كانت كنيتُهُ تتردّدُ كثيراً على لسانِ والدي (رحمه الله)، فكلّما أسمعَهُ يتحدّث مع خالي الكبير الدكتور ابراهيم عبد الحسين الطباطبائي (رحمه الله)، أسمعَهُ يكرّرُها (السيد ابو ابراهيم).
كان ذلك في الستّينيّات من القرن الماضي، وقتها لم يتجاوز عمري عدد أصابع اليد الواحدة.
لم اعرف من هو المقصود بهذه الكُنية، كما لم أكن لأجرؤ على السّؤال من الوالد او من الخال، فمثل هذه الأسئلة وبهذا العمر المبكّر جداً تُعتبر خلاف الأدب!.
كبرتُ قليلاً وبدأتُ أتردد على محافل القرآن الكريم والمنتديات الأدبيّة والثقافيّة المتواضعة التي تتناسب وعمري، والتي كانت تنتشر في كربلاء المقدسة وقتها، فبدأ إسمهُ الصريح يتردّد اكثر فاكثر على لسان الأدباء والعلماء والمثقّفين، نصيحةً تارةً وشعراً أو نثراً تارة أُخرى، او مقولةً محفوظةً تارةً ثالثةً.
حتى اذا انخرطتُ في اوّل حلقةٍ رساليّة، أعطاني المسؤول الحركي كتابين من الحجم المتوسط، كان قد دسّهُما بين صفحات جريدة (الثّورة) طالباً منّي قراءتها وتلخيصها في اللقاء القادم.
ذهبتُ الى البيت وانا احملُ صيداً ثميناً، فقد كنتُ اعشقُ القراءة والمطالعة.
مزّقتُ (الثّورة) واذا بالكتابين هما؛
[بين يدي الرسول الأعظم (ص)].
[من مدرسة الامام علي (ع)].
لمؤلّفهما (محمد بحر العلوم) هكذا كان مكتوبٌ على الغلاف.
وبينَما انا مُنهمكٌ في المطالعة، رمقني الوالد بنظرةِ قلقٍ، ففي العهد الجديد، عهد النظام القومجي العنصري الطائفي الشوفيني، فانّ عقوبة اقتناء كتابٍ لكاتبٍ غير مرغوبٍ فيه، الإعدام! كما لو انّك تقودُ مؤامرة لقلب نظام الحكم.
كان ذلك بداية السبعينيّات من القرن الماضي، عندما شنّ النظام الشمولي حملة اعتقالات واسعة جداً شملت أعداداً غفيرةً من العلماء والشباب الحركي والرسالي، انتهت بإعدام الشيخ عارف البصري ورفاقه الخمسة الشهداء، الامر الذي زاد في قلق الاباء وقتها، خوفاً على ابنائهم لمثل هذا السبب، مثلاً، اقتناء كتاب ممنوع!.
حاولتُ ان اخفي الكتابين عن نظراته الحذِرة والمتسائِلة، ولكن دون جدوى، فبادرني بالسؤال؛
ما هذه الكتب؟.
اريتهُ احدُهما، فوقعت عينيه على اسم المؤلف، فرأيت وكأنّ وجههُ استبشر خيراً واستقرَّ قليلاً، فقال وهو يبتسم؛
لا بأس عليك، فانا اعرفُ المؤلف!.
مرّةً اخرى، لم اجرؤ على السؤال منه؛ ومن هُوَ؟ وكيف تعرفهُ؟ وما علاقتك به؟ فلازال العمرُ مبكّراً على طرحِ مثل هذه الأسئلة!.
مرّت الايام لأكتشف ان (السيد ابو ابراهيم) هو نفسه (محمد بحر العلوم) مؤلف الكتابين.
لم اكُن اعرفُ لحد ذلك اليوم ان صلةَ قُربى من طرف الوالدة العلويَّة (رحمها الله تعالى) تجمعُنا مع السيد ابي ابراهيم، حتى اكتشفت ذلك في وقت متأخر وتحديداً في العام ١٩٩٢ في مصيف صلاح الدين، ولذلك قصة سأرويها في الجزء الثاني.
