تشكّل اللّا مساواة أحد العوامل الأساسيّة في إثارة العنف، والإرهاب، والنزاعات، والحروب، على المستوى العالمي، ممّا يحدّ من التنمية البشريّة أو يعطّلها، لا سيّما في المناطق التي تعانيها، خصوصاً بلدان العالم الثالث، وضمنها، أو في مقدّمتها بعض البلدان العربيّة، فكيف يمكن عبر العلوم الإنسانيّة ردّ الاعتبار للتفكير بطرق عقلانيّة جديدة...
تشكّل اللّا مساواة أحد العوامل الأساسيّة في إثارة العنف، والإرهاب، والنزاعات، والحروب، على المستوى العالمي، ممّا يحدّ من التنمية البشريّة أو يعطّلها، لا سيّما في المناطق التي تعانيها، خصوصاً بلدان العالم الثالث، وضمنها، أو في مقدّمتها بعض البلدان العربيّة، فكيف يمكن عبر العلوم الإنسانيّة ردّ الاعتبار للتفكير بطرق عقلانيّة جديدة ومتنوّعة لتجاوز الأزمة الراهنة، بما فيها من تحدّيات كبيرة وعميقة؟ والهدف هو بناء أرضيّة مناسبة للتنمية أكثر مساواة وعدلاً، سواء على المستوى الوطني، أو على المستويين الإقليمي والدولي.
إذا كانت ثمّة حقائق جديدة بفعل متغيّرات علميّة سياسيّة، واقتصاديّة، واجتماعيّة، وثقافيّة، وغيرها، فالأمر يتطلّب إعادة نظر في العديد من المنطلقات، ويستدعي ذلك اقتراح سبل كفيلة لتوسيع حضور وتأثير العلوم الإنسانيّة لتتساوق مع المتغيّرات الكونيّة، في مجالات العلوم والتكنولوجيا وثورة الاتّصالات والمواصلات والطفرة الرقميّة «الديجيتال» وغيرها.
ويترافق هذا التطوّر المتسارع مع ارتفاع نسبة الشباب المنفصلين عن مجتمعاتهم، والذين يشكّلون بيئة خصبة للتعصّب، والتطرّف، والعنف، والإرهاب، لا سيّما في ظلّ مناهج دراسيّة وتربويّة يكاد يكون فيها حيّز التسامح معدوماً، أو محدوداً، على أقلّ تقدير، إنْ لم يكن نقيضه سائداً حيث يرتفع منسوب اللّا تسامح وتتّسع دائرة الإقصاء، والإلغاء، والتهميش، في ظل انعدام المساواة وشحّ الحرّيات، وضعف الشعور بالمواطنة، واستمرار نهج التمييز ضد المجموعات الثقافيّة، وكذلك التمييز ضد المرأة والفئات الضعيفة.
مناسبة الحديث هذا تتعلّق بأوراق خلفيّة لمؤتمر إقليمي التأم في لبنان بمدينة جبيل (بيبلوس) مؤخّراً أطلق عليه «المشورة العربيّة الإقليميّة للمؤتمر العالمي للعلوم الإنسانيّة» الذي سينعقد في «لياج» (بلجيكا) في أغسطس/آب القادم، والذي سيكون تحت عنوان «إعادة الاعتبار للإنسانيّات»، بما هو متّصل بالمناهج والمقاربات والإنتاج العلمي وغيرها. ويندرج مؤتمر جبيل (بيبلوس) في إطار سلسلة مؤتمرات إقليميّة تمهيديّة أحدها في البرازيل (هوريزونتي)، وآخر في كوريا (سوون)، وثالث في إفريقيا(مالي) وشملت المؤتمرات موضوعات مختلفة حول الحق في الأمل، واللغات، والثقافة، والتاريخ، وغيرها.
