إنّ أهّم أهداف القادة الإصلاحيين هو إصلاح المجتمع البشريّ بتربيته على التعاليم الإلهية، ولابدّ للمصلح أن يمرّ بمراحل من العمل الجادّ والمضني في هذا الطريق الشائك، من تحصيل العلم وممارسته قولاً وفعلاً، فعليه أن يربّي جيلاً من المؤمنين على التعاليم الحقّة التي جاء بها الدين والأخلاق القيّمة التي ينبغي التخلّق بها، لكي يكونوا له أعواناً على الخير، وبناء جيل رصين من المبلغين يستطيعون إكمال مسيرة التغيير في كل الأزمنة. وأن يدخل المجتمع بكلّ ثقله، ويكون قريباً من الناس، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه، ويبلغهم رسالات الله كلٌ حسب طريقته ومنهجيته في الحياة.
وأن يقاوم مظاهر الفساد الذي يبثّه الظالمون في المجتمع بهدف شلّ قواه، وتفريغه من هويته، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحقّ والخير. كان للفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (قدس سره) والذي مرت علينا هذه الأيام ذكرى رحيله السابعة نشاط واسع في كلّ هذه المجالات، بحيث يعدّ ـ بحقٍّ ـ في صدر قائمة المصلحين المجتمعيين بالرغم من تميّز عصره بتحكّم الطغاة والمستبدين على الاُمّة وعلى مقدّراتها والتي تقتل كل من يعارضها وتهدر دمه تحت عنوان التبعية والارتباط بحركات تستهدف قلب نظام الحكم والخيانة العظمى والقائمة كبيرة بوجه التهم التي يعاني منها المصلحون ودعاة التغيير.
فكانت تتبلور فيه شخصية القائد الإسلامي الفذ الذي جمع بين القابلية العلمية الراقية، والقدرة على جذب القلوب وإمتلاكها، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدّها بكلّ صبر وأناة وهدوء. فدخل بإسلوبه المُتميز البيوت من أبوابها وأثّرت كلماته المضيئة بجميع المستويات داخل الأسرة الواحدة من الأباء والأمهات والأبناء على حدٍ سواء، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة عما صنعته شخصية هذا المفكر الاسلامي من عوامل التغيير وبناء المشروع الأخلاقي الأسري، الذي يُعتبر أساس التغيير المجتمعي الشامل.
وكل ذلك من خلال وسائل تواصل بسيطة، حيث أن التراث الكبير لهذه الشخصية من مؤلفات ومحاضرات متلفزة تابعها الناس وخاصة في العراق بعد التغيير، أجبرت الالاف من تقديم الاحترام والمحبة لهذا الشخص الذي لم يصدف أن إلتقوه في يوم من الأيام، ومحاضراته تتابع الى يومنا هذا بشغف كبير لنقاء قلبه، وصبره المتناهي في حل مشاكل الحياة بكل هدوء وتروّي.
وهذا الشيء لم يكُن وليد الصدفة فهو سليل أسرة عريقة عُرفت بالتقوى والاصلاح والقيادة المجتمعية، وفي كلمة لعمه المرجع الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في تأبينه: لقد كان أملي لمستقبل الإسلام، كان أملي ليقود المسيرة من بعدي. ولكنّ الله تعالى شاء له ولنا هذا الذي ترون، ولا رادّ لقضاء الله، رضىً بقضائه، ورضىً بقسمته. هذه القسمة مُرّة ولكنّها إرادة الله تعالى فتكون مرضاته لنا رضىً.
وكان هو الذي يديم استمرارية المرجعية، ويقيم صرحها الشامخ، إذ كان (رضوان الله عليه) أهلاً لذلك، فإنه كان وباعتراف أساطين الحوزة وعلمائها، قد جمع كل ما لدى أسلافه من علم وحلم، وتقوى وورع، وقداسة ونزاهة، وخبروية ومهارة، ليس بالعلوم الحوزوية فقط، أو الدينية فحسب، بل بالعلوم الجديدة والعصرية أيضاً، من سياسة واجتماع، وحقوق وإدارة، ونحو ذلك.
لقد خسرت الحوزات العلمية بفقده: ثقلاً علمياً قلّ نظيره في الأوساط، وخسرت الأمة الإسلامية برحيله عالماً ربانياً، وزعيماً محنكاً، ومعلّماً حكيماً، وخلوقاً فذاً، وكانت الخسارة على الشعب العراقي أكبر، حيث تعطشوا إلى علمه الوافر وأخلاقه الفاضلة، بعدما تابعوا محاضراته القيّمة على شاشات الفضائيات وغيرها.
ومن كلماته المضيئة بحق الشعب العراقي والتي فحواها مُستمر ليومنا هذا: إن جمع الكلمة قضية مهمة دائماً، ولكن في هذه المرحلة التي يعيشها المؤمنون في العراق، يُعدّ جمع الكلمة ضرورة حتمية، لأن الحرب حالياً ربما لا تكون حرب حدود، وإنما هي حرب وجود، بمعنى أن الأعداء الذين يريدون الشر بهذا الشعب وبهذه الأمة المظلومة وبالمؤمنين، يحاولون أن يجتثوهم من الجذور.
ومع أنّ مزاولات الفقيه الراحل الدينية كلّها من صميم العمل السياسي وخاصّةً في عصره حيث لم يُسمع نغمُ الفصل بين السياسة والدين بعد، نجد في طيّات حياته عيّنات واضحة من التدخّلات السياسية الصريحة، فهو كما يبدو من المحاضرات الصادرة عنه، تجده رجلاً مشرفاً على الساحة السياسية، يدخل محاورات حادّة، ويتابع مجريات الأحداث، ويدلي بتصريحات ضد الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الاُمّة من استبداد وهيمنة فكرية، ولكن كل كلماته موّشحة بخطاب مبدأ اللاعنف وعدم مصادرة حقوق الآخرين والتعدي عليهم، وكان يراها من أهم واجبات المصلح الإجتماعي الذي يُصادف في فترة وجوده مشاكل كبيرة مثل مشكلة الفقر والتعليم للشباب لكلا الجنسين ومشاكل البطالة والعزوف عن الزواج وحقوق المرأة في الاسلام وغيرها من المشاكل المعاصرة والتي أخذت حيزاً كبيراً من رسالته المجتمعية تجاه المجتمع، ومن جانب أخر لم يتوانى في بذل الجهود الكبيرة في الدراسة الحوزوية وإصدار المؤلفات وتنظيم العمل الحوزوي والمؤسساتي خدمة لمذهب أهل البيت عليهم السلام ورسالتهم الخالدة للبشرية جمعاء.
اضف تعليق