صعود ما يسمى الخطر الإيراني في المنطقة كمصدر للتهديد أدى إلى تقارب غير مسبوق في علاقات بعض الدول الخليجية مع (إسرائيل)، وتغير علاقات عدد من تلك الدول مع إيران أخذ منحى صراعي أدى بتلك الدول إلى التقارب مع (إسرائيل) على قاعدة الخطر المشترك، ما قاد...
منذ أحداث الربيع العربي التي عصفت في الشرق الأوسط كانت هناك مساعي حثيثة نحو تحويل الخطر الجيوسياسي في المنطقة من إسرائيل إلى إيران. وبالرغم من أن هذه المساعي لم تكن جديدة فهي تعود إلى إتفاقات أوسلو (1993) ووادي عربة (1994)، غير أن التغير الأبرز الذي دفع إلى إستعجال هذه المساعي هو تغير موازين القوى في الشرق الأوسط بعد العام 2011، وقبلها والممهد لها هو غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق بعد العام 2003.
إذ يمكن للمتتبع أن يلحظ أن احتلال العراق في العام 2003، أدى إلى تلبية الحاجات الإستراتيجية المشتركة للطموحات (الأمريكية-الإسرائيلية) الإقليمية والدولية. إذ لم يعد العراق يؤدي وظيفته كموازن إستراتيجي في البيئة الأمنية في الشرق الأوسط، غير أن هذا الاختلال البنيوي جعل التوازن في المنطقة يمل إلى إيران وحليفتها سوريا باتجاه صعود محور الممانعة كلاعب مؤثر ومناهض للمصالح الأمريكية في المنطقة مقابل إنكشاف دول الخليج، ووهن قوتها أمام الصعود الإيراني. وأمام هذا الصعود أخذت المنطقة تعيش أجواء معادلة جديدة لتوازن القوى، وهو ما جعل ثلاثة قوى إقليمية تتحكم في توازنات المنطقة وهي تركيا، وإيران وإسرائيل.
وبينما نسجت إيران خيوط الممانعة في علاقتها مع تركيا مستغلةً إندفاعها ضد إسرائيل، محدثة تقارباً سورياً عراقياً تركياً ممانعاً، جاءت أحداث الربيع العربي لتغير معادلة التوازن الإقليمي في المنطقة، الأمر الذي وضع كل من تركيا وإيران على طرفي النقيض ورفع حدة التوتر في العلاقة بين الطرفين، وهدد هذا المسار إمكانية الصدام بينهما إلى ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في سوريا بعد العام 2011، وعليه أنتجت الأزمة السورية إلى جانب التغيرات الأخرى في المنطقة العربية واقعاً جيوسياسياً معقداً في الإقليم برز في التنافس الإيراني التركي.
وقد دفع هذا التنافس إلى أحداث تلاقي خليجي-تركي بهدف تقويض إيران في المنطقة، إذ لم يكن الاستقطاب التركي الإيراني معزولا بين الطرفين فقط، بل برز دوره في الموقف الخليجي من الأزمة السورية الداعم للجماعات المسلحة المناهضة للحكومة السورية.
ولكن ينبغي أن نعي أن هذا التلاقي التركي الخليجي جاء في ظل ما يمكن أن نسميه (مرحلة النهوض الخليجي) التي عبرت عن نفسها من خلال سعي دول الخليج إلى إعادة تعريف دورها بالمنطقة بما يتضمنه من إعادة تقويم للمكانة الجيوسياسية في مدرك القوى الكبرى، في الوقت الذي قادت أحداث الربيع العربي إلى جعل دول الخليج الدول الأكثر قوة بين الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك عقب تراجع تأثير دول المشرق العربي في التفاعلات الإقليمية في المنطقة، وتحولها من دول فاعلة إلى دول مفعول بها أكثر مما ينبغي. ومع ذلك قادت الثروات المالية التي راكمتها دول مجلس التعاون الخليجي بسبب المداخيل النفطية، إلى تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي في المنطقة العربية. إذ أسهمت هذه الفوائض المالية إلى جانب الضعف الذي لحق ببعض الدول العربية، إلى بروز حاجة لتأكيد الذات بين الدول الخليجية.
وفي معرض آخر، يمكن القول: لقد وفر التحدي الإيراني الناهض الحافز الأساسي للحاجة نحو تأكيد الذات وسط الضعف الذي لحق بالمنطقة، حيث بدأ الموقف الخليجي وكأنه إستجابة للتحدي الذي تفرضه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بوصفها قوة متطلعة لأن تتحول إلى قوة نفطية تتحكم في إنتاج النفط وطرق تصديره، فضلا عن حيازتها للطاقة النووية السلمية.