امّا الكتابان، فقد التهمتُهُما بسرعة البرق، لسلاسة اسلوبهما الأدبي الذي استخدمه السيد، وكأنّه كتبهما للشباب واليافعين ليقدّم بهما أنموذجاً رسالياً لعددٍ من الشّخصيات الرّسالية الرائعة في صدر الاسلام، محاولاً بالنّماذج تكريس قيم الإيمان والشجاعة والوفاء والإيثار والعمل الصالح والثقة بالنفس، في نفوس الجيل الجديد.
الانتفاضة الشعبانيّة
فجّر العراقيون انتفاضتهم الباسلة ضد النظام الشمولي القومجي العنصري الطائفي عام ١٩٩١ إثْرَ هزيمتهِ النّكراء والمخزية في ما عُرفت بحرب الخليج، اثر احتلاله للجارة الكويت.
وبسبب التّحريض المباشر من قبل نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية، ضد الانتفاضة، سمحَ (الحُلفاء) لنظام الطاغية الذليل باستخدام الطيران لقمع الانتفاضة والقضاء عليها، وهذا ما حصل، بعد ان دفع العراقيون ثمناً باهضاً جداً تمثّل بقافلة طويلة جداً من الشهداء الابرار وضحايا المقابر الجماعية واعداد غفيرة من المهاجرين.
ولقد دخلت القضيّة العراقيّة جرّاء هذه التطوّرات الداخلية والخارجية، الإقليمية والدولية، مرحلة حسّاسة فرضت على قادة المعارضة العراقيّة اجندات وأدوات وطريقة تفكير جديدة بشكل كامل.
ولقد كانت الحركة الاسلامية المعني الاول والاكبر في كلّ ذلك، لما تتمتّع به من حضور ميداني واسع، تتحمّل بإزائه المسؤولية المباشرة، فكان يجب عليها ان تأخذ بزمام المبادرة بأسرع وقت.
في هذه الأثناء شكّلت فصائل الحركة الاسلامية في العراق مجلساً قيادياً لتوحيد الرؤى وتنسيق العمل المشترك فيما بينها، للنهوض بأدائها الى مستوى التحدّي الكبير الذي بات يعيشه العراق بسبب ما خلقته الانتفاضة من تطورات ميدانية وتغييرات إقليمية ودولية نقلت القضية العراقية الى مرحلة جديدة تختلف كلياً عمّا هو موجود.
ولقد تشكّل المجلس الذي أطلق عليه اسم (البيت الاسلامي) من السّادة؛
اية الله الشهيد السيد محمد باقر الحكيم.
اية الله الشيخ محمد باقر الناصري.
آيه الله السيد محمد تقي المدرسي.
اية الله الشيخ محمد مهدي الاصفي.
حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد الحيدري.
حجة الاسلام والمسلمين السيد سامي البدري.
المرحوم حجة الاسلام والمسلمين السيد عبد العزيز الحكيم.
الشهيد عز الدين سليم.
المرحوم حجة الاسلام والمسلمين الشيخ محسن الحسيني.
الحاج علي الأديب.
الدكتور خضير الخُزاعي.
نــــــــزار حيدر.
يمثّلون بمجموعهم القوى السّياسية التّالية اسماءهم؛
المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق.
حزب الدعوة الاسلامية.
منظمة العمل الاسلامي.
حركة الدعوة الاسلامية.
حركة جند الامام.
جماعة العلماء في العراق.
ولقد واصل المجلس اجتماعاته بشكل مكثّف يناقش الظروف الجديدة وآفاق المستقبل، فتبنّى رؤى جديدة ورسم خططاً حديثة تتناسب والظروف الجديدة التي تمر بها القضية العراقية.
ومن بين ما اتّفق عليه المجلس هو ضرورة التحرك على المجتمع الدولي، كونه دخل كعاملٍ مهمّ في القضية، بعد ان ورّط نظام الطاغية العراق في حربه العبثيّة ضد المجتمع الدولي، من جانب، وبسبب الموقف السّلبي للأخير من الانتفاضة الشعبانيّة بشكلٍ خاص ومن تطلعات الشعب العراقي بشكل عام بسبب غياب قواه السياسية الفاعلة عن الساحة الدولية وعدم تواصلها مع القوى الدّولية المؤثّرة، من جانب آخر.
