هُوَ أسوأ أشهر السّنة بالنسبة للعراقيين، لما يختزن في ذاكرتهم من مآسي وآلام على مختلف الاصعدة، ولولا تزامن ذكرى سقوط الطاغية الذليل صدام حسين ونظامه البوليسي الاستبدادي في هذا الشهر (٩ نيسان ٢٠١٣) لفكّر العراقيّون، ربما، في ان يمحوه من حياتهم وذاكرتهم حتى لا تتكرر أوجاعهم وآلامهم القاسية مع حلول ذكرياتها كل عام.
صحيح ان (نيسان) هو شهر الكذبة المشهورة باسمهِ، الا انها في العراق تحولت الى حقيقة مؤلمة وقاسية للأسف الشديد.
كلّ شعوب العالم تتناقل كذبتَهُ بفرحٍ ومرحٍ، الا الشعب العراقي الذي يتناقلها بحزن وأسى وألم!.
ولانّ ذكرياته قاسية ومؤلمة جداً، لذلك فانّ تجاربها ودروسها وعِبرها عظيمة جداً، وربّما لهذا السّبب يحتفظ العراقيون بها، في محاولة منهم لاستذكار التجربة وما تعلّموا منها للحيلولة دون تكرارها.
في هذه الحلقات من هذا المقال، سأحاول ان استذكر مع العراقيين بعض هذه الآلام لأستخلص من كلِّ واحِدَةٍ منها درساً، فالجيل الجديد ربما لم يعرف شيئاً عنها، او انّه سَمِعَ بها ولكّنه نسيها، ومن الواضح فانّ من ينسى التاريخ لا يقوى على فهم الحاضر والتخطيط للمستقبل، ولذلك فليس عبثاً ان لهواً ان يدوّن القرآن الكريم الكثير من تجارب الامم والقرون الماضية، انّما لنتعلّم منها الدّروس والعبر، فالتجارب الانسانيّة ملكٌ مُشاع لكلِّ البشرية، لا يمكن لاحدٍ ان يحتكرها او يحصرها في زمانها ومكانها ابداً.
اولاً؛ ففي نيسان عام ١٩٤٧ تأسّس النهج العروبي القومي العنصري الشوفيني، كحزبٍ (سياسي) يرنو بعينه الى السلطة ليستولي عليها بأيّ شكلٍ من الأشكال، لينتقلَ الى العراق بسرعة البرق، بهدف تدمير الأسس الوطنيّة التي ظل العراقيون يحتفظون بها، على الرّغم من سياسات التتريك مثلاً ومن ثم السّياسات الطائفيّة والعنصرية وغير ذلك.
ولقد سعى هذا النهج الى تحقيق غاياته المدمّرة من خلال ما يلي؛
الف؛ التركيز على (العلمانيّة) السّلبية وليست الإيجابية، من خلال استعدائه للدين وما يتعلق به من فكر وثقافة ومؤسسة وشعائر وكلّ شيء.
باء؛ ترسيخ النّهج الطائفي بشكل واسع جداً، سواء من خلال السّياسات العامة التي كان ينتهجها، او من خلال الثقافات الطائفيّة التي كانت تمتلئ بها كل وسائله الإعلامية فضلاً عن المناهج التعليمية، بمختلف مراحلها الأولية والجامعية، وكذلك على مستوى التأليف والنشر.
جيم؛ صناعة الطّاغوت من خلال تكريس ظاهرة عبادة الشخصية، عندما لخّص هذا التيار الدّولة والسّلطة والنظام وكل المؤسسات بشخصٍ اعتبرهُ ابواقهُ وجوقة المطبّلين والمزمّرين القائد الضرورة والرمز الأوحد.
ولقد لعبَ جيشٌ من اساتذة الجامعات المنتمين لهذا التيار الشوفيني دورٌ في تكريس ظاهرة عبادة الشخصية، من خلال تشجيع طلبة العلوم الانسانية في الجامعات العراقية على الكتابة والبحث في كل حركةٍ وسَكَنةٍ تبدر من (القائد الضرورة) لينالوا بها شهاداتهم (الأكاديميّة) و(العلميّة) العالية وبدرجات التفوّق مسبقاً!.
