عندما انتشرتِ الفلسفة الوجودية والنزعة العدمية والنهلستية والعبث في اوربا، بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن الامر مفاجئا للكثيرين من المتتبعين للشأن الانساني، وتحولات البشر في ظل الازمات الكبرى، التي تترك اثارها على العقل الجمعي، لان الناس في اوربا، ممن عصفت بهم حربان مجنونتان...
عندما انتشرتِ الفلسفة الوجودية والنزعة العدمية والنهلستية والعبث في اوربا، بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن الامر مفاجئا للكثيرين من المتتبعين للشأن الانساني، وتحولات البشر في ظل الازمات الكبرى، التي تترك اثارها على العقل الجمعي، لان الناس في اوربا، ممن عصفت بهم حربان مجنونتان بكل ما في العبارة من معنى، تضخمت امامهم اسئلة كبرى، تمثلت بالبحث عن معنى وجود القيم الروحية والاخلاقية التي نادت بها الاديان، بينما الانسان يسحق ويهان بهذه الوحشية، ولعل السؤال الاصعب، هو من اجل ماذا يحصل كل هذا؟ نعم، لقد كانت مثل هذه الاسئلة منطقية وواقعية ايضا، في ظل ماجرى، لكن السؤال الذي لم يلتفت اليه كثيرون، هو هل القيم العليا هي المسؤولة عن الذي حصل، ام قيم السياسية التي انحدرت بالقيم العليا، وهبطت بها الى وحل الصراعات من اجل المصالح الانانية والتكالب على المغانم، بعد ان بلغت الراسمالية حدا مرعبا من الجشع والابتزاز والتنافس غير الشريف، الذي مهد الطريق لتلك المذابح التي ارتكبت باسم الناس ومصالحها؟
في الحقيقة، ان النزعات المشار اليها، لم تكن جديدة على الانسان، الذي شغله سؤال الوجود منذ القدم، والغرض من حياة تنتهي حتما بالموت، لكن القيم الروحية التي ارستها الاديان، وهي تعيد للانسان اعتباره وتعيده الى جذره السماوي، وتعده بان البقاء الحقيقي سرمدي ومستمر الى مابعد الموت، وهو جوهر الوجود ومعناه، وان الله هو الحقيقة الكبرى التي يجب ان يؤمن بها الانسان، لتستقيم نظرته للحياة والكون، ويصبح عيشه في الحياة الدنيا ممكنا، بالرغم مما في الحياة من آلام ومحن مستمرة.
لقد حاول اصحاب النظرة الانسانية ان يقفوا بوجه هذا البلاء، بعد استشرفوا الشر المستطير القادم، بفعل تنامي قوة الراسمالية المتوحشة وتوظيفها زورا، القيم والبشر معا ضد البشر، بعد ان قسمتهم على شكل طبقات، ووضعت الحدود، الذي وصلت الى لقمة عيش الانسان، وابسط شروط كرامته، لتأتي الثورات العنيفة، كرد فعل على هذا الاستهتار بالانسان، لكن الراسمالية التي يحرسها سدنة دهاة، عرفت كيف تصادر جهد الانسان ومحاولاته الانعتاق، وظلت تسوق نفسها على انها المنقذ للبشر والحامل الامين لرسالته الكبرى، بل والحافظة ايضا لرسالات السماء، والمدافعة عنها، بل باسم احترام خيارات الانسان الروحية والاخلاقية، تحت مسميات العلمانية والديمقراطية والحرية وغيرها من المسميات التي باتت دينا جديدا عند البعض، لكن بلا روح، لان الاساس الذي تنطلق منه الموبقات ظل ثابتا، ومحروسا من قبل هؤلاء الدهاقنة، الذين لم يتورعوا من قمع اية محاولة لتغيير ثوابت هذه الراسمالية وقوانينها (المقدسة) التي تعني ان يكون هناك نوع من العدالة في توزيع الثروات!
لقد حرصت الراسمالية ان تعطي للانسان كل شيء على مستوى التجريدات لكنها اغفلت حقائق اساسية، وفي مقدمتها رغيف الخبز الذي ما زال اغلب اخواننا من بني البشر يعانون من اجل الحصول عليه، وهو السبب الرئيس في النزاعات والحروب، وليس هذا فقط، بل ان الراسمالية برموزها الدولية الحامية لها ولعروشها الاخرى المتوزعة اصقاع العالم، تصنع الحروب والخراب في اي بلد، اذا ما وجدت في ذلك مصلحة لاصحاب رؤوس الاموال، حتى وان كان ذلك بصفقات اسلحة، تفتح لها ساحات المعارك لتتفجر على رؤوس المساكين في اي بقعة من العالم، طالما ان في هذا مصلحة لهؤلاء الوحوش، وهذا مايحصل اليوم بالتأكيد.
ان اي عاقل ينظر اليوم الى العالم، ويرى ما يحصل فيه، من حروب وخراب، سيكتشف بلا ادنى شك، ان هناك مصالح مادية، استدعت كل هذا، وان الذي يتحدث غير ذلك، يصادر من قبل بعض المأجورين وانصاف المتعلمين ممن يعملون مروجين لهذه الثقافة، باسم محللين سياسيين ومثقفين ومعلقين على الاحداث، مهمتهم معروفة، وهي كيف يجعلون سياسات الكبار المجرمين في العالم مقبولة اخلاقيا، او انها تتماشى مع جوهر القيم الانسانية العليا، بعد ان يغلفوا احاديثهم بعبارات معسولة ومزوقة كالديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها من مفردات اليوم، التي تضج لها وسائل الاعلام، وتستخدمها حكومات الدول المتجبرة لاستضعاف الشعوب، بغية الايغال في سحقها.
لايداخلتي شك، ان القيم اليوم تعاني من اكبر عملية سطو تاريخي على ارثها الماثل في الوجدان البشري، وانها تحولت الى سلعة للمتاجرة، وان التجار فيها بدرجات متفاوتة، كل حسب وزنه وقدرته على العطاء في هذا البازار الدموي الذي يعصف بالعالم، وان سؤالا اخلاقيا وروحيا بدا ينمو بين البشر، هو، هل هذه هي القيم التي يتحدث عنها الساسة ويروج لها الاعلام، ام ان هناك قيما اخرى لم نعرفها؟ نعم انه سؤال اليوم وتتداوله الناس فيما بينها، وانه قد يكرس نزعات وجودية ونهلستية وعدمية جديدة، مالم يصح الضمير البشري ويوقف هذا التمادي الكبير، الذي بات يهدد كوكبنا الصغير بالغرقين، اقصد الغرق المادي والخراب الكامل او الغرق القيمي وسيادة قيم الرذيلة والانحطاط.
انظروا مايجري في دول منطقتنا فقط ناهيكم عما يحصل للكثير من العالم من حولنا، وتأملوا كيف بات حال الناس، وكيف اصبحت تفكر لتدركوا اي قاع هبطنا اليه؟؟.
اضف تعليق