الحوار حول طبيعة الدولة وهويّتها هو جزء من الصراع الأيديولوجي العالمي، وإن كان جزءآه العربي والإسلامي أشد حدّة في ظلّ عوامل إحباط ونكوص عدة من جانب قوى مختلفة، ومتناحرة، بعضها يريد شدّها إلى الخلف، حيث أنظمة الاستبداد، وبعضها يريد جذبها إلى شاطئه الخاص...
إذا نصّ الدستور التونسي الصادر بعد الثورة (2014) في ديباجته، وفي الفصل الثاني، منه على «مدنيّة الدولة»، فإن مثل هذه النصوص فتحت الشهية لنقاش وجدل واسعين، ليس في تونس فحسب، بل في العالمين العربي والإسلامي. وكان مثل هذا الجدل والنقاش قد أثيرا واحتدما خلال العقدين ونيّف الماضيين، بحثاً عن جواب مقنع وتوافقي بين تيارين متصارعين لدرجة القطيعة أحياناً، وهما التيار الديني، والتيار العلماني، فما المقصود بالدولة المدنية، وكيف ينظر إليها الفرقاء، ولاسيّما الذين يريدون الإبحار كل إلى ضفته؟
المتشددون من التيارين يثيرون اعتراضات بشأن «هوية» الدولة، فأنصار الفريقين، بغض النظر عن اختلافاتهم، وتمايزاتهم، يبحث كل منهم عن «مرجعية» تطمئنه، الأمر الذي يحتاج إلى صيغة مناسبة، وابتداع إجابة مشتركة تجمع التيارات المتناقضة في إطارها، وتضع مسافة واحدة من الجميع، وليس ذلك سوى «الدولة المدنية».
إن إصرار التيار الإسلامي، بمدارسه المختلفة، على مرجعية الشريعة قاد أحياناً إلى انعزالية، خصوصاً بوضعها مبادئ الدولة في تعارض كامل مع فكرة الحداثة، والحرية، والعقلانية، والديمقراطية، ولعلّ أحد نماذجه المشوّهة والمزورة هو تنظيم « داعش»، وأخواته، ويقابل هذا التيار تيار علماني يرفض أي نص يسترشد بالمرجعية الإسلامية كمصدر من مصادر الدستور والقانون، حتى وإنْ تمت استجابتها لروح العصر، ويدعو البعض من أنصار هذا التيار إلى قطع الصلة مع الماضي، أو إحداث القطيعة الأبستمولوجية مع التراث، متجاوزاً على الخصوصية الثقافية لأنها تعيق تحقيق الحقوق والحريات بمرجعياتها الكونية ذات الشمولية والمعروفة باسم «الشرعة الدولية لحقوق الإنسان».
وبين هذا وذاك، كان لا بدّ من ابتداع إجابة عربية على قاعدة الاحترام المتبادل، وجاءت هذه المرّة من تونس بعد نجاح الثورة التي أطلق عليها ثورة الياسمين العام 2011 لتؤكد إمكانية الإبداع الفكري والحقوقي، وتقديم حلول ذاتية ومتميّزة لمشكلات كبرى مطروحة، مع الأخذ في الاعتبار ما وصل إليه الفكر الدستوري القانوني، والعقل الحقوقي الدولي.
وكان الدستور التونسي نصّ في ديباجته على الدولة المدنية، وأكد ذلك في الفصل الثاني: «تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلويّة القوانين»، وقد أعطى تميّزاً لهذا الفصل الذي يعتبر «جامداً» على بقية فصول الدستور، بحيث لا يمكن تعديله، لأنه يمثّل جوهر فكرة الدستور، وقواعده الأساسية التي قام عليها.
وبمناسبة الذكرى الثامنة للثورة السلمية - المدنية، فقد انعقدت حلقات أكاديمية حول الفكرة، وواقعها، وآفاقها المستقبلية، نظرياً وعملياً، شارك فيها مفكرون، وباحثون، وأكاديميون، ونشطاء من مختلف التيارات الفكرية التونسية والعربية، وحظيت بدعم من مؤسسة «هانز زايدل» الألمانية، وقام بتنظيم الفعالية «المعهد العربي للديمقراطية»، بالتعاون مع «الجامعة الخضراء»، و»المركز المغاربي للبحوث والدراسات».
جدير بالذكر أن تجربة الانتقال الديمقراطي التونسية، وإن واجهت تحدّيات كبرى، لكنها قياساً بالتجارب العربية الأخرى، مرّت بسلاسة زادها فاعلية الحوار المجتمعي، والتوافق السياسي بين الفرقاء، حيث ظلّت تونس دولة قائمة ومستمرة تحمل ملامح مدنية، جرى تثبيت أسسها في الدستور الجديد بديلاً عن النظام الاستبدادي، والدولة الدينية، أو العسكرية، أو الأمنية، وقد استتبعت ذلك تطبيقات وخطوات عدة في مؤسسات الدولة عبر قوانين، وتشريعات، وأنظمة، ما زالت تثير جدلاً واسعاً ومستمراً، وهو ما حصل بشأن الموقف من حقوق المرأة، ومساواتها مع الرجل في جميع الميادين. ولعلّ فكرة الدولة المدنية في تونس هي منزلة بين المنزلتين ، فلا هي دولة دينية، ولا هي دولة علمانية، الأمر الذي جعل التجربة محطّ اهتمام، ونقاش، وتنوير، ووسطية، لاسيّما بمحاولة امتصاص حساسيّة الأطراف المختلفة تاريخياً، عبر حوار ساهم فيه المجتمع المدني بدور كبير.
وإذا كانت ثمة عقبات تعانيها الدولة المدنية في المنطقة العربية، فالأمر ليس استثناءً عربياً، فحتى الدول الديمقراطية العريقة تعاني تحدّيات هي الأخرى، وما حصل في فرنسا من حراك قام به أصحاب «السترات الصفراء» يطرح أسئلة في غاية الأهمية حول «أزمة الديمقراطية»، وما بعدها، ومستقبلها، ارتباطاً «بالانتخابات»، ونتائجها، والدعوة المتسعة اليوم لتوسيع دوائر الحكم المحلي، واختصاصاته، وصلاحياته، ومباشرة اختيار ممثلين للإدارات والبلديات قريبين من جمهورهم، ويحظون بدور تنفيذي أكبر.
ولعلّ الحوار حول طبيعة الدولة وهويّتها هو جزء من الصراع الأيديولوجي العالمي، وإن كان جزءآه العربي والإسلامي أشد حدّة في ظلّ عوامل إحباط ونكوص عدة من جانب قوى مختلفة، ومتناحرة، بعضها يريد شدّها إلى الخلف، حيث أنظمة الاستبداد، وبعضها يريد جذبها إلى شاطئه الخاص، سواء كان إسلامياً أو علمانياً، فضلاً عن محاولات هيمنة واستتباع خارجية غربية قديمة، وجديدة.
وبتقديري، فقد وصلت الحلول الواحدية والإطلاقية، تلك التي تريد احتكار الحقيقة وتزعم أفضلياتها على الآخر، إلى طريق مسدود، وآن الأوان للتخلّي عن منطق المغالبة، والعودة إلى منطق المواصلة على أرضية مشتركة، بعيداً عن التناحر والتقاتل، بل بالتفاعل والتواصل.
اضف تعليق