دال؛ إضعاف قيم المواطنة والانتماء الوطني من خلال سياسات التّمييز الطائفيّة والعنصريّة التي كرّسها النظام على مختلف المستويات، فضلاً عن الحروب العبثيّة التي ظلّ يشنها على هذه الشريحة من المجتمع او تلك، الغرض منها تفتيته ليسهل عليه إحكام قبضتهِ الحديديّة.
لقد ملأ هذا التيار (العروبي الشوفيني) مناهج التعليم بالقيم الشوفينية والعنصرية، ما اثار ردودَ فعلٍ صامتةٍ في نفوس المجتمع، عندما بدأ يشعر كلّ مواطنٍ انّ انتماءه الوطني مُستهدف من قبل هذا التيّار، تارةً بانتمائه القومي، الكرد والتركمان وغيرهم، وتارةً بانتمائه المذهبي، الشيعة تحديداً!.
هاء؛ تكريس مفهوم السّلطة كمحورٍ أوحد على حساب مفاهيم الدولة التي ألغاها هذا النهج الشوفيني بشكلٍ كاملٍ، وذلك من خلال؛
ا/ تسخير القوّات المسلّحة كأداةٍ وحيدةٍ في عملية بناء السلطة.
٢/ تصفية كلّ مظاهر المعارضة وبشكل مرعب.
٣/ بناء منظومة أمنيّة وظّف فيها المواطن كجاسوسٍ ومخبر، حتى تحوّل العراق، وبجدارةٍ، الى ما سمي بدولة المنظّمة السريّة.
٤/ حوّل العراق الى بلد الميليشيات المتعددة والتي بسط يدها بالكامل، فكانت تحمل اسماء وعناوين متعدّدة تنتشر في المجتمع.
٥/ تبنّي سياسة العدوان كمنهج ثابت في فرض أجنداته في المنطقة، من خلال شنّه للحروب العبثيّة ضد الجميع.
٦/ كذلك اعتماد منهجيّة (صناعة الأزمات) سواء في الداخل او مع الجيران والمجتمع الدولي، انتهت بالعراق الى الاحتلال والغزو وضياع سيادته واستقلاله.
الفكر العنصري الشوفيني
انّ خطر الفكر العنصري الشوفيني يتضاعف بشكل واسع جداً في المجتمعات ذات التركيبة المتنوعة والمتعددة كالعراق، ولذلك جرَّ هذا الفكر على العراقيين الكثير جداً من الويلات والمعاناة.
ولقد كانت مدّة اكثر من نصف قرن من الزمن، كافية لتكريس مفاهيم الشوفينية في المجتمع العراقي وللاسف الشديد، فاذا بظواهر مثل عبادة الشخصية وصناعة الطاغوت ومنهجية صناعة الأزمات ومحوريّة السلطة بدلاً عن الدولة والتزمت في الانتماءات الاثنية والدينية والمذهبيّة بل وحتى المناطقيّة والعشائرية ونظريّة (ما ننطيها) و (القائد الضرورة) و(الابواق، فلكلّ زعيمٍ بوق من جنسهِ، يساويه في المقدار ويناغِمهُ في الاتّجاه) وغير ذلك، أصبحت جزء من شخصية الفرد العراقي وكيان المجتمع!.
فما هو الحل، اذن، لكنس كلّ آثار ومخلّفات هذا الفكر العنصري الشوفيني؟.
برأيي؛ فانّ الحل يكمن في أمرين؛
الاول؛ تكريس الانتماء الوطني والرّوح الوطنية لتحل محل الانتماءات الضيّقة التي تَخْلق النزعة الشوفينية عند المواطن.
ولقد انتبهت المرجعية الدينية العليا الى هذا المرض، ولذلك نراها تؤكّد، بمناسبة ومن دون مناسبة، وتكرّر الحديث عن اهمية الانتباه الى كل معاني الانتماء الوطني، بدءاً بالراية والعلم وليس انتهاءاً بالتعامل اليومي، وكل ذلك من اجل تكريس الفكرة وترسيخها في المجتمع.