ومبعث قولنا: أسهمت التغيرات التي عصفت بالشرق الأوسط إلى زيادة التنافس البيني بين دول المنطقة، ودفعت باتجاه أن تكون إيران هي الخطر المشترك للكثير من الدول الخليجية إلى جانب (إسرائيل)، مما قاد ذلك إلى تحول غير مسبوق في نمط التحالفات والصراعات، إذ أن صعود ما يسمى الخطر الإيراني في المنطقة كمصدر للتهديد أدى إلى تقارب غير مسبوق في علاقات بعض الدول الخليجية مع (إسرائيل)، وتغير علاقات عدد من تلك الدول مع إيران أخذ منحى صراعي أدى بتلك الدول إلى التقارب مع (إسرائيل) على قاعدة الخطر المشترك، ما قاد ذلك إلى حصول تحول في طبيعة وبنية التهديد في المنطقة.
وهو ما بينته صحيفة هآرتس الإسرائيلية في آيار 2018 بالقول: "إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم يعد محور نزاعات الشرق الأوسط، إذ بات التنافس بين إيران والسعودية هو القضية المركزية". وهو ما تحاول (إسرائيل) جني ثماره في الوقت الحاضر عبر الترويج لادعاءات تفيد بأن: "(إسرائيل) ليست عدواً أو مصدر تهديد لمنطقة الخليج العربي".
غير أن إيران التي كان من المخطط لها على وفق الرؤية الخليجية أن تضعف ويتحجم نفوذها في المنطقة عبر لي ذراعها في سوريا واليمن ولبنان، لم تضعف بل زادت وزناً إقليمياً، إذ في الوقت الذي تدعم فيه سوريا في حربها ضد الجماعات المسلحة انتزعت إيران إتفاقاً نووياً من الولايات المتحدة الأمريكية يضمن لها الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وبموجبه زالت عنها العقوبات الاقتصادية، وهو ما جعل التوازن أيضا يميل إلى صالح إيران على حساب دول الخليج وبالأخص المملكة السعودية، في الوقت الذي أخذ يضعف اهتمام إدارة أوباما بمنطقة الشرق الأوسط، توجهاً منها نحو الشرق الأدنى حيث صعود الصين.
ولكن مع مجيء إدارة الرئيس دونالد ترامب ومجاهرته العداء لإيران بقوة، سعت السعودية عبر الأمير محمد بن سلمان إلى تجديد تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو التحالف الذي شابه التوتر المعلن في إدارة أوباما خصوصا بعدما توصل الأخير للاتفاق النووي مع إيران، رغبةً منها في إستثمار هذه اللحظة لتقديم نفسها كوكيل إقليمي في الإستراتيجية الأمريكية الإقليمية المناهضة لإيران، معنيةً بضمان إصطفاف الدول الخليجية والعربية مع السياسة الأمريكية الموجه ضد إيران. وهو ما تجسد في القمة الخليجية الأمريكية في آيار 2017، التي شكلت حالة من الإنعطافة في التفاعلات الجيوسياسية القائمة في منطقة الشرق الأوسط.
ولعلنا لا نعدو الصواب إذا قلنا: إن زيارة ترامب إلى السعودية كانت تهدف إلى توطيد التحالفات الثنائية والمتعددة الأطراف لعزل إيران إقليمياً، وتحجيم قوتها في المنطقة من خلال تشكيل محور من الأنظمة السنية يقوم بدور الموازن للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. وهذا ما كان يتطلع إليه ترامب بالإستفادة من قدرة السعودية في جمع عشرات القادة من جميع أنحاء العالم الإسلامي، من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا للاجتماع مع الرئيس الأمريكي في قمة أمريكية- عربية- إسلامية في 21 آيار 2017 ، محورها (الإرهاب وإيران) وهو ما تجلى في خطابه خلال القمة العربية الإسلامية الأمريكية، إذ دعم الرئيس دونالد ترامب فكرة إنشاء تحالف سني عربي لمواجهة العدوان الإيراني ومحاربة التطرف.
