خلال سني حكمه المثيرة للجدل، دعا الرئيس الفنزويلي الراحل تشافيز، الى اممية خامسة .. نعم خامسة! وقد مرت الدعوة على وسائل الاعلام مرور الكرام، او لم تتوقف عندها بما تستحق من تحليل، او ملاحقة جذورها... في الحقيقة، انا شخصيا، لم اكن اعرف من قبل ان هناك اممية رابعة...
خلال سني حكمه المثيرة للجدل، دعا الرئيس الفنزويلي الراحل تشافيز، الى اممية خامسة .. نعم خامسة! وقد مرت الدعوة على وسائل الاعلام مرور الكرام، او لم تتوقف عندها بما تستحق من تحليل، او ملاحقة جذورها... في الحقيقة، انا شخصيا، لم اكن اعرف من قبل ان هناك اممية رابعة حتى اتفاعل مع الخامسة! ولعلي كنت كغيري، ضحية لهيمنة الاعلام العالمي، بشقيه، الشيوعي والراسمالي على حد سواء، وهنا تكمن المفارقة .. فالاممية الرابعة، هي التي دعا اليها تروتسكي، في العام 1938 وجاءت بعد اختلافه مع ستالين بالقصة الشهيرة ومغادرته الاتحاد السوفيتي، ليستقر به المطاف، بعد تجوال طويل، في المكسيك، ويقتل فيها .. دعوة تروتسكي جاءت لاعتقاده، ان الاممية الثالثة التي عقدت في موسكو العام 1919 وانتهت باعلان (الشيوعية الدولية)، انحرفت عن مسارها، تحت قيادة ستالين. وهذا ما يفسر عدم ترويج الاعلام الشيوعي للاممية الرابعة، واهمال الاعلام الراسمالي للامر برمته، وهو مافهمته بعد حين! ... استجابت بعض الاحزاب او القوى اليسارية المتململة من سياسة موسكو، لدعوة تروتسكي، ولعلها مازالت قائمة الى اليوم، ولو بعد زوال الاتحاد السوفيتي، الذي لم تكن تحت مظلته اصلا، كونها احزابا تروتسكية (معارضة)، وان ميدان نشاطها الابرز، دول اميركا اللاتينية، ومنها فنزويلا، التي تشعر بابويتها لتلك الدول، لان سيمون بوليفار، محرر القارة من الاستعمار الاسباني، مطلع القرن التاسع عشر، فنزويليا، ومن العاصمة كاراكاس تحديدا.
وتحت هذه المظلة التاريخية الملهمة، التي يعظّمها الاميركيون اللاتينيون، قررت في العام 2004 احدى عشرة دولة من دول القارة، هي أنتيغوا وباربودا، بوليفيا، كوبا، دومينيكا، الإكوادور، غرينادا، نيكاراغوا، سانت كيتس ونيفيس، سانت لوسيا، سانت فينسنت والغرينادين، وفنزويلا، تشكيل ما عرف ب (البديل البوليفاري) الذي تحول لاحقا الى تحالف، يقوم على مبدا التكامل بين تلك الدول التي تبنت الاقتصاد الاشتراكي. وكادت اميركا اللاتينية كلها تتحول الى انظمة اشتراكية، بعد تحقيق الاحزاب اليسارية انتصارات متلاحقة في العقد الاخير، اقلقت الولايات المتحدة، التي اخذت تعمل على تقويضها من خلال محاربتها اقتصاديا. وفي الوقت نفسه راحت تدعم الاحزاب اليمينية، التي حققت هي الاخرى بعض الانتصارات في اكثر من بلد، على وقع الاقتصادات المتهاوية في تلك البلدان بفعل الحصارات والتضييق المتواصل .. لقد عاشت القارة حربا صامتة مع الولايات المتحدة، التي اعتقدت انها حققت خرقا تاريخيا، بعد ان حاول اوباما استدراج الحلقة الاقوى سياسيا فيها، كوبا، لكن المحاولة تلك توقفت عند التهدئة ومحاولة فك الحصار، ولم تتجاوزها الى علاقة طبيعية، قبل ان ياتي ترامب ويعصف بما تحقق، ليعيد الامور الى نقطة الصفر. وبفعل الحصار القاسي، صار بعض الناس يغادرون بلدانهم في اميركا اللاتينية الى الولايات المتحدة وغيرها، ماوفر مادة اعلامية مهمة ضد انظمة تلك الدول، التي احرجها واقعها الاقتصادي المأزوم، من دون ان تفقد شعبيتها الواسعة، المتطلعة الى حياة افضل، في ظل احزاب تدعو الى العدالة الاجتماعية وتعد بالاصلاحات. وهنا تحقق الأسوأ، الا وهو الانقسام المجتمعي بين ثقافتين متناشزتين، تتطلعان للامساك بالسلطة، ومن خلال الجماهير وصناديق الاقتراع!
لقد فشل الثائر العظيم سيمون بوليفار في توحيد اميركا اللاتينية في القرن التاسع عشر، فظلت تعاني الفرقة والفقر والجوع والامراض، بعد خروج المستعمر الاسباني. فكانت التروتسكية، او الاممية الرابعة التي اتت بعد اكثر من قرن، بمثابة حلم جديد، لينهي ظلام ايامها الطويلة، القاحلة ... مات تروتسكي ولم تمت التروتسكية في نفوس اللاتينيين، ومن هنا جاءت دعوة تشافيز لعقد اممية خامسة، تعبيرا عن استمرارية الروح التروتسكية، وايضا عن خيبة امل تلك الشعوب بالشيوعية الدولية، التي قادها الاتحاد السوفيتي، الستاليني، وغدرت بتروتسكي وصادرت حلمه الرومانسي. وهكذا ظن تشافيز انه سيغير العالم بدعوته تلك، لكن هو الاخر، غادر الحياة من دون ان يحقق حلمه، ليترك وصيته في ذمة سلفه مادورو ، المحاصر والمنبوذ اميركيا.
احداث فنزويلا الاخيرة، ليست فقط انقلابا داخليا، كالانقلابات التي شهدتها اميركا اللاتينية، ومااكثرها، وانما هي ذروة صراع ضد خصم عقائدي ، ضاقت به اميركا ذرعا. لقد ارهقتها جارتها القارة المشاكسة، وشغلت جهاز مخابراتها طيلة عقود طويلة.. فالناس الفقراء يريدون الخبز والعدالة، واميركا تريد مجالا حيويا اقتصاديا وسياسيا وامنيا، من دون ان تراعي تلك الضرورات التي طال غيابها. وان لحظة الحسم قد حانت بين الفريقين، واحداث فنزويلا، عنوان لمعركة كبيرة، ستستمر طويلا، ليس بالضرورة تحت غطاء ماركسي او لينيني او تروتسكي، بل بعناوين متعددة، تمتد الى قارات اخرى، ومصالح اخرى متشابكة، تدرك اهميتها اميركا، وتدرك ان قوة شوكة هؤلاء الخصوم ان تمادت، ستجعلها في وضع صعب لاحقا، لاسيما بعد ان استرد الروس عافيتهم، وبدأ الصينيون زحفا عالميا غير مسبوق، وصعود قوى اخرى، صارت تتمرد على الغطرسة الاميركية، وان كان كل هذا لايتحقق آنيا، لكنه يرهص لمستقبل، ربما غير بعيد جدا، تقراه اميركا قبل غيرها، وتعمل على اجهاضه مبكرا، لانها ماهرة في توجيه ضرباتها الاجهاضية للاعداء المحتملين، وقد فعلت هذا كثيرا وفي اكثر من ميدان عالمي.
اضف تعليق