وسيظلّ العراق على كفّ عفريت وفي مهبّ الريح اذا ظلّ الفكر العنصري والطائفي الشوفيني حاكماً في المجتمع، واذا كان هذا النهج قد بدأ يزحف في العراق بشعارات (القومية والعروبة) فانّه اليوم يغطّي كلّ الانتماءات، وللاسف الشّديد، الاثنيّة والدّينية والمذهبيّة، مردّ فعلٍ، ويضيق اكثر فاكثر ليشمل الانتماءات العشائريّة والمناطقيّة والحزبيّة وغيرها.
لقد نصب الفكر القومجي العروبي العنصري والشوفيني محاكم تفتيش ليحاسب المواطن على انتمائه، حتى وصل به الامر الى فرض سياسة التّعريب الإجباري، فكان يفرض على المواطن الكردي مثلاً او التركماني، ان يغيّر اثنيّته عند التسجيل، كما كان يمنع من ويعاقب المواطن في كردستان اذا علّق اسم محله باللغة الكردية مثلا! ما ولّد ردودَ فعلٍ عكسيّة نلمسها اليوم في العراق الجديد!.
يجب ان نتعاون جميعاً من اجل القضاء على هذا الفكر من خلال تكريس الانتماء الوطني بما يلي؛
اولاً؛ بناء الدولة التي تعتمد قيم المواطنة والمدنية والعصرنة، كأسس جديدة.
ثانياً؛ العدل والمساواة على قاعدة (القانون فوق الجميع).
ثالثاً؛ تكريس مبدأ تكافؤ الفرص، على قاعدة {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
الثاني؛ اعادة النظر بالمنهج التعليمي والتربوي وأدواته لتطهير المؤسسة التعليميّة من الفكر الشوفيني، بدءاً من المراحل التأسيسّية وحتى آخر مرحلة أكاديميّة، فالتغيير في الفكر والثقافة لا يتحقق بالشعارات ابداً، وانّما بمنهج تعليمي وبحثي واكاديمي علمي جديد، بعد كنس كلّ مخلّفات المناهج العنصريّة وأدواتها من معلمين وتدريسيّين لازالوا نجدهم في قاعات التدريس وللاسف الشديد يزرقون في اذهان ابنائنا الفكر العنصري الشوفيني الذي ورثوه من الحقبة السوداء الماضية!.
ان المنهج التعليمي الجديد؛ يجب ان يعتمد الأسس التالية؛
١/ التعدّديّة في الفكر واحترام الراي الاخر.
٢/ الانفتاح ونبذ التزمّت والاستبداد الفكري والثقافي والبحثي.
٣/ الغاء كلّ الخطوط الحمراء المصطنعة والتي رسمها الفكر الشوفيني لتحديد خيارات الباحث ومحاصرة الفكر والثقافة.
٤/ اعتماد اللّيبرالية في البحث والتفكير، بشكلها الصحيح والسليم والإيجابي.
٥/ التعايش كنتيجة للتعارف الذي يفرضه التنوع والتعدد في المجتمع.
٦/ تقاسم الحقيقة وعدم احتكارها.
٧/ التربية الوطنية التي قاعدتها (حب الوطن من الإيمان).
٨/ تكريس قيم الحرّيّة والشّورى ومفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان والكرامة.
٩/ اعتماد البحث العلمي والاستقصاء والإستبيانات والمسح الميداني والغاء ما يسمّيه البعض بالظّواهر الصوتية والانشاء والشعارات والتسليم بالافكار والنتائج من دون تثبّت والاحكام المسبقة. والّتي كرّسها لعقود طويلة الفكر العنصري الشوفيني.
١٠/ حرية التعبير والاعلام، ورفض كل انواع الشمولية التي أسس ونظّر لها الفكر العروبي القومجي العنصري والشوفيني.
اضف تعليق