وقد قامت «اليونيسكو» بالتحضير لهذه المؤتمرات، بمساهمة جهات محلية ودولية. وقد حضّر مؤتمر جبيل من المنطقة العربيّة «المركز الدولي لعلوم الإنسان»، و«المجلس العربي للعلوم الاجتماعيّة» بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانيّة، واتسعت موضوعاته لتشمل معالجة عدد من الظواهر التي تعيشها دول المنطقة، ومنها ضعف، وتهميش العلوم الإنسانيّة، لا سيّما في مجالات التنمية، وشحّ المبادرات، وضعف التمويل وعدم الاهتمام بالبحث العلمي والتعليم العالي والتعاون الأكاديمي.
وحدّد المؤتمر الإقليمي لنفسه ثلاثة أهداف رئيسيّة، أولها إعداد مقترحات خلفيّة للمؤتمر العالمي، لتعزيز ظهور رؤية عربيّة لمستقبل الإنسانيّات، وثانيها تنمية العلاقة بين الأكاديميين العرب والمؤسسات الوطنيّة والإقليميّة، وثالثها توفير إطار للمبادرات خصوصاً في الجامعات، مع التركيز على التعاون العلمي الدولي، بهدف زيادة فاعليّة دور العلوم الإنسانيّة على المستوى الكوني.
وخصّص المؤتمر جلساته لمناقشة قضايا الفلسفة والتاريخ والفنون والآداب والأنثروبولوجيا والتراث الثقافي ووسائل الإعلام. كما أفرد ثلاث موائد مستديرة لبلورة رؤى ومشاريع وتقديم مقترحات. وكانت المائدة الأولى عن دور الجامعات العربية، والثانية عن التعليم والعلوم الإنسانيّة، أمّا الثالثة فقد ركّزت على الإنسانيّات ودور التفكير العربي للتنمية، حيث ساهم في المؤتمر نخبة من الخبراء العرب والأجانب في الحقول المختلفة للإنسانيّات.
وشغلت الفلسفة والتاريخ حيّزاً كبيراً في بحث العلوم الإنسانيّة في المنطقة العربيّة التي شهدت ما سمّي ب«صدمة الاستعمار» وتأثيراتها المستمرّة، و«رد الفعل» الذي أعقبها، خصوصاً بالموقف من الحداثة ومتفرّعاتها (العقلانيّة والليبراليّة والعلمانيّة)، بزعم العودة إلى الجذور أو التمسّك بالأصول.
وكانت نكبة فلسطين وما لحقها من تداعيات ومآس لا تزال مستمرّة، لجهة عسكرة بعض المجتمعات العربيّة، سبباً في تعطيل التنمية، والديمقراطيّة بزعم مواجهة العدو، وقاد ذلك إلى التعصّب والتطرّف وانكفاء العقل. ولم يكن ذلك بعيداً عن العامل الخارجي الذي بقي يتشبّث بمواقفه ومحاولاته لفرض هيمنته، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر.
إنّ فشل التجارب القوميّة والاشتراكيّة، فضلاً عن أن دور الانقلابات العسكريّة وأنظمة الاستبداد أدّى إلى تراجع الثقافة المدينيّة الحداثيّة، التي تأسست عليها الدولة الوطنيّة ما بعد الاستقلال، خصوصاً ترييف بعض الحواضر، مثل القاهرة، ودمشق، وبغداد، وبيروت، وشيوع الثقافة القرويّة الممزوجة أحياناً ببعض مظاهر البداوة، الأمر الذي ساهم في صعود الفكر المتعصّب المنتج للتطرّف والمختزَن للعنف والمؤدّي إلى الإرهاب.
لقد اعتمدت ثقافتنا على الفكر التبشيري التلقيني التقليدي الذي عطّل دور العقل النقدي التساؤلي في المقاربات الإنسانيّة والمجتمعيّة، بما في ذلك نقد الذات والآخر، أي نقد تراثنا والتراث الاستشراقي، وهو ما يحتاج إلى مراجعات ضروريّة لتقديم رؤية متحرّرة واستشرافيّة، بتوفّر أجواء من الحريّة، خصوصاً حرّية البحث العلمي، والتوجّه إلى إنتاج المعرفة من خلال التواصل مع العالم والاستفادة من كلّ المنجز الحضاري الكوني، لبناء جيل جديد من الأكاديميين العرب المختصّين بالإنسانيات.
اضف تعليق