ولكن بالتزامن مع تلبية رغبته بتوحيد الدول الخليجية والعربية نحو مواجهة إيران وعزلها إقليمياً، منحت السعودية الرئيس ترامب فرصة توظيفها لتكون البادئ بالتطبيع مع (إسرائيل)، سعياً منها لإظهار التجديد الداخلي والخارجي في سياسة السعودية الخارجية على يد الأمير محمد بن سلمان، ودفعاً لتسويق نفسها كقوة معتدلة في المنطقة، ورغبةً منها لمزيد من الدور الإقليمي، وتعزيزاً لشرعية سلطة الأسرة الحاكمة في الداخل. وهو الأمر الذي تجلى في زيارة ترامب إلى (إسرائيل) في 22 آيار 2017، قادماً إليها من المملكة العربية السعودية برحلة مباشرة هي الأولى من نوعها في تاريخ الزيارات الرسمية نظراً لعدم وجود علاقات دبلوماسية بين السعودية و(إسرائيل).
وهذا ما بينه بوضوح دينس روس المبعوث الأمريكي السابق إلى منطقة الشرق الأوسط، بالقول: "إن زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط هي محاولة أمريكية لإعادة ترتيب العلاقات مع الحلفاء التقليديين في المنطقة، وأنها زيارة مصممة لإظهار الاختلاف عن نهج الرئيس السابق باراك أوباما، وللتأكيد على مواءمة الولايات المتحدة مع أصدقائها التقليديين بما في ذلك العرب السنة البارزين والإسرائيليين".
وهكذا أصحبت (إسرائيل) تتمتع ببيئة إستراتيجية مريحة عقب مجيء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي بات يشاطر بقوة السياسات المناهضة لإيران في المنطقة، وهو ما وظفته (إسرائيل) باتجاه بناء علاقات مع دول الخليج التي تشاطرها العداء لإيران برعاية أمريكية. وهو ما بينه بوضوح وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان خلال مؤتمر هرتسيليا للدراسات السياسية والإستراتيجية بعيد شهراً من القمة الخليجية الأمريكية، وتحديدا في 22 حزيران 2017، بقوله: "إذا أردنا إنهاء الصراع فإن علينا أولا تحقيق سلام إقليمي مع الدول السنية المعتدلة كافة، والشيء الوحيد الذي يمكن أن يشكل ضوءا في نهاية النفق هو سلام إقليمي يشمل علاقات دبلوماسية واقتصادية كاملة فوق الطاولة وليس تحتها مع دول الخليج وغيرها". وأضاف ليبرمان: "أطلع على بحث مهم للنتائج التي يمكن أن يؤدي إليها تحقيق "السلام الإقليمي والتطبيع الاقتصادي الكامل بين (إسرائيل) والسعودية والدول الخليجية ودول المحور السني المعتدل، حيث سيؤدي إلى إضافة دخل سنوي لإسرائيل يقدر على الأقل بـ45 مليار دولار".
ومن نفاد القول نرى: أن مساعي التطبيع الخليجي مع (إسرائيل) ينبئ بقيام ما يمكن أن نسميه (تحالف التطبيع البازغ) الذي ستكون أطرافه الدول الخليجية (السعودية، الأمارات، البحرين، عُمان) والذي سيكتمل مع (تحالف التطبيع السابق)، بأطرافه (تركيا، الأردن، مصر)، ليشكل بدورة ما يمكن أن نسميه (تحالف المتطبعين في الشرق الأوسط) بأطرافه (السعودية، الامارات، البحرين، عُمان، الأردن، مصر، تركيا، إسرائيل) ومن غير المستبعد أن تنظم قطر إلى هذا التحالف الناشئ.
إن عماد هذا التحالف سيبنى على أولوية حماية أمن (إسرائيل)، وتقليص نفوذ إيران في الشرق الأوسط وعزلها إقليمياً تمهيداً لتغيير نظامها السياسي. وبالشكل الذي يجعل توازن القوى في الشرق الأوسط يميل باتجاه تلك الأطراف على حساب إيران. وستمثل تلك السياسة عودة إلى السياسات الأمريكية السابقة في الشرق الأوسط (التي تخلت عنها إدارة أوباما منذ أن تبنت فكرة الوصول إلى الاتفاق النووي مع إيران) والمتمثلة بالتنسيق مع الأنظمة العربية السنية ودعمها في وجه إيران بالمنطقة.
ولكن محور التجديد في هذه السياسة هي التطبيع الإقليمي مع (إسرائيل) بالتزامن مع العزل الإقليمي لإيران، وإنهاء وتلاشي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عبر قبول وإنبطاح الدول الخليجية والعربية (لإسرائيل) وهو ما سيجعل القضية الفلسطينية تغادر الأجندة الدولية والإقليمية الرئيسة في الشرق الأوسط، وتندفع بالاتجاه الذي ستصبح فيه شأناً إسرائيلياً داخلياً من غير الممكن مناقشته، بوصفه من صميم سلطان الدولة الداخلي الذي سيخضع لمبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
اضف تعليق