القطاع تحول منذ منتصف العام 2007 لمنطقة فراغ سياسي عمليا، فلم تعد إسرائيل تتعامل معه كمنطقة تخضع لاتفاقات سياسية، ولم تعد أرضه عسكريا أرضا محتلة بالمفهوم العسكري اللوجستي رغم أنه بقى إلى يومنا هذا محاصرا برا وجوا وبحرا؛ إذ اعتبرته إسرائيل كيانا معاديا غير خاضع...

في علم السياسة لا يمكن تصور أي اتفاق سياسي قابل للتنفيذ والصمود بدون استناد هذا الاتفاق إلى واقع قائم على الأرض، فالسياسة ليست إلا المكونات المرنة لما هو مكونات مادية قائمة لأي علاقة قائمة بين البشر. وانطلاقا من هذه الحقيقة يمكننا تحليل واستشراف مستقبل أي علاقة أو اتفاق سياسي بالنظر مليا في المكونات المادية القائمة لأطراف العلاقة أو الاتفاق وليس هناك استثناءات في هذا الصدد وإن وجدت فهي ليست إلا حالة خاصة سريعة التلاشي لا يمكن القياس وتبقى الحقيقة أعلاه هي القاعدة الثابتة. ومن هذه الحقيقة نقدم تحليل مختصر لطبيعة العلاقة بين قطاع غزة وإسرائيل خلال العقد الماضي وصولاً إلى اللحظة الحرجة الحالية والتوقعات المستقبلية الاستشرافية التي ستسفر عنها.

فقد مَثَل قطاع غزة خلال العقد الماضي استمرارا استثنائيا للحقيقة سالفة الذكر أعلاه؛ والتي أكدتها اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل ما يزيد عن ربع قرن؛ والتي كانت في الحقيقة ترجمة للواقع المادي (موازين القوة) بين الطرفين في حينه.

ومنذ العام 2007 والذي شهد انقلابا عسكريا قادته حركة حماس أدى إلى خروج السلطة الفلسطينية منه وتجميد اتفاق أوسلو سياسيا في القطاع بفعل غياب الطرف الموقع عليه من إدارة شؤونه، وهو ما أعطى لإسرائيل حرية مطلقة في التعامل مع القطاع بعيدا عن أي التزامات سياسية طبقا للاتفاقات الموقعة بينها وبين منظمة التحرير أو حتى قانونية ذات علاقة بالقوانين الدولية، وهذا تحديدا ما أرادته إسرائيل باكرا وتجلى ذلك عمليا في انسحابها العسكري ومن طرف واحد ودون أي اتفاق سياسي من القطاع نهاية العام 2005.

وعليه فإن القطاع تحول منذ منتصف العام 2007 لمنطقة فراغ سياسي عمليا، فلم تعد إسرائيل تتعامل معه كمنطقة تخضع لاتفاقات سياسية، ولم تعد أرضه عسكريا أرضا محتلة بالمفهوم العسكري اللوجستي رغم أنه بقى إلى يومنا هذا محاصرا برا وجوا وبحرا؛ إذ اعتبرته إسرائيل كيانا معاديا غير خاضع لأي اتفاق سياسي، وهذا الوضع الاستثنائي وفر لفصائل العمل المسلح وعلى رأسها حركة حماس الحاكم الفعلي للقطاع والمتحكم الرئيسي في هذه الحالة الاستثنائية السياسية وفر لها وضعا مريحا جدا في إدارة شؤون القطاع وبناء قوتها العسكرية وأعطاها فرصة التجربة لمحاولة تغيير الواقع المادي في العلاقة بين القطاع وإسرائيل؛ وهنا كان الفخ السياسي الإسرائيلي العميق الذى لم تنتبه له حماس أو ربما تغاضت عنه؛ وهو أن محاولة تغيير الواقع المادي في العلاقة إنما تحول إلى تغيير في العلاقة السياسية بين طرفين هما غزة وإسرائيل؛ وليس بين شعب فلسطيني له قضية وقوة احتلال، ولقد دعمت إسرائيل هذا المفهوم عسكريا وسياسيا عبر تحويل غزه إلى قضية منفصلة تماما عن مجريات الحراك السياسي لتسوية الصراع باعتبارها كيانا سياسيا منفصلا عن ملفات قضايا الصراع الخمس وضمن أي تسوية للصراع؛ بحيث أصبح للقطاع قضاياه الخاصة ذات الأولوية القصوى؛ والتي هي في مجملها قضايا غير سياسية ومنفصلة تماما عن قضايا الحل النهائي للصراع.

وفي هذا السياق أصبحت غزه ومنذ العام 2007 تخضع في علاقتها مع إسرائيل لجملة من الإجراءات الاقتصادية والعسكرية تستعيض بها إسرائيل عن الاتفاق السياسي مضمونها في الأساس الفرض القسري من جانب إسرائيل عبر صيغة عملية مفروضة على الأرض ومحافظ على بقاءها واستمرارها ضمن معادلة الردع العسكري المستندة في الأساس للميل الفاضح لميزان القوة العسكرية لصالح إسرائيل وهذا الوضع مستمر منذ اثنى عشر عام؛ ولكن من الواضح أننا اليوم أمام مرحلة سياسية جديدة في الإقليم مضمونها صفقة إقليمية أمريكية إسرائيلية؛ وتريد إسرائيل من خلالها استثمار إنجازاتها المحققة على الأرض في تثبيت مضمون ما هو قائم في اتفاق سياسي دائم ومحمي بضمانات دولية؛ ومن الواضح أن وضع قطاع غزه السياسي الحالي أصبح يمثل جزءً أساسيا إن لم يكن حجر الزاوية لهذا الاتفاق مع بعض التعديلات في الشكل دون المساس بالمضمون؛ وكذلك التقدم غير المعلن في تلك الصفقة الإقليمية هو ما كبح جماح إسرائيل في المواجهة الأخيرة مع غزه والتي بدت شبه متوازنة عسكريا بين الطرفين؛ وهو ما سبب بالغ الحرج للحكومة الإسرائيلية أمام جمهورها وكاد يعصف بالحكومة.

وعلينا أن ندرك أن ما جرى من كسر أو تعطيل لمعادلة الردع الإسرائيلية في غزه هو حدث مؤقت فرضته اللحظة السياسية الراهنة؛ والعلاقة مع غزه ستبقى في منظور إسرائيل تحكمها معادلة قوة الردع العسكرية المباشر في غياب أي اتفاق سياسي بين حماس وإسرائيل يكون مضمونه تكريس الواقع المادي على الأرض والذي تميل فيه موازين القوة لصالح إسرائيل.

ومن هذا المنطلق فإن استعادة إسرائيل لمعادلة الردع مع غزه لا تبدو إلا مسألة وقت؛ وقد تختلف الطريقة التي تخطط إسرائيل من خلالها لاستعادة الردع مجددا مع غزه عن طرقها السابقة لتلافي أي تأثير على مجريات ما يدور على الأرض من تمرير لصفقة التسوية الأمريكية؛ وإسرائيل اليوم غير معنية بظهور صور مجازرها للمدنيين العزل من سكان القطاع على وكالات الأنباء؛ وعليه فإن أي عمل عسكري إسرائيلي من المرجح أن يكون موجها ومركزا جدا ويستهدف هدفا عسكريا مفصليا وثمينا جدا يكون من شأنه إرسال رسالة واضحة لا تقبل اللبس في قدرة إسرائيل وعزمها على جبي ثمن باهظ من كل من يفكر في قطاع غزه مستقبلا في تغيير قواعد اللعبة السياسية القائمة؛ وضربة كتلك هي في الأساس تبدو ضربة ضرورية لإسرائيل ومبرمجة ضمن مراحل تسوية الأمر الواقع القائمة.

ومن هنا ينبغي على جميع أصحاب القرار السياسي والعسكري في قطاع غزه إدراك الصورة البانورامية لما يجرى والقفز مباشرة ودون أي تأخير نحو وحدة القرار السياسي والعسكري وإنهاء الانقسام للتقليل من النتائج الكارثية التي تحدق بمصير الوجود الفلسطيني على هذه الأرض.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
Political2009@outlook.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق