إن الفكر بجميع اتجاهاته وأصنافه ومشاربه، يكون مؤثر على العقول من خلال تحويله إلى قرارات أو تصاميم، أو خطوات عمل، وهذا يعني أن الفكر السياسي يحمل من الأهمية الكثير قد يفوق فيها مجالات التفكير الأخرى، فما فائدة أن يكون الفكر الاقتصادي جيدا، والحاكم يحمل فكريا سياسيا منحطّا، فالانحطاط السياسي سينعكس عاجلا أم آجلا على الاقتصاد
لماذا يتزمّت الإنسان بفكره، ولماذا يؤمن بصورة مطلقة بأن ما يراه هو لا يراه الآخرون، وأنه الوحيد صاحب الرأي الصحيح والفكر الثاقب، أما الآخرون فإنهم وفق رؤيته على خطأ، هناك أسباب عديدة تقف وراء مثل هذا التزمت (المريض)، منها على سبيل المثال، تضخّم الذات، والغرور، وغياب الاتزان والوسطية، قد يكون الأب يحمل مثل هذه الصورة، فيكون إلى الفشل أقرب من غيره، وقد يكون مدير المدرسة أو المؤسسة، ولكن الأخطر من هؤلاء جميعا هو الحاكم الذي يرى في نفسه إله يتحكّم بالجميع، من دون أي اعتراض من أي شخص كان.
إن الفكر بجميع اتجاهاته وأصنافه ومشاربه، يكون مؤثر على العقول من خلال تحويله إلى قرارات أو تصاميم، أو خطوات عمل، وهذا يعني أن الفكر السياسي يحمل من الأهمية الكثير قد يفوق فيها مجالات التفكير الأخرى، فما فائدة أن يكون الفكر الاقتصادي جيدا، والحاكم يحمل فكريا سياسيا منحطّا، فالانحطاط السياسي سينعكس عاجلا أم آجلا على الاقتصاد، وعلى مجالات الحياة الأخرى حتى الاجتماعية والعرفية منها، من هنا تأتي الأهمية القصوى لسلامة الفكر السياسي، كونه يقود الحقول الفكرية الأخرى، وقراراته بتنوّعها وفرديتها أو بعلميتها ستنعكس إيجابا أو سلبا على المجالات الأخرى.
وحتى مع هذه الأهمية الكبيرة للفكر السياسي، هناك من لا يعبأ أو لا يعي حجم التأثير الكبير الذي يعكسه هذا الفكر، على إدارة الدولة ومؤسساتها وأركانها، وأعني بهؤلاء الطبقة السياسية الحاكمة، فكلما كان هذا الفكر متطورا واعيا، وينحو الى المدنية والتهذيب، كلما حصلنا على دولة ترتكز على الدعائم العصرية المتطورة، ويحدث العكس تماما، حيث ينعكس تدهور الفكر السياسي للطبقة الحاكمة على الاجتماع والتنمية والاقتصاد وما شابه، لذلك في الغرب أو في الدول الناهضة عموما، يقع السياسي الحاكم تحت سلطة الرصد التشريعية الرقابية والإعلامية الكبيرة، فلا تسمح له بالتفرد بفكره أو قراراته أو نزواته وأمراضه النفسية، على العكس من حكام وحكومات بلدان الشرق مع استثناءات قليلة.
الإعلام والرقابة على الحاكم
الحاكم في الغرب غير مطلق اليدين وليس هناك سياسي في الغرب يتمتع بحصانة رقابية أو إعلامية تحميه من أقلام الكتاب والصحفيين، أو من فرشاة الرسام الساخر، أو من عدسة المصور الصحفي او التلفزيوني، بل كلما كان السياسي ذا منصب أعلى في الدولة، كلما كان هدفا لسخرية الرسم الكاريكاتيري أكثر من غيره، وليس له الحق في الاعتراض او المقاضاة، لأن الأمر يتعلق بالحريات الإعلامية أولا، وثانيا لأنه لا يمثل نفسه فقط، فطالما كان ذا مسؤولية كبيرة، فإن أخطاءه تنعكس على الجميع، من هذا التصوّر عليه أن يوافق بالرقابة الإعلامية عملا بالمعادلة التي تقول، كلما كان منصبك أعلى كلما أصبحت أكثر من غيرك عرضة لرقابة الإعلام والناس عموما، لأن عملك لا يخصك وحدك ولا عائلتك، إنك تقوم بخدمة الآخرين مقابل منصبك العالي.
