الغصة تبقى في رسوخ بعض القيم العشائرية المريضة، الدخيلة على اخلاق عشائزنا الاصيلة، وبعض الممارسات غير المهنية من قبل بعض المسؤولين، الذين يجب ان يكونوا قدوة في ترسيخ قيم الايثار في المجتمع، بدلا من الممارسات التي اشرنا اليها، وها نحن نضع هذه الواقعة امام المعنيين بالامر ... لان المروءة باتت في خطر حقيقي!...

في ثمانينيات القرن الماضي، بث تلفزيون العراق، سهرة تلفزيونية (تمثيلية) بعنوان (لا تطرق باب الورطة) من اخراج طارق الجبوري .. تمحورت فكرتها على نبذ ظاهرة الفضول والتدخل في شؤون الاخرين .. جسد البطولة فيها فنان كوميدي معروف، لايحضرني اسمه، وكان رائعا في ادائه. الاّ ان مؤلفها، جعل الدرس الذي تلقنه الشخص الفضولي، غير مناسب لمقولة العمل او رسالته. كونه يتعارض مع احدى اهم القيم في حياة مجتمعنا، وهي المروءة. وهو ما اشار اليه احد النقاد، عندما تناول العمل في احدى الصحف. حيث ان البطل يقتحم، في اخر جولات فضوله، جمعا من الناس، تحلقوا حول شخص مسجى، مصابا او فاقدا للوعي، لااتذكر بالضبط، واظنه الفنان الراحل يعقوب القره غولي، من دون ان يعرف الحكاية، وعند تدخله المفاجئ وطلبه من الاخرين نقل الرجل الى المستشفى، يشير الرجل الممدد بيده، بطريقة عفوية وغير مقصودة الى الشخص الفضولي، ثم يعود لغيبوبته، فيظن الاخرون انه كان وراء ماحصل للرجل، وهكذا يقع صاحبنا في ورطة، تدخله التوقيف، قبل ان يعود الوعي للمصاب ويروي الحقيقة، ويكافأ الفضولي على فعلته، ويكف بعدها عن فضوله الذي كاد يتسبب له بمشكلة كبيرة!

تذكرت تلك السهرة التلفزيونية، وانا اقرا قبل ايام، مانشره الصديق الاكاديمي والمترجم د. هيثم الزبيدي، على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي، اذ عرض واقعة مؤلمة، حصلت قبل ايام لشباب. وصفه بانه احد اعز المتخرجين من قسمهم في الكلية .. كان هذا الشاب عائدا من عمله في وقت متاخر من الليل، وفي الطريق، وجد رجلا ممددا وفاقدا للوعي في الشارع، والى جانبه دراجته، ما يعني انه تعرض الى حادث، فما كان منه الاّ ان نقله الى المستشفى، لينقذ حياته، وبعد ان وصل المستشفى، تم توقيفه ، وهو اجراء قد يكون مفهوما في سياق الاجراءات الروتينية في مثل هكذا حالات، حيث يكون التوقيف للتحفظ لحين معرفة حيثيات الحادث، لكن الشاب وكما ينقل د. هيثم، واجه دعوى قضائية من قبل عائلة المصاب، قبل ان يعرفوا الحقيقة، بالاضافة الى التفاصيل العشائرية الاخرى، مثل (الكوامة) والفصل وغيرها من الامور التي اضافت ضغطا نفسيا كبيرا على شاب، دفعته روح الايثار الى ان يقوم بواجب اخلاقي كبير لينقذ انسانا مهددا بالموت .. ويبقى الانكى من كل هذا، الشتائم التي تلقاها من قبل الضابط المحقق، مسبوقة باهانات الشرطة، وهو ينقل مقيدا كالمجرم! ناهيك عن تهديدا ابناء عشيرة الرجل المصاب، التي واجهها وهو يعيش وضعا نفسيا تعيسا، حيث الم النفس يوازي الم الجسد وقسوة التوقيف لمدة اسبوع بين موقوفين لاتجمعه بهم اية لغة..

بعد اسبوع، افاق الرجل من غيبوبته واخبرهم بان هذا الشاب هو من انقذه من الموت، ليخلى سبيله .. لكن هل تتخلى عن ذاكرته تلك الايام العصيبة، والعبارات القاسية والاهانات التي تلقاها، قبل ان يعرف من قاموا بها الحقيقية، ويتأكدوا من انه يستحقها اولا؟

وحين طلب منه البعض اقامة دعوى لمقاضاة الذين تسببوا له بالمعاناة، رفض الشاب، وقال؛ هل اقيم دعوى على اهانات الشرطة ام على تهديد اهل المصاب ....؟!

في خضم الفوضى التي عشناها في السنين التي تلت الاحتلال، كثرت بعض الحوادث الاجرامية، التي يكون ضحاياها اناس تدفعهم مروءتهم الى اسعاف انسان، يرونه مرميا على الشارع ينازع الموت او يبدو كذلك، فيوقفوا سياراتهم بقصد نقله، ليقعوا في فخ المجرمين الذين وجدوا في هذه الاساليب الحقيرة، وسيلة للابتزاز والخطف وسرقة السيارات، وانتشر التحذير من الوقوع في شراك هؤلاء، ففقدنا، تحت هذا الاحساس المخيف، فضيلة المروءة التي يتحلى بها العراقيون، وبعد ان تحسنت الظروف الامنية نسبيا، عادت الناس الى مناقبها الرائعة، ومنهم هذا الشاب الذي قام بواجب اخلاقي، يستحق عليه التحية، لكن الغصة تبقى في رسوخ بعض القيم العشائرية المريضة، الدخيلة على اخلاق عشائزنا الاصيلة، وبعض الممارسات غير المهنية من قبل بعض المسؤولين، الذين يجب ان يكونوا قدوة في ترسيخ قيم الايثار في المجتمع، بدلا من الممارسات التي اشرنا اليها، وها نحن نضع هذه الواقعة امام المعنيين بالامر ... لان المروءة باتت في خطر حقيقي!.

..................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق