هل التظاهرات الاحتجاجية في المدن العراقية مجرد حركة آنية بدوافع خاصة؟ وهل الازمات الخانقة انتهت مع تخفيف الغليان الجماهيري؟ الصرخات المدوية من حناجر الجماهير الغاضبة موجهة الى المسؤول عن كل ما يعيشه العراق من ظواهر غريبة وعجيبة جعلته يتصدر القوائم في كثير من السلبيات الموجودة في دول العالم؛ من فساد اداري، وتراجع مستوى التعليم والخدمات، وفوضى سياسية، وحتى وضع البيئة. فهل وجدت هذه الجماهير الغاضبة المسؤول كي تحاججه وتدينه؟!..

هل التظاهرات الاحتجاجية في المدن العراقية مجرد حركة آنية بدوافع خاصة؟ وهل الازمات الخانقة انتهت مع تخفيف الغليان الجماهيري؟

الصرخات المدوية من حناجر الجماهير الغاضبة موجهة الى المسؤول عن كل ما يعيشه العراق من ظواهر غريبة وعجيبة جعلته يتصدر القوائم في كثير من السلبيات الموجودة في دول العالم؛ من فساد اداري، وتراجع مستوى التعليم والخدمات، وفوضى سياسية، وحتى وضع البيئة. فهل وجدت هذه الجماهير الغاضبة المسؤول كي تحاججه وتدينه؟!

ربما المسؤولون موجودون من حيث المسمّى الوظيفي، من أبسط موظف معني بالتعليم والصحة والخدمات والامن، الى أكبر موظف في الدولة، وهو؛ رئيس الوزراء، ومعه وزرائه، ومن خلفهم نواب البرلمان وكتلهم السياسية، بيد اننا لاحظنا أن جميع هؤلاء خيلوا للناس أنهم وسط الشارع، يحملون همومهم، من شحة مياه الشرب، والبطالة القاتلة، وأزمة الكهرباء العجيبة، وغيرها، ولذا تخبو فورة التظاهرات الجماهيرية دائماً طيلة السنوات الماضية، على وقع الوعود من دعاة "المسؤولية" في الدولة العراقية الحديثة، وبعض المسكنات للترضية وتطييب الخاطر، على شكل فتح ابواب التعيينات، وتخصيص ميزانية لهذه المدينة او تلك، كما لو ان الجماهير مدت يد الاستعطاء لتحصل على حفنة من الاموال وتذهب الى حال سبيلها، وربما تعود ثانية حال نفادها!

التعددية السياسية وتعدد المسؤولين عن الخلل

لا نبغي من وراء هذا العنوان البحث في مفهوم العبارة، إذ كتب الكثير من الاصدقاء عن دور التعددية السياسية في لجم الحالة الفردية الكامنة لدى البعض، وأن الاحزاب السياسية مراكز الابحاث والدراسات ودوائر الضغط من شأنها ضمان تحقيق تداول سلمي للسلطة بعيداً عن الانقلابات العسكرية والانزلاق نحو الديكتاتورية، بيد أن المهم بالنسبة لنا كتجربة ديمقراطية فتية في العراق، وبشكل أساس؛ وجود جهة أو شخص محدد يتحمل مسؤولية الخلل في أي قطاع او مؤسسة بالدولة حتى يُصار الى حلها بشكل او بآخر، وهذا ما نفتقده طيلة الخمسة عشر سنة الماضية، وما نزال، رغم ادعاءات الاحزاب السياسية الحاكمة أنها تمثل ضمير الشعب وتعبر عن طموحاته، إلا الوعي الجماهيري المتزايد فند هذه الادعاءات، فجاءت المطالبات الجماهيرية بإدانة أحزاب السلطة الفاشلة، وحملتها كامل المسؤولية عما جرى ويجري من ويلات وكوارث في هذا البلد، من هدر فضيع للثروة والقدرات الانسانية، ونهب منظم للأموال، ومحاصصة وتقاسم للامتيازات على حساب لقمة عيش الناس.

في السنوات الاولى من التجربة الديمقراطية بالعراق، تحدث السيد بيان جبر صولاغ، وأظنه كان وزيراً للداخلية، وهو فخوراً بهذه التجربة ومحاولاً بعث الأمل والارتياح في نفوس العراقيين بأن "الوزير المنتنمي الى جهة سياسية، إنما يحاكم أمام حزبه وجماعته قبل ان يحاكم تحت قبة البرلمان! فهو يواجه مصدرين للمسائلة والمتابعة...". هذا التصريح الخطير من على الشاشة الصغيرة، مر بهدوء على معظم الباحثين والمتابعين للتجربة الديمقراطية في العراق، ولم يتحدث أحد عن فلسفة هذه الديمقراطية وآليات تطبيقها على الواقع العراقي، وهل ان كلام الوزير العراقي، قراءة لهذه الفلسفة تمثل منهجاً على الجميع الالتزام به، أم انه رؤية خاصة؟

إن تجارب الزمن مع هذه الاحزاب السياسية في العراق أكد لنا الاحتمال الأول؛ فالقضية متفق عليها من جميع الاحزاب السياسية بمختلف اتجاهاتها وانتماءاتها، متفقون على قراءة موحدة لفلسفة الديمقراطية في العراق، فالسلطة التنفيذية بوزرائها ومع الرئيس طبعاً، إنما هم ظلال للسلطة الحقيقية المتمثلة بالاحزاب السياسية المتراضية بحصصها وامتيازاتها في الحكم، لذا شاع الحديث وبهدوء ايضاً، ودون أي اعتراض عن "الديمقراطية التوافقية" التي يسبق أن جربتها الدول الديمقراطية في العالم، إذ لابد من وجود حزب سياسي حاكم، الى جانب حزب سياسي معارض، وربما غاب عن قراء فلسفة الديمقراطية في العراق، أن الحزب المعارض يحظى بفرصة الاقتراب الى الشارع والى عامة الناس اكثر من الحزب الحاكم المنشغل بأمور الحكم والعمل لتنفيذ وعوده الانتخابية.

الانتخابات بهدف الوصول الى السلطة

المسافة البعيدة بين آمال الناس خلال مشاركتهم بالانتخابات المحلية والبرلمانية، وبين ما يدور في أدمغة المرشحين من غايات وطموحات، تمثل عمق المأساة فيما يسمى بـ "العملية السياسية" في العراق، خلقت أزمة الثقة بين المواطن والمسؤول الحكومي، ومن ثمّ الكراهية الشديدة.

واذا اردنا تحقيق النجاح في هذه العملية السياسية، يجدر بنا إلقاء نظرة على تجارب الآخرين، وكيف ان الاحزاب السياسية "لعبت دوراً مزدوجاً في التمثيل السياسي، فهي تؤهل أولاً؛ الناخبين –المرشحين- ، ثم تؤهل المنتخبين"، وهذا التأهيل او التأطير كما يعبر عنه الباحث السياسي الفرنسي الشهير؛ موريس دوفرجيه في كتابه "المؤسسات السياسية والقانون الدستوري"، يتفرع الى جهتين؛ الاول: "تطور الوعي ا لسياسي للمواطنين وتسمح بتعبير اكثر وضوحاً عن الخيارات السياسية، والثاني: تعمل على اختيار المرشحين الذين تجري بينهم النافسة الانتخابية".

ان الوعي السياسي الذي نتحدث عنه دائماً الهدف منه "معرفة الناخبين بشكل واضح السياسة التي يرغبونها، والتي تحدد التفويض الذي يوكلونه الى ممثليهم"، ويشير الباحث والعالم في السياسة، الى محذور التلقين وتصدير الافكار الجاهزة وفرض الايدلوجيا على الجماهير، بيد انه يوضح لنا بان "أية ايدلوجيا، ولا أي حزب، لا ينجح إن لم يعبر عن المشاعر، والطموحات، والافكار الكامنة لدى فئة من المواطنين. دون شك، يطور الحزب ايضاً هذه المشاعر، والطموحات،ويعطيها قوة وثباتاً اكثر، لكنها موجودة دونه، واذا كفت ايديولوجيا الحزب عن الاستجابة لما يرغب ويفكر به الرأي العام، فانه يفقد تأثيره تدريجياً".

وحتى تصل احزابنا السياسية الى هذه الدرجة من النضج والمستوى الراقي من العلاقة فيما بينها وبين الجماهير، يجدر بها الانسحاب عن قمة الحكم والتخلّي عن هذا التزاحم المرير على بقعة صغيرة هي قمة هرم تشهد يومياً صراعاً على البقاء، كما لو اننا امام مشاهد جديدة من "عالم البقاء"! في أعماق البحار او في الادغال!

ان الوقت مفتوح والفرص متاحة امام الاحزاب السياسية في العراق لأن تعيد النظر في منهجيتها السياسية والتنظيمية وأن تكون المرآة للتجربة الديمقراطية، وليس للديكتاتورية والفساد والفشل، وأن تكف عن ممارسة دور الحكومة، ومثال ذلك؛ التعيين في دوائر الدولة، فأين حصل في العالم أن يكون من شأن نائب في البرلمان تعيين مواطن في دائرة حكومية؟ فما هو شأن الوزير والمدراء العامين والمؤسسات المعنية بالأمر؟ وما فائدة التخصصات العلمية التي ترهق الجامعات والمعاهد لتخريج الطالب وهو يحمل شهادته الاكاديمية التي بذل جهوداً مضنية للحصول عليها؟

وأمام هذه الاحزاب طريقين لا ثالث لهما لإنهاء الازمات في العراق، وإراحة الشعب من دوامة الازمات والمشاكل؛ إما الرضوخ التخلّي عن بدعة الديمقراطية التوافقية، والقبول بوجود حزب معارض الى جانب حزب حاكم، أو الذهاب الى النظام الرئاسي من خلال طرحه على الاستفتاء العام، والنظر فيما يراه الشعب العراقي، وحينها سيتحمل هو مسؤولية قراره، ثم يحمّل هذه المسؤولية على عاتق شخص معين يراه كفوءاً وقادراً على قيادة البلد، وحينها يمكن الحديث بثقة ومصداقية عن "إرادة الناخبين" و "حق تقرير المصير".

اضف تعليق