اثر ذلك، بدأ التحرّك السياسي والدبلوماسي الدولي بهدف التواصل مع المجتمع الدولي، فتمّ وقتها إنجاز اوّل حركة سياسيّة ودبلوماسية على الصعيد الدولي بهذا الصدد والتي تمثلت باللقاء الذي تم بين الشهيد السيد محمد باقر الحكيم والوفد المرافق له مع الامين العام للأمم المتحدة وقتها السيد خافير بيريز دي كوييار، وذلك في جنيف.
في نفس الوقت بدأت فكرة التأسيس لمظلّة سياسية شاملة تجمع كل القوى السياسية في المعارضة العراقية، من خلال عقد مؤتمر عام تنبثق عنه مؤسسات قيادية تاخذ على عاتقها التّخطيط وتنفيذ السياسات الجديدة التي تنسجم والظروف الإقليمية والدولية الجديدة التي احاطت بالقضية العراقية اثر حرب تحرير الكويت والانتفاضة الشعبانية (آذار ١٩٩١) الباسلة والخالدة.
هنا برز الدّور المرتقب الذي سيلعبه السيد محمد بحر العلوم كونهُ الشّخصية العراقية الاقدر من بين الجميع على جمع شمل قوى المعارضة لما يتمتّع به من صفات كانت مطلوبة لإنجاز مثل هذا المشروع الوطني الهام.
مهمّة التأسيس لمؤسّسة قياديّة
كانت مهمّة التأسيس لمؤسّسة قياديّة حقيقيّة تجتمع تحت مظلّتها كلّ فصائل حركة المعارضة العراقية، تخطّط وتنفّذ، مهمّة صعبة جداً يعدّها البعض شبه مستحيلة، وذلك لعدّة اسباب؛
اولاً؛ التناقضات والخلافات الحادّة والعميقة بين هذه الفصائل، سواء داخل التيار الواحد [الاسلامي والكردي والقومي والديمقراطي (الليبرالي)] او بين الفصائل في التيّار الواحد.
لقد كانت خلافاتها تتوزع على المستويات التالية؛
الف؛ الولاءات السياسيّة للدول المضيِّفة، فمثلاً، بينما كان حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد جلال طالباني، يميل بولاءاته الى ايران، كان الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود بارزاني، يميل اكثر الى تركيا، وبينما كانت الفصائل الاسلامية تميل الى طهران (الشيعية) والرياض (السنيّة) كانت القوميّة منها واليسارية الى دمشق، وهكذا.
باء؛ الرؤية والاهداف، فبينما كان التيار الاسلامي يرفع شعار (الاسلامية) لنظام الحكم المستقبلي، كان القوميون ينادون بالقومية، وهكذا.
وللآن اتذكر، مثلاً، كيف انّ هذه التيارات بذلت وقتاً طويلا جداً، تحاورُ وتناورُ، تجاوز الايام والأسابيع، بسبب الخلاف على ادراج البسملة في البيان الختامي لاحد اجتماعاتها!، فبينما كان الاسلاميّون يصرّون على ان يبدأ البيان بالبسملة، كان الشيوعيون يرفضون ذلك رفضاً قاطعاً، لدرجةٍ انّهم كانوا يهدّدون بالانسحاب اذا وردت البسملة!.
جيم؛ التمثيل وحجمه، فبينما كان التيار الاسلامي يصر على ان تكون له الحصة الأكبر في ايّة مؤسّسة قياديّة، يصرّ آخرون على ان يكون التمثيل متساوياً، وهكذا.
دال؛ وفوق كلّ هذا، كانت مختلف التيارات تعيش أزمة ثقة فيما ببنها بسبب الصراع على النفوذ وصراع الإرادات، والذي كان قد أفشلَ العديد من التجارب الوحدويّة السّابقة، واذا كان هذا الصراع يكتفي ببعده السياسي فقط، فانّه تجاوز السياسة الى السلاح، كما هو الحال بين الحزبين الكرديّين الكبيرين( الپارتي واليكتي) وكذلك بين (اليكتي والحركة الاسلامية في كردستان بزعامة المرحوم الملا علي عبد العزيز) وغيرها، والذي تمدّد ليتحوّل الى صراعات عسكريّة كانت نتائجها المزيد من الدماء والارواح والاسرى!.
ثانياً؛ التناقضات حدّ التقاطع بين القوى الإقليمية الثلاث المعنيّة بالدرجة الأساس في الملف العراقي (ايران وسوريا والسعودية) فبينما تعتبر طهران ودمشق أنفسهما حواضن طبيعية وتاريخية لحركة المعارضة العراقية، لما قدّماه من دعم وتأييد بكلّ اشكاله لمختلف فصائلها، كانتا ترفضان ان يكون للرياض دور يعتدُّ به، حدّ الاستحواذ، في اي مجهود بهذا الصدد، لانّها ظلّت تدعم نظام الطاغية الى آخر لحظة، كما انها لم تكن على علاقة، ومن اي نوع مع المعارضة، والعكس هو الصحيح، فلقد كان موقفها معادياً جداً لها، فهي تتحمّل مسؤولية الدماء الطاهرة والارواح البريئة التي وُئدت في المقابر الجماعية بعد قمع النظام للانتفاضة الشعبانية الباسلة.
لقد حاولت الرياض الاستحواذ على اي مجهود بهذا الصدد بأموالها، وأتذكر مرّة ان مسؤولاً سورياً بارزاً عبّر عن رفض دمشق وطهران لمثل هذا الامر، بالقول؛ يكفينا من الرياض أموالها، اما رايها فلتحتفظ به لنفسها، لسنا بحاجة اليه!.
ثالثاً؛ الشكوك وانعدام الثقة بين جلّ تيارات حركة المعارضة والمجتمع الدولي الذي دخل على خط الأزمة العراقية بشكل مباشر وواسع بسبب سياسات نظام الطاغية الذليل صدام حسين الحمقاء وعنتريّاته وبهلوانيّاته.
وسط هذه المعاناة والمخاطر والعُقد المتعدّدة الأشكال والمستعصية، فانّ تحمّل مسؤولية التأسيس للمؤسسة القيادية كان أشبه بالانتحار السياسي.
ولقد كان السيد محمد بحر العلوم من اكثر الشخصيّات في حركة المعارضة العراقية القادرة على التصدّي لمسؤولية مثل هذا التأسيس لاعتبارات عديدة لعلّ من ابرزها؛
١/ كونهُ شخصيّة مستقلّة، لا يحسبها احدٌ من المعنيين بالملف العراقي، سواء من تيارات حركة المعارضة او القوى الإقليمية والدولية، على ايٍّ من التيارات الآنفة الذكر.
٢/ كونهُ ذات تاريخ جهادي طويل جداً يفوق الاخرين، وقد كان اكبرُهم سناً، وأوسعهم خبرةً، ومن انظفهم يداً وولاءً.
٣/ كونهُ سليل أسرة عريقة هي محط احترام كل العراقيين بلا استثناء.
٤/ كونهُ على علاقة حسنة مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بالملف العراقي.
٥/ وتحديداً، كونهُ ليس جزءاً من الفصائل المحسوبة على الجمهورية الاسلامية في ايران، وهي الفصائل التي كانت تتحسّس كثيراً من ايِّ دورٍ للولايات المتحدة الأميركية في الملف العراقي لاعتبارات عديدة، كما ان الاخيرة كانت تتحسّس منها لنفس الاعتبارات، وأكثر!.
...وبدأت الاستعدادات!
مؤتمر صلاح الدين
واخيراً؛ تُوِّجت الجهود التي بذلها قادة في المعارضة العراقية، وعلى رأسهم السيد محمد بحر العلوم، بولادة المشروع القيادي الذي جمع كلّ فصائلها وشخصيّاتها، وذلك على مرحلتين؛
المرحلة الاولى؛ تمثّلت بانعقاد المؤتمر العام للمعارضة في (فينا) والذي قاطعته، لأسباب عديدة، عدد من القوى السياسية الرئيسية من التيارين الاساسيّين في حركة المعارضة الا وهما، الاسلامي والقومي.
وقد انبثق عن اجتماع (فينا) مشروع (المؤتمر الوطني العراقي) الذي شكّل جمعية عامة ومجلس تنفيذي.
المرحلة الثانية؛ تمثلّت بانعقاد الاجتماع الموسّع لكلّ قوى المعارضة تقريباً والذي شمل (المؤتمر الوطني العراقي) وكل القوى التي قاطعت (مؤتمر فينا) وذلك في مصيف (صلاح الدين) في محافظة اربيل بإقليم كردستان، والذي انبثق عنه (المؤتمر الوطني العراقي الموحد) الذي انبثقت عنه المؤسسات التالية؛
الهيئة العامة من حوالي (٤٥٠) عضواً مثّلوا كل اطياف حركة المعارضة العراقية بلا استثناء.
المجلس الرئاسي، والذي انتخبته الهيئة العامة، وقد تشكل من السادة (العلامة محمد بحر العلوم، مسعود البارزاني، والمرحوم حسن مصطفى النقيب).
المجلس التنفيذي والذي رشّحه المجلس الرئاسي للهيئة العامة التي صادقت بدورها عليه، وقد تشكل من (٢٥) عضواً مثّلواً، كذلك، كل اطياف حركة المعارضة العراقية بلا استثناء.
وكنت شخصياً أحد أعضائه.
المجلس الاستشاري والذي تشكّل من اكثر من (٥٠) عضواً مثّلوا كل الاطياف والشخصيات المعارضة.
وفي اول اجتماع للمجلس التنفيذي تم انتخاب الدكتور احمد عبد الهادي الجلبي رئيساً له.
كما تمّ انتخاب الدكتور عبد الحسين شعبان أميناً للسرّ والدكتور صلاح الشيخلي ناطقاً رسمياً باسم المؤتمر.
كما تم ّتشكيل المكاتب التنفيذية وانتخاب رؤسائها.
وقد تقرر إصدار صحيفة رسمية باسم المؤتمر حملت اسم (المؤتمر) كما تمّ تاسيس الإذاعة الناطقة باسم المؤتمر.
ولقد اتخذ المؤتمر من مصيف (صلاح الدين) مقراً رئيسياً له.
وكانت الجمعية الوطنيّة قد صادقت على دستور المؤتمر والذي كان قد دوّنه واقترحه البروفيسور الدكتور القانوني الفذ السيد حسن عبد الهادي الجلبي.
ولقد بذل السّيد بحر العلوم جهداً كبيراً ومتميزاً في الفترة الممتدة بين انعقاد مؤتمر (فينا) ومؤتمر (صلاح الدين) لاقناع القوى السياسية المعارضة التي قاطعت المؤتمر الاول، وفيها قوى أساسية كالدعوة والمجلس والعمل، الى جانب عدد من قوى التيار القومي، فلولا قبولها حضور مؤتمر صلاح الدين ما كان يمكن ان نشهد ولادة (المؤتمر الوطني العراقي الموحّد).
بدأ السيد بحر العلوم تحرّكه السياسي وحركته المكوكيّة على القوى المقاطعة بُعيد الانتهاء من مؤتمر فينا، لتقريب وجهات النظر وإيجاد الارضيّة المشتركة بين جميع القوى لتسهيل عقد الاجتماع، فزار، بادئ ذي بدء، العاصمة طهران للقاء قادة الحركة الاسلامية، وعلى رأسهم الشهيد السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الاعلى، واية الله الشيخ الاصفي الناطق الرسمي باسم حزب الدعوة واية الله السيد محمد تقي المدرسي زعيم منظمة العمل، والشهيد عز الدين سليم (الحاج ابو ياسين) زعيم حركة الدعوة الاسلامية، وآخرون.
وخلال هذه الزيارة تشرّفتُ بزيارة السيد بحر العلوم في محلّ إقامته، فكانت الزيارة بالنسبة لي اول فرصة للتعرّف عليه عن قرب، اذ تبادلت معه الاّراء والأفكار وكل ما يتعلق بمشروع المؤتمر المزمع عقدهُ في صلاح الدين، كما اطلعتُ منه عن وجهة نظره بشأن مختلف القضايا التي تخصّ عمل المعارضة العراقية والظروف المستجدّة التي تحيط بالقضية العراقية اثر الانتفاضة الشعبانية الباسلة وتطوّرات الموقف الدولي المستجد بعد حرب تحرير الكويت.
وفي هذه الزيارة لم اشأ ان اعرِّفهُ بنفسي، على اعتبارها اوّل لقاء بيني وبينه.
فكيف ومتى عرّفته بنفسي؟!.
