم الدوري على داعش في عدة تسجيلات لاحقة وصفهم فيها بـ"خوارج العصر" بعد ان كان هناك تعاونا وثيقا قبل احتلال الموصل، ولعل انتقال الدوري من المنطقة الشمالية الى المنطقة الغربية سببا اخر لخلاف قوي حول اقتسام الغنائم والسيطرة بينه وبين التنظيم، وهو ما ادى في نهاية المطاف الى مصرعه واغلاق ملفه الغامض، كما اغلقت العديد من الملفات المشابه له.
اضف تعليق