كيف نصنع المواطنة المثالية المنتجة في العراق؟، وهل نحن بحاجة إليها بشكل فعليّ؟، فيما يخص الشق الثاني أجمع المختصون بأن العراق بحاجة مصيرية إلى المواطنة لاسيما في المرحلة الراهنة التي يسعى لعبورها بأمان وبأقل الخسائر!...

تؤكد صفحات التاريخ السياسي بأن أعظم الديمقراطيات في العالم بناها المواطنون بأنفسهم، ورسَّختها الجماهير المحنكة الواعية سياسيا، ولم تكن الديمقراطية وتثبيت أركانها حكرا على الطبقة السياسية في أي بلد، فالساسة هم يد واحدة لا يمكنها التصفيق مطلقا، أما اليد الثانية والأهم هي المواطن ومن حاصل جمعه تولد الجماهير، وكلما كان المواطن عارفا بحقوقه المدنية وحرياته وملتزما بواجباته الوطنية، سيأخذ مكانته التي تعطيه الأهمية في بناء النظام السياسي لبلده.

هذه المقدّمة تقودنا إلى تعريف المواطنة التي تعني بحسب المختصين، تمتع الفرد بعضوية بلد ما، ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضوية من امتيازات، والمواطنة في المعنى السياسي لها، تُشير إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها، والالتزامات التي تفرضها عليه؛ أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه، وما يشعره بالانتماء إليه، أما من حيث المنظور الاقتصادي الاجتماعي، فيُقصد بالمواطنة إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، بحيث لا تشغلهم هموم الذات عن أمور الصالح العام، وفضلاً عن التفاف الناس حول مصالح وغايات مشتركة، بما يؤسس للتعاون والتكامل والعمل الجماعي المشترك.

ولن تكتمل المواطنة إلا باكتمال عناصرها، أي أن البلدان والمجتمعات لا يمكن أن تكتفي بالمواطنة السياسية وحدها، فما فائدة أن يؤدي المواطن دوره في الانتخابات ويتنصل عن دوره الاجتماعي أو الاقتصادي؟ لذلك توجد عناصر مدنية وسياسية واجتماعية للمواطنة، الأول يتضمن الحرية الفردية، وحرية التعبير والاعتقاد والإيمان، وحق التملك، والحق في العدالة، وتحقيق العنصر المدني في المواطنة في المؤسسات القضائية. والعنصر السياسي، يعني الحق بالمشاركة في الحياة السياسية بوصف المواطن عنصراً فاعلاً في السلطة السياسية، من خلال البرلمان. أما العنصر الاجتماعي فيعني تمتع المواطن بخدمات الرفاهية الاجتماعية وإشباع حقوقه الاقتصادية، والتي تتضمن التعليم، وحسن الرعاية الصحية، على سبيل المثال لا الحصر، ولهذا يُقال عن كل كائن بشري أنه يتمتع بالمواطنة، إذا كان يتمتع بخصائص اجتماعية معينة، لها معناها السياسي المعتد به قانوناً، مثل الحقوق والواجبات، والالتزامات، والحرية في اتخاذ القرارات، التي تمثل شأناً يتصل بمصلحته الخاصة، وفي المشاركة في المصالح العامة، وكذلك المشاركة في المجتمع المدني.

في العراق يشكو كثيرون، سياسيون ومثقفون وإعلاميون ومراقبون من غياب المواطنة أو ضعفها، فما هي مسببات هذا الضعف أو الغياب؟.

يذهب علماء السياسة والمراقبون إلى سبب أساس يتعلّق بتخلي الجماهير عن دورها السياسي وحقوقها المدنية، وقلة فاعليتها في تثبيت حقوقها المدنية، وترك الأمور على الغارب، فراح يتصرف بها السياسيون العراقيون كما يحلو لهم، أو بوصف أدق يسيرونها بما يحقق لهم مصالحهم التي قد لا تعني مصلحة المواطن، فالأخير ينبغي أن يتصدى لحقوقه ويثبتها بنفسه، ولدينا تجارب شهيرة عن دور المواطنة في هذا المجال، وكيف استطاع المواطن بحنكته السياسية وامتلائه بالمعلومات من تثبيت حقوقه المشروعة وفرضها بقوة القانون والدستور على القيادات السياسية.

ومن هذه التجارب تجربة المواطنة في المجتمعات الغربية، حيث أكد العديد من المنظرين عبر التاريخ (كما ورد في كتاب دور المواطن السياسي لـ رسل جيه. دالتون- على أن الديمقراطية ما كانت ممكنة حقا إلا في حالات امتلاك الجماهير للكثير من المعلومات والحنكة السياسية، فقد وجد مِل و لوك و توكفيل وغيرهم على أن الخصائص الجماهيرية تشكل متطلبات أساسية للنظام الديمقراطي الناجح، كما يدعو أكثر المنظرين بوجوب دعم المواطنين للنظام السياسي والتحلي بالتزام راسخ بالمُثُل الديمقراطية كالتعددية وحرية التعبير وحقوق الأقليات، وإلا فإن الجمهور الجاهل وغير المحنّك قد يُستغَل لتشويه العملية الديمقراطية!.

