لنحاول أن نجعل أعمالنا مشتركة، فإذا ذهبتم إلى منطقة ما، لا تكونوا فرداً وإنما حاولوا أن تبدأوا مع مجموعة، وحاولوا أن تنمّوا مجموعة، حاولوا أن تفوضوا الأعمال إلى مجموعة، حتى تنطلقوا، لأن الواحد إذا بقي في دائرة عمل معين سيبقى محدوداً، وعلى الواحد دائماً أن يرفع نفسه...
من العلماء الأجّلاء الذين تركوا بصمة متفردة في حياتهم وبعد رحيلهم الفقيه الشيرازي (آية الله محمد رضا الحسيني الشيرازي أعلى الله درجاته)، فقد ترك وراءه مئات المحاضرات الصوتية والمصورة، والكثير من الكتب الجديرة بالقراءة والتدبّر كونها تُسهم في صنع آفاق كبيرة للتقدم فيما لو اعتمدها الفرد والجماعة، وفي هذا المقال هناك رؤية منتقاة من أفكار الفقيه الشيرازي تبلور رؤيته عن العمل بشكل عام، وأفضلية العمل الجمعي على الفردي لأسباب مقنعة تجعل العمل الجمعي متفوقاً بكثير على الفردي رغم كون الأخير في بعض الحالات مطلوباً.
ومما جاء في تعريفات العمل لغةً فهو الوظيفة والمِهنة، أمّا اصطلاحاً فهو الجُهد الجسديّ الذي يقوم به الإنسان من أجل تحقيق هدفٍ مُعيّن يعود عليه بالنّفع. ويُعرف العمل أيضاً بأنّه الواجبات المُترتّبة على الأفراد في مِهنة ما، ويجب عليهم تطبيقها بطريقةٍ صحيحةٍ؛ حتّى يحصلوا على عوائدَ ماليّةٍ مُحدّدة بفترةٍ زمنيّةٍ مُعيّنة. ومن التّعريفات الأخرى للعمل هو المسؤوليّة المُترتّبة على الفرد للقيام بمَهمّةٍ مُعيّنة تُلزِم تطبيق مجموعةٍ من النّشاطات المِهنيّة، أو الإداريّة، أو المكتبيّة، أو الميدانيّة.
وحسبما رؤية الفقيه الشيرازي فإن العمل يتنوع إلى نوعين:
الأول: العمل الفردي.
الثاني: العمل الجمعي.
ولكل من هذين النوعين سمات محددة تجعل بعض الفروق الكبيرة بينهما، خصوصا أن طبيعة العمل نفسها تتوزع على عدة أهداف ومآرب، ولكن غالبا ما يُطبَع العمل الفردي بالجهد الذاتي الذي تسيره طموحات فردية، على العكس من العمل الجمعي الذي تشترك في عقول ونفسيات عديدة أحداها تكمل نواقص الأخرى، فالحاكم الدكتاتور فرد لا يسمح للعقول والآراء الأخرى بمشاركته بصنع القرار واتخاذ القرار، فإذا كانت عقليته ناقصة وعلمه شحيح وأفكاره عرجاء، فإن هذا التخبط الفردي ينعكس على الدولة التي يقودها الدكتاتور، على العكس تماما من العمل الجمعي إذا تعلق بإدارة الحكم، فإن الشورى عمل جمعي تتعاون فيه العقول على صنع القرار ضمن ضوابط الدستور المستفتى علية من قبل الشعب.
لكن لا يمكننا أن نضع العمل الفردي في خانة الفشل دائما، كلا بالطبع فهناك أعمال فردية جعلت العالم أفضل بكثير كما حدث مع الابتكارات والاختراعات في الطاقة وخدمات النقل والاتصال والتقانات بوجه عام،والأمثلة كثيرة قد لا تخضع للحصر.
يرى الفقيه الشيرازي إن للعمل الفردي قيمة كبيرة عند الله سبحانه وتعالى، ولاشك أن كثيراً من التحولات التاريخية حدثت على أثر أعمال فردية، ولاشك أن الأعمال الفردية لها دور كبير في الحياة الراهنة، وربما يكون العمل الفردي ضرورة من الضرورات في بعض الحالات، وذلك مما لا شك فيه، ولكن هنالك قاعدة عامة في الحياة ذكرها القرآن الكريم في مواضع متعددة، وهي أن المؤمن ينبغي عليه دائماً أن يتحرّى الأفضل.
إن تحري الأفضل يلزم الإنسان باختيار العمل الجماعي إذا طُلِب منه الأفضلية، بالأخص حين يتعلق الأمر بقرارات ذات طابع جمعي كما في أعمال الحكام، فهل يصح أن نفضل مثلا عمل الفرد الحاكم على التعددية في صناعة القرار وإدارة قضايا الدولة والشعب؟، كلا بالطبع، ولكن هذا ليس معناه تفوق الفردي على الجماعة، فكما يرى الفقيه الشيرازي إن بعض المتديّنين اليوم غالباً ما تكون حركة أعمالهم فردية، يولدون أفراداً ويعيشون أفراداً ويموتون أفراداً، هذه الحالة قد تكون جيدة في بعض الأحيان، ولكن قد يوجد هنالك أفضل من العمل الفردي وهو العمل الجمعي، وهذا لا يختص فقط بالمجالات العلمية، إنما يشمل المجالات العلمية والعملية والاقتصادية والاجتماعية، فكيف يجب ان نعمل؟
أي أن التساؤل الأهم هنا.. ما هي ضرورة العمل الجمعي؟
يقول علماء الحضارة: إذا كل إنسان يبدأ من حيث بدأ الآخرون، لكنّا نعيش في عهد الكهوف الأولى - كما يدّعون- بينما الحضارة التي نعيشها مبنية على عنصر التراكم، لأن كل واحد بدأ من حيث انتهى الآخرون، وليس من حيث بدأ الآخرون. وفي الأعم الأغلب نجد أن الحكومات ذات العمل المتراكم هي التي تنبني دولا متفوقة، وعلى العكس منها الحكومات والحكام الفرديين الذين يبترون المسيرة السابقة ويقتلعونها من جذورها ويبدأون بداية جديدة فينسفون كل العمل التراكمي الذي تركه لهم أسلافهم، متناسين أو مهملين بأن العمل المشترك أو التشاركي هو الأصح والأسلم والأقدر فيما يخص المخرجات كون هذا النوع من الأعمال يقوم على قاعدتين مهمتين يحددهما الفقيه الشيرازي بالتالي:
الأولى: القاعدة الفكرية.
الثانية: القاعدة النفسية
وهي المشكلة الكبرى عندنا، والتي تتعلق بالقدرة على التعايش. فالعمل يتطلب تعاونا وانسجاما وتناغما، وهذه تتطلب بدورها توافقا نفسيا مشترَطا لتحسين العمل وما يتمخض عنه من نتائج مضمونة، ولكن هناك عائق يتحدد كنههُ بـ ذات الإنسان نفسه، فيقول الفقيه الشيرازي: إن ذاتنا هي المحور في هذا الوجود، وليس بالضرورة أن نعبّر عن ذلك، لكنه في الواقع ننظر إلى جميع الأمور من خلال أنفسنا.
وقد تصح زاوية النظر أحيانا، لكن الأفضل هو النظر من عدة زوايا في وقت واحد، وهذا لا يمكن للفرد الواحد، بل يمكن للجماعة القيام بهذا الدور الحاسم لإنجاز النجاح، لذلك ينصح الفقيه الشيرازي بالتعدد والرؤية الجمعية ويقول:
لنحاول أن نجعل أعمالنا مشتركة، فإذا ذهبتم إلى منطقة ما، لا تكونوا فرداً وإنما حاولوا أن تبدأوا مع مجموعة، وحاولوا أن تنمّوا مجموعة، حاولوا أن تفوضوا الأعمال إلى مجموعة، حتى تنطلقوا، لأن الواحد إذا بقي في دائرة عمل معين سيبقى محدوداً، وعلى الواحد دائماً أن يرفع نفسه مثل النبتة التي تزرعونها في الأرض فإنها ترفع نفسها شيئاً فشيئاً.
اضف تعليق