السعادة تساوي اللاعبث في الخلق، وحين لا يدرك الانسان هذا المعنى أو جوهر الخلق في هذا المعنى فإنه يشعر بأنه وجد ذاته مقذوفا بها عبثا وسط المجهول، وتتفرع عنها قاعدة ثانية ان للسعادة وجودا قارا وثابتا بما أنها ليست عرضا بل هي جوهر في الحياة...
قبل أن تكون السعادة غاية في الخلق فهي جوهر في الخلق الإلهي، وإن كانت تمثل المشترك الوجودي في الغائية بين الخلق، إلا انها لا تشترك بمعايير أو أحكام ثابتة وقارة، فالسعادة معنى ممكن في كل حيثيات الوجود وهو يكمن بالقوة في الوجود، وحين تتوفر له عوامل الظهور فانه يظهر بالفعل، وكل عوامل الظهور له ممكنة في الوجود، لكن هذه العوامل متعددة ومختلفة وتعددها واختلافها يحيل الى تعدد معايير السعادة وأحكامها، وينتج عنها ان السعادة في المعنى لها لا تخضع الى معاييرنا حصرا وفق ما نتصور أو ندرك بل لها قواعد موضوعية قابلة للإدراك الذاتي لدينا.
فالقاعدة الأولى في السعادة الواجب ادراكها أنها جوهر الحياة، فالحياة عدم أو نفي في حال النفي لها، أي نفي السعادة عنها او منها لا سيما وأن السعادة هي الطريق الوحيد للإحساس بمعنى الحياة أو لإدراك المعنى في الحياة بما هو معنى يتساوق وجدلية الخلق.
فالسعادة تساوي اللاعبث في الخلق، وحين لا يدرك الانسان هذا المعنى أو جوهر الخلق في هذا المعنى فإنه يشعر بأنه وجد ذاته مقذوفا بها عبثا وسط المجهول، وتتفرع عنها قاعدة ثانية ان للسعادة وجودا قارا وثابتا بما أنها ليست عرضا بل هي جوهر في الحياة، ذلك الخلق الالهي بامتياز، أو أن السعادة هي الوجه الثاني للنفخة الالهية في الروح التي بعثت الحياة ليس عبثا، وما يرمز اليه سكن الانسان في الجنة هو الوجهة الثانية للنفخة الالهية للسعادة في جوهر الحياة، وبما ان نفس الحياة يستغرق ذواتنا فالقاعدة الثالثة انها كامنة فينا بالقوة في داخلنا منفصلة عن خارجنا وبإمكاننا أن نصنعها أو نعيشها بما هي لحظة وجودية كامنة فينا وبمعزل عن اشتراطات تضعها معاييرنا الخاصة بنا والمتأثرة بتاريخنا الخاص وأفكارنا، أو قل اختصارا متأثرة بنسبيتنا كموجودات محدودة أو مشروطة لكننا موجودات قادرة على تجاوز المحدود والمشروط في انفتاح على التسامي والمطلق ويكون لدينا الامكان هنا في الانفتاح على جوهر الحياة.
وفي نسبيتنا ومحدوديتنا فإننا لا نصنع شيئا سوى اخراجها من حيز الممكن بالقوة الى حيز المنتج بالفعل، فهي مستغرقة بنفس الحياة وتزودنا بنفس الحياة في دورة انتاج مستمرة، وحين تتوقف السعادة يتوقف فينا نفس الحياة، أليس في ذلك دليل على أنها جوهر الحياة؟ وفي معاييرنا أننا نشترط الثروة والغنى والمرأة والمكانة الاجتماعية، وفي ثقافتنا الحديثة نشترط الحرية في السعادة وهي اشتراطات تراكمت عبر تاريخ البشر في تكوين مفهومنا عن السعادة، لكن تجربة الزهد في عرف السالكين تنفي كل تلك الاشتراطات بل وتجعل من النفي لها شرطا أوليا في السعادة مما يكسب تجربة الزهد بعدا أو فهما آخر في الحرية يجعلها تأبى الأسر وفق معايير البشر بل ترى أنها قيد على إمكان السعادة لدى البشر.
وهو منحى ثقافي قديم عرفته الحضارات والثقافات الدينية للمجتمعات القديمة لاسيما الشرقية وأهم مصادرها الهرمسية القديمة، ونجد الجذر التنظيري لها في اشتراطات افلاطون للسعادة في الفضائل الاخلاقية، ويبدو أن ارسطو كان يحيل السعادة الى دور العقل في حياة الانسان وما يحمله من دلالات مادية واجتماعية نقلت مفهوم السعادة من آفاقه المتعالية والمتسامية في الزهد الى واقع حياة الانسان رغم ما يؤثر عنه من تشديد على الفضيلة كإحدى موجبات السعادة.
وتظل الدلالات المادية والاجتماعية تؤسس لمفهوم السعادة بصيغته الاخيرة في المجتمعات الحديثة، وهو يستغرق انتاجها في الحقل الاجتماعي والادبي والحقل الفكري الذي ظل يؤسس لمفهوم السعادة في بعد ذاتي أو موضوعي صرف دون أن يلحظ أو يؤشر البنية الوجودية للسعادة باعتبارها ذات بعد جوهري في الحياة وأن خلو الحياة منها هو خلو الحياة من الوجود وأقرب مثال هنا هو شرط الصحة في الحياة الذي يساوق شرط الصحة في السعادة، فالمرض نقيض الصحة وهو نقض للحياة في الوجود أو من الوجود بعبارة اخرى نقض للوجود الشخصي في الحياة.
لكن الحياة في جدلية التاريخ الوجودي لها مهددة بالمكابدة المستمرة والمكابدة تهديد للسعادة ومصدرها الشرور من الخارج الوجودي للحياة، وهنا يطرح علم النفس مفهوم الرضا المتحقق عن التوازن بين المتطلبات النفسية والظروف الخارجية لغرض حل اشكال المكابدة المتموضع عرضيا في الحياة الموهوبة جوهريا بالنفحة الالهية، وتحاول المكابدة اختراق الوشيجة الداخلية للحياة مما يدع الحياة في صراع جوهري وهنا يتوقف انجاز الرضا فيه على تحقيق توازن يميل لصالح ترجيح السعادة على المكابدة، ويبدو ان علم النفس خرج بمفهوم الرضا بديلا عن مفهوم السعادة بعد ان اصطدم بمتطلبات وظروف المكابدة الحديثة، ولعل المعاناة الفردية والاجتماعية في المجتمعات الحديثة هي التي أخذت بمسارات علم النفس نحو مفهوم الرضا بعد ان تأثرت السعادة البشرية على صعيد الواقع البشري على أثر الأزمات التي أفرزها التطور المادي والحضاري للبشرية في العالم الحديث، فالرضا انجاز متيسر للسعادة.
ويبدو ان النسبية التي هيمنت على الذهن البشري الحديث أخضعت مفهوم السعادة الى تلك النسبية فاجترحت مفهوم الرضا في نسبيته قياسا الى معنى السعادة الكلي بالمعنى والأثر، فالرضا هو الممكن تحقيقه من السعادة في عالمنا الحديث وهو ينتج عن أداء تكيفي يمارسه الفعل الانساني الحديث من أجل تجاوز أزمات الانسان الحديث، ويتموضع سلوك الرضا في مواجهة حالات البؤس المنتشرة من اجل استيعابها وتمريرها وتجاوزها، ويبعث الأمل على الرضا احساسا وسلوكا، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، أي أن الأمل هو منفذ الى سعة الحياة وملامسة جوهرها في السعادة الذي يكفل فيها تلك السعة وإمكانية الأمل وقدرة الرضا على أداء التكييف مع متطلبات ومتغيرات التاريخ البشري، وتظل تلك القدرات والامكانات في جوهر الحياة وتمارس أداءها بذاتية مستمرة في جوهر الحياة وهي ترسم السعادة في أشكال الحياة وخارج ارادتنا، ونجد في قولنا المألوف "شر البلية ما يضحك" تعبيرا عن اداء السعادة الخارج عن ارادتنا بانتمائه الى ارادة الحياة، ونجد في حالات البؤس الذي نصنفه وفق معاييرنا واحكامنا، نجد بشاشة وهشاشة وضحكا ولعبا وسلوكا يتقمص معنى السعادة حتى لا تفلت الحياة من بين يديه التي تتوقف السعة فيها احساسا وعيشا على جوهر السعادة، ورغم ان سعة الزنزانة في معتقلات مديرية الأمن العامة في ظل نظام الدكتاتور صدام كانت تبلغ 2 × 3 م وفيها ما يزيد على الثلاثين معتقلا وفي لهب الصيف الحار إلا أن الحس بالسعة فيها يغمرنا وكنا نردد "لاتتسع الدنيا لمتباغضين ويتسع شبر لمتحابين"، فالحب والايمان أهم أداءات السعادة في الحياة كانا يصنعان لدينا سعة الحياة، وكان حضور المباديء وسط مكابدات التعذيب وظلم الطغاة يزيدان في سعة الحياة والايمان لدينا.
وطالما انتابني شعور مؤلم بالإحساس بالذنب تجاه صور أطفال الشوارع في بغداد وهو شعور يشاركني فيه كل الناس في رؤية مشاهد هذا البؤس الجارح للإنسانية، لكن المفاجاة انهم أطفال يلعبون ويلهون ويضحكون ويعيشون بحالة هم يفهمونها وهم يدركونها... ترى هل هي بالنسبة اليهم سعادة ؟
انا لا أستطيع أن أقول شيئا سوى أن السعادة جوهر متأصل في معنى الحياة وانها خارج إرادتنا وفوق معاييرنا وانها تكمن بالقوة في وجودنا واخراجها الى حيز الفعل يكون بأداء الفعل الانساني المتعدد الصور.
اضف تعليق