نحن نعيش على تراب وطنٍ معطاء هو الذي وفّر لنا كل هذه الفرص لنعيش بافضل ما يكون، وهذا الايمان هو نفسه الذي يساعدنا على التصدّي لكل محاولات \"الاستلاب الوطني\"، إن صحّت العبارة، من جهات وأطراف عدّة لها مصالحها في بقاء الانسان العراقي بلا وطن...
صديقي الجالس الى جانبي في حافلة جمعتنا خارج الوطن، فدار الحديث عن هذا الوطن، وسرعان ما أضرم في الحديث نار الازمات والنكبات التي حلّت به وهو "المواطن ابن البلد"، في سبيل هذا الوطن! كما هو حال الآلاف مثله.
وعندما كنت في إجازة استجمام لاعود ثانية الى "الوطن"، استجليت رأيه فيما اذا كانت لديه بقايا حنين يدفعه للعودة والتخلّص من أجواء الغربة وما أشبه من المبررات التي نسوقها لتعزيز مكانة الوطن في القلوب، فكان الجواب المتوقع، والمشابه لأجوبة الكثير ممن يمموا وجوههم شطر المشرق والمغرب بحثاً عن الأمن والكرامة؛ "كلا، لن أعود، "فالوطن الذي يُجرد ابنائه من جنسيتهم، وتصادر ممتلكاته ويعتقل شبابه ثم يُرمى على الحدود في الصحاري الموحشة، والذي يحول طاقات الشباب وكفاءاتهم العلمية وآمالهم العريضة، الى توابيت بالآلاف، تتحول الى أشلاء تتحلل تحت اشعة الشمس، ويتحول المواطن الجميل الى شيء مفقود لا يعرف له أثر في حرب الثمان سنوات، والذي يعتقل فيه المواطن والمواطنة بتهمة حملهما كتاب بمضمون الثقافة الدينية، او حتى يقيم العزاء على مصاب الامام الحسين، عليه السلام، ثم يرى الموت بأم عينيه داخل السجون، إما يخرج بإرادة ربانية، او يكون في عداد سكان المقابر الجماعية، مثل وطنٍ كهذا لا يستحق العودة اليه، ولا الصبر وتحمل الأذى والمشاق للتمسك به".
هذه المشاعر تعود لشريحة كبيرة من الاخوة المهاجرين والمقيمين خارج العراق، وهي لها ما يبررها نظراً للظروف الموضوعية في فترات زمنية ماضية، بيد أن هذا النوع من الشعور يتوالد هنا وهناك داخل العراق في الوقت الحاضر لاسباب يبررها البعض لانفسهم بان هذا الوطن ما يزال بعيد عن تلك الصورة التي تغنّى بها الآباء والأجداد، بانه كان الحاضن الدافئ، ومنبع الخير والامان، ليس لابنائه، بل وكان ايضاً ساحة مفتوحة لمن يريد ان يعمل ويقيم في العراق من الجنسيات الاخرى.
منجزٌ واحد اشترك فيه الارهاب والاحتلال
منذ تاريخ انهيار نظام صدام، كان العراق مقبلاً على وضع سياسي واقتصادي واجتماعي من نوع متميز، ربما لم تعهده الدول المحيطة به، والعربية والاسلامية مجتمعة، بعيداً عن أجواء الحرب والدور الاميركي في عملية التغيير السياسي، وحتى ظلال الاحتلال العسكري ووجود الاعداد الكبيرة من الجنود والمستشارين الاميركان داخل المدن العراقية، فهو يحظى بكل فرص التقدم والتطور من ثروات هائلة، وقدرات انسانية وثابة؛ من عقول مبدعة، ويد عاملة شابة، الى جانب خصوبة الارض والموقع الاستراتيجي، ومراقي نهوض اخرى لا نجدها في عديد الدول الطامحة للنمو والتغيير.
هذه الفرص جمعيها لم يهنأ بها العراقيون، ولم يستشعروا بها اساساً، وربما لمن يقرأ السطور يستغرب الامر، لان الصورة المرسومة لعراق تلك الايام، هو الصحراء القفر، والدمار في كل مكان، والمقابر الجماعية، والحزن والبكاء، والتخلف والحرمان و.... غيرها من المفردات الموغلة في السلبية، وبموازاة هذا الصورة، كانت ثمة مفردتين جاهزتين لقمع أي حديث ايجابي مهما كان واقعياً، هما؛ الاحتلال والارهاب، بما يمكن القول معه أن على العراقي ان يقبل – بأي شكل من الاشكال- انه مشلول او مكبّل وغير قادر على الحركة، او القيام بأي عمل يتوقع منه التغيير في حياته وحياة البلد بأسره.