في العراق السياسي الحاكم لدينا لا يؤمن بالرقابة الإعلامية، بسبب ضعف الفكر السياسي لديه، فهو يظن انه شخصية محصَّنة ضد الرقابة، ولا يقبل الرأي الذي يظهر له أخطاءه في هذا المجال أو ذاك، والسبب اعتقاده بأنه لا يخطئ، وأن أفكاره السياسية لا يشوبها الخلل، وثمة مشكلة أكبر وأخطر، أن بعض السياسيين يعرف بأنه على خطأ، وأن الفكر السياسي الذي يدير البلد من خلاله فكر هش، أو ضعيف، ومع ذلك يبقى مصرّا على ما هو عليه، وتندمج الشخصية المقفلة له مع فكره الضعيف، فيظهر ذلك على شكل قرارات وسلوكيات تحصّنه من الرقابة الإعلامية وحتى القانونية، ولدينا وزراء ومدراء عامين ومسؤولين كثر، ينتمون الى الطبقة الحاكمة التي لا تحمل فكرا سياسيا مدنيا، يدفعها للإيمان بأن الدولة المدنية لا تُبنى بقمع الإعلام، أو فرض الرأي الواحد، أو التصدي لحالات النقد بأنواعها كما يفعل الحكام من ذوي الفكر المتزمت الذين لا يفهمون ولا يعرفون قيمة الفكر السياسي الوسطي.
أهم أسس النظم الديمقراطية
استنادا الى ما مرّ، نحتاج إلى فكر غير حاد ولا قطعي، ونريد مفكر معتدل، وسياسي متفهّم لا تأخذه العزة بالإثم، نحن كعراقيين بحاجة للمفكر الحر المعتدل، وللفكر السياسي المتطور المعاصر، ولعل أحد أهم الركائز الرئيسة التي تدعم هذا المسار منهج التعددية، لأن الأخيرة من أهم أسس النظم الديمقراطية الحقيقية، في المقابل، من اخطر الظواهر على العملية السياسية الأحادية، لذلك على الطبقة الحاكمة أن تنبذ كليا مبدأ: من لم يكن معي فهو ضدي. وأن تفتح النوافذ والابواب واسعة للمشاركة الجماعية في صياغة القرار، بعيدا عن التفرد والاستئثار بالفوائد، على حساب الآخرين، لأن ظواهر الاستئثار والتحجيم والمنع وما الى ذلك مما تلجأ إليه الطبقة الحاكمة، تنم عن فكر سياسي مغلق، قصير النظر، لا يمتلك مقومات الاستمرار، والسبب، أن ضعف الفكر السياسي وانحساره وقصر آفاقه، ينعكس على الميادين الاخرى بقوة، فتبدو الدولة بأكملها وكأنها رهن طبقة واحدة، تحاول فرض هيمنتها على الجميع، وهذه محاولة لن يُكتب لها النجاح استنادا الى ما تقوله تجارب التأريخ العراقي او سواه، القريبة منها والبعيدة، نحن بالنتيجة نرفض الفكر القطعي ولا نريد المفكر المتعصب لرأيه وفكره، ونرفض السياسي المتزمت الذي يختصر الجماهير كله في شخصه كما فعل الدكتاتوريون في العراق وبلدان عربية وفي أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
هذا يعني بشكل قاطع لا يقبل الجدل أمما كعراقيين نحتاج أكبر الاحتياج إلى فكر سياسي متجدد، منفتح، متعدد الآفاق، ينتشر أولا بين أفراد وتجمعات الطبقة الحاكمة، ليقضي كليا على الشخصنة بكل أنواعها وأبعادها، ويمنح الجميع، مواطنا ومسؤولا، القدرة على المشاركة في إدارة الدولة وبنائها، وفقا لنظام المؤسسات القوية المنفصلة عن بعضها، بإدارة فكر سياسي مدني معاصر ينزع إلى التطور المستدام، وفي حال ساد هذا النوع من الأفكار السياسية المرنة، والمستندة إلى الدستور ودولة المؤسسات، فإن ذلك سوف ينعكس على الجميع، فيُصبح تفكير الفرد، الجماعة، المفكر، الإنسان العادي، وسطيا، قابلا للتباحث والتعاطي مع الأفكار الصادرة من الآخرين.
اضف تعليق