يبدو أن الأحزاب العراقية، ومن ضمنها الإسلامية، مسكونة بحالة الاستبداد بالرأي وتقديس الأيديولوجيا وتقديمها على مصالح الشعب، وقد تجلى هذا في مظاهر عدة؛ منها تغييب رأي الناس بالتخلي كليا عن مبدأ المعارضة السياسية والاتفاق على تقاسم كعكة الحكم تحت شعار الديمقراطية التوافقية، وهو مصطلح منمق المحاصصة السياسية المقيتة التي زجت بالبلاد والعباد في مستنقع الفساد...
في معظم البلاد الاسلامية، ومنها؛ العراق، أعطت احزاب المعارضة شعار حرية الرأي والعقيدة، أولوية خاصة في نضالها ضد الديكتاتورية، لانها تجد الحاكم يبذل ما بوسعه لكسب ود الشعب من خلال برامج اقتصادية وخدماتية، من تعليم، وصحة، وخدمات اساسية، ودعم الزراعة والصناعة، بل وحتى تقمّص النمط الديمقراطي في الحكم بإنشاء مؤسسة يفترض ان تكون تشريعية بمسميات عدّة مثل؛ "مجلس وطني" أو "مجلس الشعب" وغير ذلك، للإيحاء بالاقرار بمواكبة التطورات السياسية، وأن للشعب كلمته من خلال نوابه في هذه المجالس.
ونظراً الى الاشكالية الاساس في فلسفة معظم الاحزاب السياسية في العراق، وربما عديد البلاد الاسلامية، أنها ابتعدت عن البناء الداخلي، لصالح شعارات فضفاضة وسراب أوحوا الى الناس أنه ماء، مثل؛ النضال من اجل تحقيق الوحدة العربية، او محاربة الامبريالية والرجعية، في اشارة الى الطبقة السياسية التي ظهرت في بواكير استقلال الدول، وهي تحتفظ بولائها لبريطانيا او فرنسا، لذا فانها غلّبت الهمّ الخارجي على الطموح الجماهيري بالنضج السياسي والنمو الاقتصادي.
ولذا ثار الجدل بين الاحزاب السياسية وبين السلطة، فأيّ حرية تريد هذه الاحزاب؟
هل هي الحرية التي تنادي بها النظرية الليبرالية، قوامها الحرية الفردية وحرية العمل، أم هي الحرية السياسية الخاصة بالتنظيمات والتجمعات ذات الاهداف السياسية والايديولوجية؟
هذا الجدل تمثل في تجربة العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث في العراق، فعندما توصل الطرفان الى إنشاء تحالف سياسي يجمعه التوجه الاشتراكي الواحد، تحت اسم "الجبهة الوطنية التقدمية"، والتي ضمت ايضاً الحزب الديمقراطي الكردستاني، وذلك في عام 1974 فكان استفهام البعثيين من الشيوعيين، عن ماذا تبحثون في العراق؟! فاذا كنتم تبحثون عن الحرية السياسية لكم، فهي من الاولى للبعث الذي تجشّم عناء الانقلاب العسكري وأطاح بالنظام العارفي الذي أذاق الاثنين سوء العذاب، لذا سرعان ما حصل الاصطدام، وكان من محاوره؛ القوات المسلحة التي يعدها البعثيون خطاً أحمر. وحصل ما حصل من اعتقالات واعدامات.
وللعلم فقط؛ فان الحزب الشيوعي كان قد حصل على فرصة الوصول الى اعتاب الحكم –إن صح التعبير- بعد انقلاب عبد الكريم قاسم على النظام الملكي عام 1958، بيد أنهم، وفي تلك الفترة لم يكونوا ليطالبوا بالحرية إلا لنشاطاتهم الحزبية ولسلوك الاعضاء والقيادات وما يقومون به في اوساط المجتمع، ولسنا بوارد الخوض في تفاصيل هذه الممارسات التي كتب عنها العلماء والمؤرخون.
نفس المشكلة تكررت مع الاحزاب الاسلامية –للأسف- فهي ناضلت وجاهدت في حقبة المعارضة لسنين طوال، تحت شعار؛ حرية الرأي والعقيدة، وقدمت تضحيات جسام من خيرة ابناء الشعب العراقي، من العلماء والمثقفين والاكاديميين، وفي وقت لاحق، انعكاس هذه المواجهة على الصعيد الاجتماعي ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث، عندما تدخل المرأة العجوز والطفل والشيخ الكبير وحتى الأمي وافراد من الشريحة المتوسطة ودونها، في أتون مواجهة دامية لم يفهموا منها شيئاً على مدى سنوات، إلا اعتقال الابن الشاب، او الأب، ثم ترحيل النساء والاطفال خارج الحدود لانهم "مشكوك في ولائهم للحزب والثورة"، وقد روّجت مؤسسات حزب البعث بشكل ناجح، أن هؤلاء لا يستحقون الحياة السعيدة والمتطورة التي صنعها حزب البعث في العراق، فالحزب أعطى للجميع حرية التعليم والتجارة والسفر والبناء وقدّم....! فماذا يريد الآخرون...؟!
هذا السؤال الجوهري لم يأخذ حقه في البحث عن إجابة تنور أذهان الشارع العراقي حتى لحظة انهيار نظام صدام بشكل لم يكد يصدقه أحد، وجاء الأميركيون يحملون راية الحرية التي يفهمونها هم، بينما العراقيون -معظمهم- لم يعرفوا بعد كيف يتعاملون مع هذه الحرية. وبمعنى ان الحرية السائدة في العراق ليست نتاج حرب تحرير -مثلا- او حراك سياسي، انما جاء بجهد عسكري أميركي خالص.
ويبدو أن الأحزاب العراقية، ومن ضمنها الإسلامية، مسكونة بحالة الاستبداد بالرأي وتقديس الأيديولوجيا وتقديمها على مصالح الشعب، وقد تجلى هذا في مظاهر عدة؛ منها تغييب رأي الناس بالتخلي كليا عن مبدأ المعارضة السياسية والاتفاق على تقاسم كعكة الحكم تحت شعار الديمقراطية التوافقية، وهو مصطلح منمق المحاصصة السياسية المقيتة التي زجت بالبلاد والعباد في مستنقع الفساد.
ومن تجلياته ايضا الوقوف بوجه الاحتجاجات والتظاهرات المطلبية ووصمها بالدوافع السياسية.
ان افساح المجال لحرية الرأي والتعبير من قبل الأحزاب السياسية. لاسيما الإسلامية، تعزيز لمصداقيتها وشرعيتها، والأهم من هذا؛ عدم تكرار انفلات الزمام من أيديهم ثانية، وهذه المرة ربما يكون الأمر أكثر خطورة عندما تتجاوز الجماهير هذه الأحزاب وتتجه إلى مؤسسات تابعة لجهات أجنبية بحثا عن التطور العلمي واكتساب التجارب والخبرات. وهذا بدوره ينعكس سلبا على التجربة الديمقراطية، بل ويهدد النمط البرلماني في الحكم بشكل جدي وخطير.
خلال التظاهرات المطلبية الأخيرة في العراق، أطلق عدد من المواطنين نداء التحذير لهذه الاحزاب الثقيلة الظل بانها باتت غير مرغوب بها، فهي عجزت عن توفير أبسط حقوق الشعب باحترام حريته ورأيه. بعد ان نسي الكهرباء الدائم وفرص العمل الكريمة الخريجين وإعادة الحياة إلى الزراعة والصناعة، كل ذلك راح طي النسيان.
ولتدارك الأمر قبل فوات الأوان على الأحزاب السياسية الإصغاء أكثر من الكلام وإصدار الأوامر والترويج للفكر الخاص، لتؤدي دورها السياسي البناء من صميم واقع المجتمع.
اضف تعليق