هناك من الباحثين والمراقبين من يعزي اسباب نشأة داعش كفكر متطرف وكسلوك ارهابي الى عوامل اقتصادية واجتماعية تتعلق بالوضع المعيشي المتردي والحرمان من اسباب العيش الرغيد لدى فئات عريضة من الشباب في المجتمعات العربية، وهي بدورها تعود الى حالة سياسية أمست ظاهرة في تقاليد النظم السياسية العربية، وهي عدم التكافؤ في الفرص واختفاء العدالة في توزيع الثروات.
لكن ما يصدم في هذا الراي ان افكار التطرف ومفاقس التفريخ للارهاب ظهرت في البيئات العربية الاكثر ثروة والاكثر غنى اقليمياً وعالمياً وتحديداً دول النفط السعودية ودول الخليج، وقد تفرع الارهاب عنها الى الدول التي دخلت مجال استثمارها السياسي (مصر، ليبيا،سوريا، غزة) وقد غذت هذه الدول اضافة الى السعودية العربية عناصر الانتحاريين في هذه الحركات الارهابية "القاعدة، داعش"، واحياناً لايعدو تفسير ظاهرة الارهاب وفق المقولة الاقتصادية ان يكون مجرد تبريرات تصطف ضمنياً الى جانب هذه الحركات وتدخل في نطاق تلك التبريرات ادعاءات التهميش السياسي التي تمارسها جهات داعمة للارهاب بقوة في منطقتنا وفي بلدنا..
لقد كانت عوامل الفقر والحرمان الاجتماعي والسياسي وراء ظهور الكثير من الحركات المناضلة والتحررية ضد النظم السياسية المستبدة في البلاد العربية، وكذلك محاولات الاقصاء والتهميش المستمرة كانت تمارسها تلك الانظمة، ولكن هذه الحركات وعلى مختلف ايديولوجياتها لم تلجأ الى وسائل التطرف في التعبير عن مواقفها او اساليب الارهاب في مواجهاتها السياسية، فالجذر الثقافي فيها كان بمنأى عن توجهات الارهاب الثقافية والفكرية او ما نعبر عنه باصولها الفكرية وبناها الايديولوجية.
من هنا لابد من البحث عن العوامل الراكزة والمتسببة في نشوء الارهاب في ثقافتنا وفي تاريخنا السياسي على وجه الخصوص، ويبدأ ذلك في فشل النظام التربوي في عموم البلاد العربية والمتعلق بوسائل واتجاهات تنشئة اجيال من المواطنين تتأسس فيهم التربية نحو قيم عليا حديثة الطابع او المضمون حول مفهوم الدولة وحقوق الانسان.
لقد نتج هذا الفشل عن تراجع التحول نحو بناء دولة عربية ذات صبغة وصيغة حديثة تقوم على مبدأ المواطنة ومبادئ حقوق الانسان. ان عودة فكرة او مفهوم الجماعة القبلية هو الذي أودى بالدولة العربية الحديثة الى مهاوي التفكك والانحلال وعودة فكرة او مفهوم الجماعة الطائفية هو الذي أدى الى تمزق النسيج الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية.
ذلك ان الجماعة بكلا مفهوميها القبلي والطائفي على الضد دائماً من مبدأ المواطنة وضرورة الدولة الحديثة في البناء على اساسها. والتي دأبت النخب العربية العقلانية والمثقفة على بناء هذه الدولة العربية الحديثة في اعقاب الحرب العالمية الاولى.
لكن أخطر عودة لفكر الجماعة الطائفية كان في جلباب الجماعات السلفية، تلك الجماعات التي سعت في كل تاريخها الى تهميش العقل وأدواته ومفاهيمه المعرفية مما ادى الى إنكفاء ذاتها امام التحولات الحضارية والثقافية التي شهدها العالم الحديث وانتجها العقل الانساني الذي التزموا تجاهه بموقف ايديولوجي وعقائدي سلبي.
وكذلك انتجت السلفية انغلاقها وانغلاق اتباعها بوجه الآخر المسلم من غير مذاهبهم، والاخر غير المسلم ومن كل الاديان بطريقة عندهم اولى نتيجة انغلاق مذهبهم وفقههم بوجه العقل واستنادهم فيما عرف عندهم بالنقل وعصمة هذا النقل. ويعد كتاب مجموع الفتاوى لمؤلفه ابن تيمية مصدرا مهما في الفكر والفقه السلفي في اقصاء الاخر والغائه روحا وجسدا.
هذا الآخر الذي يشكل بمفهومه الحضاري الحديث تحولاً جوهرياً من خلال مبدأ المواطنة، فلم يعد هناك انسان آخر في الدولة الحديثة بل فرد مواطن يتساوى في الحقوق والواجبات، وهي رؤية تخالف تماماً الرؤية السلفية نحو الآخر الذي امتلأت كتبهم وفقههم بتكفيره وجواز قتله وسلبه. وقد تضمنت افكار وفتاوى فقيه السلفية المعاصرة ابن العثيمين السعودي الجنسية الكثير من تكرار مقالات ابن تيمية في تهميش الاخر والغائه سواء كان مسلما او غير مسلم.
ويشكل ابن تيمية في موقفة الفقهي ومصادره في السلفية الجذر الاول في التكوين الديني والثقافي لأفكار التطرف وسلوك الارهاب في القاعدة وانتاجها الاكثر تشوهاً في داعش. وبالنتيجة فان فشل النظام التربوي في الدولة العربية الحديثة وما نتج عنه من فراغ حضاري مهد الى إشغاله بالفكر المتطرف والسلوك الارهابي من خلال الحركات السلفية التي مولتها واشرفت عليها مؤسسات دولية واقليمية.
اضف تعليق