العراق لكلِّ العراقيين
لم تنقطعْ علاقتي بالسيد بحر العلوم على مدى قرابة ربع قرن من الزمن، ولقد كانت اخر زياراتي له العام الماضي في منزله بالنجف الأشرف، والتي امتدت حوالي ساعتين لم نشعر بهما ونحن نتحدّث في مختلف القضايا، الأدب والثقافة، الدّين، المرجعيّة، السياسة، السّلطة، وفي كلِّ شيء، فلقد كان السيد موسوعة ليست علميّة ومعرفية فقط، وانّما كان كذلك مخزوناً هائلاً من الخبرة المتراكمة والتجارب، فلقد عاش السيد عدة اجيال اكتسب منها الخبرة واختزنها، ساعياً الى نقلِها من جيل الى اخر.
وعندما تجلس الى السيد تشعر وكانّك في حضرة أستاذ موسوعي لا تسأله عن شيء الا ويجيبك، ولا تسأله عن أحدٍ الا ويعرّفك به، فكان حديثه شيقاً جيداً.
ومن حسن حظّي انّ علاقتي بالسّيد كانت قائمة على الثقة المطلقة، ولذلك كان يسُرّني كثيراً ويُفضي لي آلامهُ وآماله ومعاناته، فكنتُ اشعر وكأنّه يجد فِيَّ (البئر) التي يرمي في أعماقها أسرارهُ التي لم يشأ البوح بها، لثقته العالية بي، كلما حالفني الحظ في لقاءٍ به او زيارةٍ له، منذ ايام (صلاح الدين) وحتى النجف الأشرف.
وللآن اذكر تلك اللّحظة التي انتفض بها من على أريكتهِ، عندما عرفني حقَّ المعرفة.
ففي ليلةٍ من ليالي (صلاح الدين) المُثلِجة، وبينما كنتُ أتمشّى في مقر (المؤتمر) في صلاح الدين، اقطعُ المسافات الممتدة بين المكاتب وغرف الإقامة، صادف ان مررتُ على مكتب السيد، وكان في زيارته الاخ الدكتور احمد الجلبي، وكانت بابُ المكتبِ مفتوحةٌ على مصراعيها، ربما أراد السيد بذلك ان يوحي للآخرين بانّ الاجتماعَ ليس سرّياً، فليس هناك ما يخفيه عنهم.
مررتُ امام باب المكتب فسلّمتُ عليه من بعيد، فرد السيد الجواب، واذا بالدكتور الجلبي، يناديني بصوتٍ عالٍ؛ نـــزار نــــزار!.
نعم دكتور، أجبتُه.
تفضّل عند السيّد.
عدتُ عدّة خطوات الى الوراء ودخلت مكتب السيد، والذي نهض ليصافحني ويرحّب بي، طبعاً بشكلٍ رسمي، ان صحّ التّعبير، كونه عضواً في مجلس الرئاسة وانا عضوٌ في المجلس التنفيذي.
قال لي تفضّل، فجلستُ ثمّ سألني ان كنت اشربُ شيئاً من باب الضيافة.
عندها بادرني الدكتور الجلبي وطلبَ منّي ان أُعرّف نفسي للسيد.
فبدأت أُحدّثهُ، فعرّجت على العائلة وما الى ذلك، فذكرتُ له، في البَين، اسم الوالد، رحمهُ الله.
لم أُكمِل حديثي، اذا بالسيد يقفزُ، لحظتها، من مجلسه واقفاً، ثم سألني؛ أأنتَ حقاً ابن المرحوم؟!.
قلت لَهُ؛ وهلْ تعرفُه؟!.
تجاهلَ السيد سؤالي، ثم أخذني بالاحضان، وضمّني الى صدرهِ وكأنّه يضمّ اليه احدَ أولاده.
ثمّ راح يحدثُني عن علاقته التاريخية القديمة بالوالد وعن صلةِ القربى والدّم بيننا، ثم سألني بالتفاصيل عن اخبار عدد من الاهل والأقارب، الامر الذي أعادني الى الوراء سنين طويلة، لتقف في ذهني شاخصة، وكأنها حدثت أمس، صورة الوالد وهو يُخبرني بأنّه يعرف جيداً مؤلف الكتابين!.
ولقد بَنَتْ لحظات التعارف هذه علاقتي بالسيد على أساس الثقة، فكان يُعاملني ويتعامل معي وكأنّه احد أولاده، فلم تكن السياسية هي الوحيدة في هذه العلاقة، ولذلك كنتُ محطّ أسراره، وحديثه الصريح وآرائه الخاصة في مختلف القضايا.