والمثير في أمر هذه الايحاءات، أننا شهدنا في تلك الحقبة، أن الجنود الاميركان، وهم يفترض ان يكونوا عناوين للحرب والموت، ومبررات لـ "المقاومة" وظهور الجماعات الارهابية، كانوا يحملون على أكتافهم معدات مختبرية وأثاث لمدارس الاطفال في احدى محافظات الجنوب العراقي، ضمن حملة مساعدة من احدى "المظمات الانسانية" التابعة لوزارة الخارجية الأميركية.
على مدى سنوات، انشغلت الشريحة والجهات المعوّل عليها في العراق، بتداعيات العمليات الارهابية واسقاطات الوجود العسكري الاميركي، عن دورها الحقيقي في بث روح الأمل والثقة بالنفس في اوساط العراقيين التواقين للتغيير، كما نجده اليوم بظهور المؤسسات والهيئات والتجمعات في مجالات المجتمع والثقافة والاقتصاد، ولكن؛ بعد مرور حوالي عقد من الزمن، بحيث نجد أن مشاريع اغاثة الايتام والارامل، وانتقال الاقتصاد برمته من احتكار الدولة سابقاً الى اقتصاد السوق، ولو في جانب بسيط منه، وليس بالشكل الصحيح والمتكامل، ومظاهر البناء، والنشاط التجاري، وانطلاق مسيرة التعليم بقوة فائقة، واندفاع الفتيات بشكل ملحوظ للدراسة والتطلع نحو شغل المراكز المرموقة في المجتمع والدولة، والأهم من كل ذلك؛ النقلة النوعية في طريقة التفكير ومساحات الوعي ورسم الثقافة بفضل الحريات الواسعة، وغيرها كثير، كل ذلك؛ مثله مثل الغيث النازل من السماء الى الارض الجدب غير الصالحة للزراعة، حتى بلغ الحال بنا، أن يستقطع المواطن العراقي مما وفّره من تجارة وأعمال خلال هذه السنوات مبالغ تصل الى عشرة، أو عشرين ألف دولار للتخلص من "وطنه" واللجوء الى أوطان أخرى!.
لماذا تكره "سوشيال ميديا" الوطن؟!
المشكلة ليست في هذا النوع المستحدث من الاعلام الخارج من حدود النخبة الصحفية والمحلق في رحاب الجماهير (الاعلام الجماهيري)، فهو وسيلة تواصل وتبادل معلومات واخبار، كما يفترض ان تكون اهدافه، انما المشكلة في الاستخدام، ثم ما تفرزه منصّات التواصل الاجتماعي، وهي ربما لا تعود الى اسماء حقيقية من مواطنين عراقيين –مثلاً- او حتى من مواطني بلاد اخرى، انما تعود الى جيوش الكترونية تم تنظيمها في الآونة الاخيرة لزرع اليأس والاحباط في نفوس الناس، بأن لا حياة ترتجى من الوطن، من خلال سوق اخبار ومقاطع وصور مع تعليقات تشوبها المغالطات، وتشويه الحقائق، واثارة السلبيات مقابل إخفاء الايجابيات، فمن النادر ان نقرأ في أي منصة للاعلام الاجماهيري دعوة للنظر في تجربة تغيير ونهوض اقتصادي نجح فيها شعب من الشعوب، او بلد من البلدان، مثل الهند او كوريا الجنوبية، ومحاولة الاستفادة من هذه التجربة، نعم؛ الاشارة الى تلك البلدان بما يظهر مساوئ في الوضع في بلدنا، فالشوارع –مثلاً- "في كذا... بلد، نظيفة، ثم انظر حال شوارعنا..."! او "ان المسؤول في كذا... بلد أمين على المال العام ونجح في تقدم وازدهار بلده، أما في بلدنا فالفساد والنهب والسلب هو سيد الموقف"، وغيرها كثير من هذه الصور النمطية الغريبة التي يخيل الى المتابع انها معلبة وجاهزة للانتشار السريع.
اننا جميعاً نتحدث عن ضرورة وجود حكومة رشيدة، ومسؤولين يتمتعون بالنزاهة والكفاءة، وكل المواصفات المطلوبة، ونتحدث ايضاً عن ضرورة سيادة القانون وإحلال النظام، ونشر الوعي والثقافة، بيد ان هذا يتعارض تماماً مع الصورة المطبوعة في الاذهان بعدم جدوائية هذا الوطن برمته، او ان عودته الى عافيته ووضعه الطبيعي يحتاج الى أمد غير منظور.
عندما نتحدث عن الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة، وعن التقدم العلمي والطموح الجامح لدى الكثير من طلبتنا واساتذتنا، لابد ان يكون الحديث مقروناً بالايمان الحقيقي والعميق بما نقول، وأننا نعيش على تراب وطنٍ معطاء هو الذي وفّر لنا كل هذه الفرص لنعيش بافضل ما يكون، وهذا الايمان هو نفسه الذي يساعدنا على التصدّي لكل محاولات "الاستلاب الوطني"، إن صحّت العبارة، من جهات واطراف عدّة لها مصالحها في بقاء الانسان العراقي بلا وطن.
اضف تعليق