هذا المثال المستلّ من وقائع تاريخية هو الذي يؤكد على أننا في العراق تنقصنا الحنكة السياسية للمواطن الفرد، وقد تكون هذه السمة جمعية تشمل معظم المواطنين، ما يعني أننا كشعب نفتقر إلى الاشتراطات التي تؤدي بنا إلى حفظ الحقوق المدنية والحريات من خلال قدرة المواطنين على المشاركة الفاعلة في صناعة النظام السياسي، وتثبيت صفاته وأركانه وفق المتطلبات التي تضمن حقوق الجمهور، والكف عن الوقوف متفرجين بعيدين عن صناعة الحدث السياسي الذي يهم الجماهير أكثر مما يهم سواها.

كيف نصنع المواطنة المنتجة في العراق؟، وهل نحن بحاجة إليها بشكل فعليّ؟، فيما يخص الشق الثاني أجمع المختصون بأن العراق بحاجة مصيرية إلى المواطنة لاسيما في المرحلة الراهنة التي يسعى لعبورها بأمان وبأقل الخسائر!.

الشق الأول يُعنى بالكيفية الإجرائية لصناعة المواطنة، وهو لا يخص المواطن بدرجة حاسمة، لكن لا ينفي دوره في هذا الأمر، فهو أيضا يظل المسؤول الأساس عن تنمية المواطنة الذاتية للفرد والشعور بالمسؤولية إزاء نفسه وعائلته وشريحته ومدينته وبلده على النحو العام، إذ لا يمكن أن يُعفى المواطن عن دوره وتُترك هذه الصناعة المصيرية (المواطنة)، بأيدٍ قد لا تهمها ولا تعنيها ولا تشغل نفسها بها، وربما ترى فيها خطرا على مآربها، ونعني بها الطبقة السياسية أو بعض المشاركين في تكوينها من أحزاب وشخصيات ترتقي الموجة لبلوغ مصالحها، ولا تعبأ بالمواطن وقد لا يخطر في بالها كما لاحظنا ذلك في العقد والنصف من السنوات الماضية على عمر التغيير السياسي في العراق بعد نيسان 2003.

إننا في العراق نحتاج إلى جمهور معبّأ بالمعلومات المدعومة بالحنكة السياسية، ومن ثم الفاعلية القصوى في الساحة، والتدخل في صناعة القرار بالإنابة، بحسب ما يقتضيه التشريع، فالمواطنة المثالية تترتب عليها التزامات هامة تقع في المقدمة منها أن يكون المواطن تفاعليا مشاركا لا يدير ظهره للقضايا المصيرية التي يتبلور في ضوئها صناعة القرارات الحاسمة، لأن ترك الأمور بالمجمل على عاتق الساسة والمؤسسات والأحزاب السياسية ليس بالأمر المناسب ولا يستقيم مع ما تقتضيه المواطنة من وظائف أساسية وجوهرية ملقاة على عاتق الجماهير.

فما نحتاجه بالأساس في عراق اليوم هو المواطن المثالي التفاعلي الحيوي الذي يأبى الركون إلى الحيادية والسباب والتخلي عن دوره وإلمامه بالحنكة السياسية التي تفرض دوره فرضا على السياسيين، وما هذه الفعاليات الاحتجاجية التي يقوم بها العراقيين اليوم إلا جزء من متطلبات المرحلة ودليل دامغ على نشوء الحنكة السياسية والوعي الفردي والجمعي للعراقيين، وهو ما يشكل أرضية مناسبة ومتينة للشروع بتطوير المواطنة المثالية في التفاعل المنتج لعراق اليوم.

اضف تعليق


التعليقات

عباس المطيري
العراق
فعلا نحن بحاجة إلى تركيز كبير على دور المواطن في تعزيز الديمقراطية .. لازم نزرع الثقة في المواطن العراقي عبر الإعلام وكل منافذ الترويج والإعلان حتى الشوارع ممكن نملأها باللافتات والمقاهي والساحات العامة تثقف المواطن على عدم التنازل هن دوره في تعزيز النظام الديمقراطي.. نقدم لكم التبجيل والتقدير2018-08-26
عباس اللامي
لن يكون المواطن مثاليا اذا كان المحيط والبيئة غير مثالي..نحتاج لاعادة بناء مواطن جديد يعتمد على مفاهيم جديده للحياة واعادة بناء الإنسان على اساس صحيح والبداية تكون من مناهج التعليم..نحتاج لتغيير اجيال باكملها حتى نحصل على ننيجة فالاجيال الحاليه غير قابلة للاصلاح2018-08-26