لقد تميّز السيد بحر العلوم بثلاث صفات كانت السبب الأساس في ان يكون نقطة التقاء جميع الفرقاء، حتى المتناقضين منهم. فلقد كنتُ اعتبرها (ثلاثيّة) التوافق بين الجميع، والتي كان يندر اجتماعها باحدٍ في تلك الظروف القاسية في حركة المعارضة العراقية.
الصّفةُ الاولى؛ الوطنيّة، فكان يرفض التمحور حول كلّ القيَم الضيّقة الاخرى، من منطلق مبدأ (العراق لكلِّ العراقيين).
كما كانَ مستعداً للتضحية بكلّ شيء من اجل وطنه، حتى بسمعتهِ، وهي لمثله مهمةٌ جداً تتعلق بالاسرة والحوزة والعمامة، وكان يرفض المساس بمصالح البلاد ولا يقبل ابداً تقديم ايّة مصلحة لأي طرفٍ كان، سواء من القوى الإقليمية او الدولية التي دخلت على خط القضية العراقية، على مصالح العراق.
الصّفةُ الثانية؛ الوسطيّة، فكان ينبذ التزمّت والتطرّف والعنف والتخندق الحزبي واحتكار الحقيقة، ولهذا السّبب، ربما، لم ينتمِ الى حزبٍ معيّن ابداً، فالحزبيّة عندنا، اقصد في العالم الثالث وتحديداً في العراق، تساعد على تنمية هذه الأمراض في شخصيّة المنتمي لها، بغضّ النظر عن هويّة الحزب وخلفيته، فهي أمراض حزبيّة مشتركة!.
وكنتُ أحياناً أُمازحهُ بالقول؛ سيّدنا لماذا لا تشكّل حزباً جديداً لننضوي تحت لوائه؟ فكان يجيبُني بكلّ جديّة؛
انّ ساحتنا لا تتحمّل وجود حزب وطني معيار الانتماء اليه المواطنة فقط. بغضِّ النّظر عن الدين والمذهب والإثنية والمناطقية، فكل أحزابنا هي إمّا دينية او مذهبية او إثنية، ولذلك لا تجد معنى للوسطية في ساحتنا وانما {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} يضيفُ السيّد.
ولقد صدقت رؤية السيد بهذا الصدد، ليتحوّل مشروع المظلّة نَفْسَهُ (المؤتمر) الى حزب يتمحور حول شخصٍ واحدٍ كأيِّ حزبٍ آخر!.
الصّفةُ الثّالثة؛ التعايش، فلقد كان السيد يؤمن إيماناً مطلقاً بانّ الحل لكل مشاكل المعارضة، آنذاك، والعراق فيما بعد، تكمن في ان يؤمن الجميع بمبدأ التعايش، فلا يُلغي أَحدٌ الاخر ولا يتجاوز احدٌ الاخر، كون العراق بلد متعدّد في كل شيء لا يمكن ان يستقرَّ ويهدأ ابداً الا بتعايش الكلّ مع الكلّ، ولقد جرّب كثيرون سياسات الالغاء والاقصاء فما جَنَوا الا الخيبة والفشل.
واليوم، وبعد عقودٍ من زمن المعارضة وأكثر من عقد من زمن السلطة الجديدة، اعتقد انّ العراق بحاجةٍ اليوم الى هذه القيم التي ذاب فيها السيد، وبذلَ كلّ جهده من اجل ان يحقّقها كواقعٍ ثقافي في المجتمع العراقي، وعلى مختلف المستويات وليس على مستوى العمل السياسي والسلطة فقط.
لقد خسِرَ العراق احد ابرز رموزه الوطنية، والذي حدد رؤاه عن تجربة وخبرة وليس تنظيراً ولغواً وانشاءً، كما يفعل كثيرون، ولذلك يلمس اليوم الجميع صحّة رؤاه.
فسلامٌ على الفقيد العلَامة الحجّة الدكتور السيد محمّد بحر العلوم، يوم وُلد ويوم جاهد ويوم توفي ويوم يُبعثُ حيّا عند مليكٍ مُقتدر.
اضف تعليق